عماد البليك ---------خرائط الشخصية
خرائط الشخصية من أغرب الأمور التي يعجز العقل أحيانا بل في أغلب الأحيان على الإمساك بها، أي الشخصية كمدلول وكقيمة وكنتاج لتاريخ طويل وتراث ومتراكمات عبر الأزمنة، وكظل وفراغ. الظل الذي يعني الانسياق لكل التجليات التي يفرضها الراهن سواء كانت سخية باذخة الجمال أو قاسية وملوعة، والفراغ كشيء أو حاجة تبحث عن الامتلاء والانزياح للواقعي بإعتبار أن الواقعية هي التعبئة المفتقدة للحيز هي السكون اللحظي والرغبات البائدة بسبيل أن يكون الإنسان هو، حتى لو أن ذلك كان عهدا كاذبا مع الذات.
تتلون الشخصية بتلون الأمكنة والأزمنة وتساق على هيئات التاريخ المفتعل والمرتجل ومرات تكون غريبة ليس لها من ارتباط بالحيز، حتى يكون السؤال من أين جاء هؤلاء؟ كما سبق أن طرحه الأديب الطيب صالح قبل أكثر من عشرين سنة وهو يتكلم عن تحولات الشخصية السودانية في بداية تبلورها أو بذرة "العهد الكاذب"، كان الطيب يقدم استدلالا من خلال مراجعة تضاريس تقليدية للإنسان السوداني في علاقته بالأمكنة، تلك العلاقة التي يحتفل بها ويحملها معه أين ما مشى وما سافر، لأن المكان حيز يشغلنا وليس حيزا نشغله، هو المخيلة والذاكرة والذكريات والهموم التي لا تفتأ تقلق المضاجع والمنامات وترهق الذات بالأحلام الشريرة في أغلب الأحيان، ساعة يكون للتراب أن يكون قدرا، فأنت مصاغ من فيزيائيه ومن لون أشجاره ومن غبار خريفيه المداري ومن وهج شمسه ظهيرته الحارقة ومن دعاش خفيف ينطلق في الصباحات الباكرة ليعلم الذات التنفس الصحي، يقف المرء ساعتها ليتذكر مع حنين جارف أين كان وأين أصبح؟
لكن عقدين وأكثر من الزمان، بدلت الشخصية ولم يعد المكان القديم محمولا كما ذي قبل، هل احترقت خواص ذلك المكان/الأمل وتم إبدالها بالأوجاع المستمرة والآمال بانتظار فرج قريب، إذ تتسلح الذات/الشخصية بالمجازات الميثولوجية التي لم تتحرر منها في الكيمياء العميقة ويكون لها أن تعلن بصراحة مروعة مع النفس أنها يجب أن تنتظر، تتعلق بفيض الغيب والولاءات الكلاسيكية التي لم تجد الفرصة لكي تواجهها بقوة وتزيحها لأجل عالم جديد يجب عليها أن تدخله بشجاعة وتفر من جحيم الأرض الجديدة واللاعنة لكل أطياف الحب والسلام.
أصبح تعريف تلك الذات صعبا وعسيرا، لأنها أبدلت بل تم إحلالها بخواص أخرى ليست لها من قبل، وربما هي الأشواك ساكنة في عمق الطين خرجت الآن لتضرس الواقع وتشير إلى الحقائق القاتلة، إلى الهوية التي لم يكن سهلا القبض عليها ذات يوم، إلى كل الأشياء التي كان الناس يحلمون بها ثم تراجعوا باسم المجموع وباسم المجتمع وباسم الدولة، باسم التقدم وباسم الفضيلة وباسم صياغة عهد جديد لوطن "حدادي مدادي".. "بنحلم بيه يوماتي".
سقطت الشعارات المستلة من الحلم والأمل، وتم إبدالها بالفجيعة والظنون ومرثيات الغضب الإلهي، حتى ليحار المرء عن حجم الخطيئة التي حلت وأين مكمن الخطأ ولماذا هذا العقاب الطويل، لماذا يحكم على هذه البشر أن تشرد بعيدا عن ديارها ولماذا يشردون في أوطانهم، حتى يصادرون من حق ملامسة التراب وهم موتى بدعاوي باطلة يطلقها عابري الأقدار التائهة من صناع الزمن الأرضي الجديد، زمن السؤال المعلق إلى اليوم.
تأتي المصائب من الأرض في حين تولد البشائر في السماء، وما زال هؤلاء الملايين ينتظرون تلك البشارة التي سوف تغسل الأرض وتلونها بالأفراح، ساعة يكون للحر أن يمشي تيها وبدلال في الأرض التي يفخر بها دون أن يدنسه قول ولا غضب جنوني من قلب خرب ومن لسان لم يتمرن على القول الحسن. إنها طواغيت الأزمنة التي تصوغها الظنون والآهات لتسكن الكائنات على هيئة نزعات فاترة غير قادرة على المضي إلى هدف محدد بعينه ليكون الرجاء والانتشال من الأوجاع ومن الأمطار الغزيرة التي تهدم ولا تبني ساعة تحل اللعنة محل الوداعة ويكون للمرء أن يلهج بالدعاء دون جواب.
هل تلك الشخصية قد فقدت خواصها، أين هؤلاء المساكين والدراويش في الليل وهم يمدحون النبي حبا مموسقا، "المصطفى مني ليك سلام".. وأين طاقة الحب التي كانت تبني البيوت وتحمل التكايا وتؤكل اليتامي وتدل الحائرين في دروب العتامير حتى لا يتوهوا مرة أخرى. أين تلك الليالي التي كان فيها القمر مزينا بالأحلام وبقصص الجدات وبأشكال يتخيلها الأطفال، مرة يرون فيه قطعة خبز ساخنة يكادون يتلمسونها للتو، ومرة صورة ذلك الشيخ العابد لله وهو يقرأ في كتاب الله "ورتل القران ترتيلا".
فمن يرتل لهذا الوطن قرانه؟ ومن يرتب لهذا البلاد حبا جارفا يعيد تركيب النوايا ويصنع قانونا جديدا للإنسان الجميل الذي كان، ومن يوحد القلوب ويرسم في العقول ذكاء نادرا. وقديما قال الطيب صالح كذلك إننا أذكياء لكننا نفتقد للحكمة. وما زلنا كذلك. فمن أين تأتي الحكمة والعقل معطل إلا عن ترسبات الأمس التي أثقلها الحاضر وغطاها تماما. يصبح العمل صعبا على محو الاغتيال في الذهن، لأن ثمة طبقات عديدة تركبت فوق بعضها البعض، يحتاج ذلك لاشتغال كبير وعميق ومحبة وإرادة وقبل ذلك قدرة على محو القلق الذي رسبته السنوات الطويلة، وفي الوقت الذي يمضي في العالم نحو مطافاته الحديثة يكون لنا أن نتساءل أين نحن بالضبط؟ لماذا تبدلت هذه المساحات التي كانت كانت لينة وهادئة وقادرة على الذوبان في ثنايا الوجود بفكرة أو أصالة أو قدرة على بلورة الذات. حتى أن الإنسان مرات ليحار حول الحقيقة والخيال، ما الفارق.. أين هي حقيقة تلك الذات، هذه الشخصية التي أصبحت محل سؤال متجدد في تلافيف الغيب المثير من التشابك الغريب للتاريخ والوقائع الراهنة. كيف يمكن الفصل بين الشخصية في معتركات وجودها وحلمها وواقعها، وبين صورتها المأمولة في الزمن المقبل؟ وهل يمكن لذلك الأمل أن يكون واقعا أم أن مجرد التفكير فيه يصبح خصلة تنسب للمجانين وغير المنتبهين للعالم في صيرورته اليومية.
ويظل الاستفهام حول الخرائط التي تشكل الشخصية لغزا كونيا، لا يمكن حله بجرة قلم أو فكرة عابرة، يصبح ذلك الغموض الأزلي الذي يتجلى في كل بلد وكل مجتمع بصورة مختلفة، يفرض شكله وأوهامه وتخيلاته، متحديا العلم والفلسفة والحكمة، لا يستجيب لغير المعاش واليومي ولانسياق الذات باتجاه الأنا الكاذبة والغرور الأجوف، ليكون الشيطان هو المتجلي والشامخ في مقابل تخفي الملاك الذي يسكن الكائن. هنا يكون للانشطار الذي حدث أن يقلق كثيرا، ويصعب عندها لملمة الأشلاء.
تتلون الشخصية بتلون الأمكنة والأزمنة وتساق على هيئات التاريخ المفتعل والمرتجل ومرات تكون غريبة ليس لها من ارتباط بالحيز، حتى يكون السؤال من أين جاء هؤلاء؟ كما سبق أن طرحه الأديب الطيب صالح قبل أكثر من عشرين سنة وهو يتكلم عن تحولات الشخصية السودانية في بداية تبلورها أو بذرة "العهد الكاذب"، كان الطيب يقدم استدلالا من خلال مراجعة تضاريس تقليدية للإنسان السوداني في علاقته بالأمكنة، تلك العلاقة التي يحتفل بها ويحملها معه أين ما مشى وما سافر، لأن المكان حيز يشغلنا وليس حيزا نشغله، هو المخيلة والذاكرة والذكريات والهموم التي لا تفتأ تقلق المضاجع والمنامات وترهق الذات بالأحلام الشريرة في أغلب الأحيان، ساعة يكون للتراب أن يكون قدرا، فأنت مصاغ من فيزيائيه ومن لون أشجاره ومن غبار خريفيه المداري ومن وهج شمسه ظهيرته الحارقة ومن دعاش خفيف ينطلق في الصباحات الباكرة ليعلم الذات التنفس الصحي، يقف المرء ساعتها ليتذكر مع حنين جارف أين كان وأين أصبح؟
لكن عقدين وأكثر من الزمان، بدلت الشخصية ولم يعد المكان القديم محمولا كما ذي قبل، هل احترقت خواص ذلك المكان/الأمل وتم إبدالها بالأوجاع المستمرة والآمال بانتظار فرج قريب، إذ تتسلح الذات/الشخصية بالمجازات الميثولوجية التي لم تتحرر منها في الكيمياء العميقة ويكون لها أن تعلن بصراحة مروعة مع النفس أنها يجب أن تنتظر، تتعلق بفيض الغيب والولاءات الكلاسيكية التي لم تجد الفرصة لكي تواجهها بقوة وتزيحها لأجل عالم جديد يجب عليها أن تدخله بشجاعة وتفر من جحيم الأرض الجديدة واللاعنة لكل أطياف الحب والسلام.
أصبح تعريف تلك الذات صعبا وعسيرا، لأنها أبدلت بل تم إحلالها بخواص أخرى ليست لها من قبل، وربما هي الأشواك ساكنة في عمق الطين خرجت الآن لتضرس الواقع وتشير إلى الحقائق القاتلة، إلى الهوية التي لم يكن سهلا القبض عليها ذات يوم، إلى كل الأشياء التي كان الناس يحلمون بها ثم تراجعوا باسم المجموع وباسم المجتمع وباسم الدولة، باسم التقدم وباسم الفضيلة وباسم صياغة عهد جديد لوطن "حدادي مدادي".. "بنحلم بيه يوماتي".
سقطت الشعارات المستلة من الحلم والأمل، وتم إبدالها بالفجيعة والظنون ومرثيات الغضب الإلهي، حتى ليحار المرء عن حجم الخطيئة التي حلت وأين مكمن الخطأ ولماذا هذا العقاب الطويل، لماذا يحكم على هذه البشر أن تشرد بعيدا عن ديارها ولماذا يشردون في أوطانهم، حتى يصادرون من حق ملامسة التراب وهم موتى بدعاوي باطلة يطلقها عابري الأقدار التائهة من صناع الزمن الأرضي الجديد، زمن السؤال المعلق إلى اليوم.
تأتي المصائب من الأرض في حين تولد البشائر في السماء، وما زال هؤلاء الملايين ينتظرون تلك البشارة التي سوف تغسل الأرض وتلونها بالأفراح، ساعة يكون للحر أن يمشي تيها وبدلال في الأرض التي يفخر بها دون أن يدنسه قول ولا غضب جنوني من قلب خرب ومن لسان لم يتمرن على القول الحسن. إنها طواغيت الأزمنة التي تصوغها الظنون والآهات لتسكن الكائنات على هيئة نزعات فاترة غير قادرة على المضي إلى هدف محدد بعينه ليكون الرجاء والانتشال من الأوجاع ومن الأمطار الغزيرة التي تهدم ولا تبني ساعة تحل اللعنة محل الوداعة ويكون للمرء أن يلهج بالدعاء دون جواب.
هل تلك الشخصية قد فقدت خواصها، أين هؤلاء المساكين والدراويش في الليل وهم يمدحون النبي حبا مموسقا، "المصطفى مني ليك سلام".. وأين طاقة الحب التي كانت تبني البيوت وتحمل التكايا وتؤكل اليتامي وتدل الحائرين في دروب العتامير حتى لا يتوهوا مرة أخرى. أين تلك الليالي التي كان فيها القمر مزينا بالأحلام وبقصص الجدات وبأشكال يتخيلها الأطفال، مرة يرون فيه قطعة خبز ساخنة يكادون يتلمسونها للتو، ومرة صورة ذلك الشيخ العابد لله وهو يقرأ في كتاب الله "ورتل القران ترتيلا".
فمن يرتل لهذا الوطن قرانه؟ ومن يرتب لهذا البلاد حبا جارفا يعيد تركيب النوايا ويصنع قانونا جديدا للإنسان الجميل الذي كان، ومن يوحد القلوب ويرسم في العقول ذكاء نادرا. وقديما قال الطيب صالح كذلك إننا أذكياء لكننا نفتقد للحكمة. وما زلنا كذلك. فمن أين تأتي الحكمة والعقل معطل إلا عن ترسبات الأمس التي أثقلها الحاضر وغطاها تماما. يصبح العمل صعبا على محو الاغتيال في الذهن، لأن ثمة طبقات عديدة تركبت فوق بعضها البعض، يحتاج ذلك لاشتغال كبير وعميق ومحبة وإرادة وقبل ذلك قدرة على محو القلق الذي رسبته السنوات الطويلة، وفي الوقت الذي يمضي في العالم نحو مطافاته الحديثة يكون لنا أن نتساءل أين نحن بالضبط؟ لماذا تبدلت هذه المساحات التي كانت كانت لينة وهادئة وقادرة على الذوبان في ثنايا الوجود بفكرة أو أصالة أو قدرة على بلورة الذات. حتى أن الإنسان مرات ليحار حول الحقيقة والخيال، ما الفارق.. أين هي حقيقة تلك الذات، هذه الشخصية التي أصبحت محل سؤال متجدد في تلافيف الغيب المثير من التشابك الغريب للتاريخ والوقائع الراهنة. كيف يمكن الفصل بين الشخصية في معتركات وجودها وحلمها وواقعها، وبين صورتها المأمولة في الزمن المقبل؟ وهل يمكن لذلك الأمل أن يكون واقعا أم أن مجرد التفكير فيه يصبح خصلة تنسب للمجانين وغير المنتبهين للعالم في صيرورته اليومية.
ويظل الاستفهام حول الخرائط التي تشكل الشخصية لغزا كونيا، لا يمكن حله بجرة قلم أو فكرة عابرة، يصبح ذلك الغموض الأزلي الذي يتجلى في كل بلد وكل مجتمع بصورة مختلفة، يفرض شكله وأوهامه وتخيلاته، متحديا العلم والفلسفة والحكمة، لا يستجيب لغير المعاش واليومي ولانسياق الذات باتجاه الأنا الكاذبة والغرور الأجوف، ليكون الشيطان هو المتجلي والشامخ في مقابل تخفي الملاك الذي يسكن الكائن. هنا يكون للانشطار الذي حدث أن يقلق كثيرا، ويصعب عندها لملمة الأشلاء.
Comments
Post a Comment