عماد البليك ----------دعوة لاكتشاف البعد الثالث في الثقافة السودانية
السودان بلد زاخر بملامح التصوف البسيط والإنساني، تكاد تجد هذا الشيء وقد انعكس حتى على تكوين الشخصية السودانية، ربما عملت رياح الزمن الجديد على تغيير بعض القيم أو الكثير منها، غير أن الملامح تبقى واضحة وجلية حتى لدى الأجيال الجديدة. السمات نفسها البساطة، الرغبة في مساعدة الآخرين، النخوة. قد تكون الظروف الاقتصادية والمعاش ضاغط، والأوضاع السياسية مربكة وغير جيدة بتاتا، وقد يطغى على الناس السوء في بعض الأحيان، لكن الملمح الأوضح سيظل مدفونا في كل ذات إذا وجد من يخرجه، ذلك التاريخ الذي انغرس عبر سنوات طويلة من الأمل. والذي ينبغي ألا نسمح له بأن يموت. وليست هذه نوستالجيا وإنما هي فكرة تعبر عن أصالة يجب الاعتزاز بها وأخذها وتهذيبها لكي يكون لنا نفي ما عكرته السنين وجعلته غير صالح بأن ننفض الغبار عن القيح ليكون لنا تلامس المفاصل الرائعة والجميلة في قيمنا السمحة. حيث تبقى القيم مثل البذرة في باطن الأرض، حتى لو غاب المطر انتهت المغامرة بعدم نضوج الثمر، إلا أنه سوف يأتي زمان لتكون تلك البذرة قادرة على خلق الخير ونشره والنهوض من جديد وبقوة.
في رمضان تتجلى كثير من هذه المعاني، يبدو ذلك شاخصا وماثلا حتى رغم تبدل الأزمنة، يكون للناس أن تتسلح بالإنسانية والتقاليد الباذخة الجمال، ويحاولون رغم ضيق الحال واليد أن يصنعوا البهجة على الأقل لأنفسهم، لأنه أحيانا فإن سعادتك من سعادة الآخرين والعكس صحيح، فالمفهوم الرمضاني في حد ذاته صيغ على هذا المعنى الذي يشير إلى تكاملية الذات والآخر في فقه الصيام، بالنزوح إلى بناء الإنسان الذي يرى العالم من خلال منظور ما يعانيه وما يشعر به. قد لا يكون هذا الكلام عميقا بالدرجة الكافية لكنه يؤثر في الناس بشكل عام، وربما ثمة عامل خفي وغير مرئي يسطع بالسحر في هذا الشهر ليهب النفوس الجماليات المفتقدة في شهور أخرى. وهذا لا يعني وجود حالات شاذة واستنكارات يمكن أن تجعلك تشك في كل شيء، وهذا طبيعي بل دلالة عافية فالكون لا يقوم على التوافق التام، لابد من شوك وسط الورد كما يقال، ولابد من جراح تطل وسط الأفراح، فالحياة ليست بساطا مفروشا بالسهل بل هي سلسلة المغامرات التي تأتي وسط الآمال الجارفة والمستمرة والتحدي بأن يكون الإنسان في أفضل حال لو رغب. وحتى لو أنه لم يحقق الرجاء فسوف يقترب على الأقل من معادلة الراحة النفسية التي يشعر بها ليقول للوجود إنني هنا أشعر بكياني وكينونتي وحقيقتي. ورمضان يهب الكثير من الناس هذا الإحساس يجعلهم يشعرون بأنهم هنا في دواخلهم الحقة، يقومون بالمراجعات الذكية للأرواح والنفوس ويتأملون في حقائق العالم المنسية أو المتوارية وفي سرديات الزمن الأول، يصورون كفاح أجيال وراء أجيال في تاريخ يتطلب الكثير من التعايش معه من خلال النظرة الإيجابية والاستجابة لنداء العناصر السمحة لا المنغضات والظنون السيئة، فداخل كل فكرة وداخل كل تاريخ يوجد الحسن والسيء، والعاقل من يأخذ بالرجاءات الطيبة ويرفض ما سواها من يتمسك بالأمل ويرفض التقاعس والخناعة والتراجع للوراء بظن أن الخديعة باقية لا يمكن أن تبارح الزمان أو المكان.
في كيمياء التعبد وفي فلسفة الدين العميقة ثمة معان لا يلتفت إليها إلا المتصوفة والدراويش، كان القوس يعتقد بذلك وهو ذلك الرجل الذي يشابه ربما "الحنين" في رواية الطيب صالح، وهي مناسبة للتعرف على "عرس الزين" وكأن الصبي كان قد قرأها في شهر رمضان، فهي رواية رمضان بإمتياز، حيث تتجلى فيها معان البعد الثالث في الثقافة السودانية، ليس هو البدن ولا الروح.. شيء غامض لا يمكن الإمساك به، إنه البعد الأكثر قوة ومتانة الذي يتطلب منا رد الاعتبار له لكي نبني منه حياة جديدة ونبتكر هوية أسمى. الحقيقة المتعالية في الذات التي تؤمن بالتكامل والتعايش الإنساني السمح والتحرر من الغوص في الأشكال والهيئات إلى ما وراءها من المعاني الغامضة والأسرار، أي النزوح نحو الاكتشاف واللطف والبصيرة. فلهذه التفاصيل رونقها الذي لا يحسه إلا أناس أمثال "القوس" الذي عاش بسيطا ومات هكذا بلا ضجيج، ولم يكن له من معيل ولا مصدر رزق وربما لم يعرف من يكون أهله، رغم أن الناس يعرفون لكنه لا يهتم بكل ذلك يهتم بأن يعيش الحياة على علاته الذاتية التي يبتكر فيها الهوية المسلوبة وحفيف العالم المنسي، يجدد للذات وصالها واشتياقها للعوالم الأخرى التي هي أشواق وتجل لا يمكن تحديده إلا بدهشة كبيرة ترتسم من خلال العبادة في معانها الأجل، الذي لا يمكن الوصول إليه بمجرد الطقوس وتكرار الفعل الروتيني.
كانت حقيقة القوس كحقيقة الحنين والزين، نماذج متكررة في المجتمع، أناس يهبهم الله الذكاء الفطري والجمال الوجداني ويشع من وجوههم النور. تشعر معهم بالدفء والتشبع الروحي وتود لو أنك تخلق مثلهم بسيطا ليس لك من مطاردة لعنف الحياة ولا الظنون الكاسدة وتتمنى لو أنك تنام لتستيقظ وأنت كائن جديد مغسول من فساد العالم وصراعات البشر بأن تكون أنت، أنت.. مجردا من الكبرياء والزيف والغلواء. لا تكبر ولا أنفة ولا إعوجاج. إن حقيقة الإنسان أبسط من كل ذلك، لكن الإنسان يتجبر ويتكبر ويخرج عن طوره الطفولي البسيط ومعادلته الخالصة ليدخل في عجرفة الشيطنة، وينسى أنه كان ذلك المتمرد الصغير اللذيذ، ذلك الطفل الذكي وببساطة دون تكلف أو رهق أو مكبرات صوت يهزها ليعلن أنه أنا. ولمثل هذه المعاني المفقودة يكون البحث بأن تقترب الذات من خلاصتها المنهوبة ومن وجعها الذي يمكن السيطرة عليه، هويتها الأساسية والمركزية لا أي شيء آخر يجعلها بالية وكاسدة. وهذا الشكل البسيط من الفلسفة والمعنى هو موجود بتمازجه الساحر ما بين ثقافات السودان المختلفة ما بين طقوس قديمة جدا منها الوثني، تعود إلى عصور ما قبل الميلاد عبورا بالديانة المسيحية فالإسلام، كل ذلك يتمازج في لوحة الحضور الآني التي تقرب الروح من إدراك الكينونة دون انبهار بالمعاني المستلبة من ثقافة أخرى أو جنون تجريبي يفعله أي بشر كانوا. إن سمة البشر هي البحث عن الجديد، لكن الجدة لا تكون دون جذور وهدف وغاية، دون الالتجاء للقوس والزين والحنين. ودون أن نراجع الأنفس بروية متأملين في الأعماق القصية، فداخل كل منا يسكن تاريخ أمة ينحدر إلى مسافة بعيدة في الماضي، يمكنه أن يرى ذلك لو أنه درّب نفسه جيدا وثمة فرصة مواتية الآن في هذا الشهر. يفكر الصبي وهو يتأمل القوس مغادرا مع أغراضه في لفافة قماش يحتويها، سابلا إلى عالم آخر في فضاء مفتوح لكافة التوقعات.
في رمضان تتجلى كثير من هذه المعاني، يبدو ذلك شاخصا وماثلا حتى رغم تبدل الأزمنة، يكون للناس أن تتسلح بالإنسانية والتقاليد الباذخة الجمال، ويحاولون رغم ضيق الحال واليد أن يصنعوا البهجة على الأقل لأنفسهم، لأنه أحيانا فإن سعادتك من سعادة الآخرين والعكس صحيح، فالمفهوم الرمضاني في حد ذاته صيغ على هذا المعنى الذي يشير إلى تكاملية الذات والآخر في فقه الصيام، بالنزوح إلى بناء الإنسان الذي يرى العالم من خلال منظور ما يعانيه وما يشعر به. قد لا يكون هذا الكلام عميقا بالدرجة الكافية لكنه يؤثر في الناس بشكل عام، وربما ثمة عامل خفي وغير مرئي يسطع بالسحر في هذا الشهر ليهب النفوس الجماليات المفتقدة في شهور أخرى. وهذا لا يعني وجود حالات شاذة واستنكارات يمكن أن تجعلك تشك في كل شيء، وهذا طبيعي بل دلالة عافية فالكون لا يقوم على التوافق التام، لابد من شوك وسط الورد كما يقال، ولابد من جراح تطل وسط الأفراح، فالحياة ليست بساطا مفروشا بالسهل بل هي سلسلة المغامرات التي تأتي وسط الآمال الجارفة والمستمرة والتحدي بأن يكون الإنسان في أفضل حال لو رغب. وحتى لو أنه لم يحقق الرجاء فسوف يقترب على الأقل من معادلة الراحة النفسية التي يشعر بها ليقول للوجود إنني هنا أشعر بكياني وكينونتي وحقيقتي. ورمضان يهب الكثير من الناس هذا الإحساس يجعلهم يشعرون بأنهم هنا في دواخلهم الحقة، يقومون بالمراجعات الذكية للأرواح والنفوس ويتأملون في حقائق العالم المنسية أو المتوارية وفي سرديات الزمن الأول، يصورون كفاح أجيال وراء أجيال في تاريخ يتطلب الكثير من التعايش معه من خلال النظرة الإيجابية والاستجابة لنداء العناصر السمحة لا المنغضات والظنون السيئة، فداخل كل فكرة وداخل كل تاريخ يوجد الحسن والسيء، والعاقل من يأخذ بالرجاءات الطيبة ويرفض ما سواها من يتمسك بالأمل ويرفض التقاعس والخناعة والتراجع للوراء بظن أن الخديعة باقية لا يمكن أن تبارح الزمان أو المكان.
في كيمياء التعبد وفي فلسفة الدين العميقة ثمة معان لا يلتفت إليها إلا المتصوفة والدراويش، كان القوس يعتقد بذلك وهو ذلك الرجل الذي يشابه ربما "الحنين" في رواية الطيب صالح، وهي مناسبة للتعرف على "عرس الزين" وكأن الصبي كان قد قرأها في شهر رمضان، فهي رواية رمضان بإمتياز، حيث تتجلى فيها معان البعد الثالث في الثقافة السودانية، ليس هو البدن ولا الروح.. شيء غامض لا يمكن الإمساك به، إنه البعد الأكثر قوة ومتانة الذي يتطلب منا رد الاعتبار له لكي نبني منه حياة جديدة ونبتكر هوية أسمى. الحقيقة المتعالية في الذات التي تؤمن بالتكامل والتعايش الإنساني السمح والتحرر من الغوص في الأشكال والهيئات إلى ما وراءها من المعاني الغامضة والأسرار، أي النزوح نحو الاكتشاف واللطف والبصيرة. فلهذه التفاصيل رونقها الذي لا يحسه إلا أناس أمثال "القوس" الذي عاش بسيطا ومات هكذا بلا ضجيج، ولم يكن له من معيل ولا مصدر رزق وربما لم يعرف من يكون أهله، رغم أن الناس يعرفون لكنه لا يهتم بكل ذلك يهتم بأن يعيش الحياة على علاته الذاتية التي يبتكر فيها الهوية المسلوبة وحفيف العالم المنسي، يجدد للذات وصالها واشتياقها للعوالم الأخرى التي هي أشواق وتجل لا يمكن تحديده إلا بدهشة كبيرة ترتسم من خلال العبادة في معانها الأجل، الذي لا يمكن الوصول إليه بمجرد الطقوس وتكرار الفعل الروتيني.
كانت حقيقة القوس كحقيقة الحنين والزين، نماذج متكررة في المجتمع، أناس يهبهم الله الذكاء الفطري والجمال الوجداني ويشع من وجوههم النور. تشعر معهم بالدفء والتشبع الروحي وتود لو أنك تخلق مثلهم بسيطا ليس لك من مطاردة لعنف الحياة ولا الظنون الكاسدة وتتمنى لو أنك تنام لتستيقظ وأنت كائن جديد مغسول من فساد العالم وصراعات البشر بأن تكون أنت، أنت.. مجردا من الكبرياء والزيف والغلواء. لا تكبر ولا أنفة ولا إعوجاج. إن حقيقة الإنسان أبسط من كل ذلك، لكن الإنسان يتجبر ويتكبر ويخرج عن طوره الطفولي البسيط ومعادلته الخالصة ليدخل في عجرفة الشيطنة، وينسى أنه كان ذلك المتمرد الصغير اللذيذ، ذلك الطفل الذكي وببساطة دون تكلف أو رهق أو مكبرات صوت يهزها ليعلن أنه أنا. ولمثل هذه المعاني المفقودة يكون البحث بأن تقترب الذات من خلاصتها المنهوبة ومن وجعها الذي يمكن السيطرة عليه، هويتها الأساسية والمركزية لا أي شيء آخر يجعلها بالية وكاسدة. وهذا الشكل البسيط من الفلسفة والمعنى هو موجود بتمازجه الساحر ما بين ثقافات السودان المختلفة ما بين طقوس قديمة جدا منها الوثني، تعود إلى عصور ما قبل الميلاد عبورا بالديانة المسيحية فالإسلام، كل ذلك يتمازج في لوحة الحضور الآني التي تقرب الروح من إدراك الكينونة دون انبهار بالمعاني المستلبة من ثقافة أخرى أو جنون تجريبي يفعله أي بشر كانوا. إن سمة البشر هي البحث عن الجديد، لكن الجدة لا تكون دون جذور وهدف وغاية، دون الالتجاء للقوس والزين والحنين. ودون أن نراجع الأنفس بروية متأملين في الأعماق القصية، فداخل كل منا يسكن تاريخ أمة ينحدر إلى مسافة بعيدة في الماضي، يمكنه أن يرى ذلك لو أنه درّب نفسه جيدا وثمة فرصة مواتية الآن في هذا الشهر. يفكر الصبي وهو يتأمل القوس مغادرا مع أغراضه في لفافة قماش يحتويها، سابلا إلى عالم آخر في فضاء مفتوح لكافة التوقعات.
المقال جزء من مشروع لإعادة قراءة تاريخ الثقافة السودانية
Comments
Post a Comment