عماد البليك -------الميتاسياسة بدلا عن السياسة
يمكن النظر إلى الواقع السياسي اليوم في السودان على أنه مترهل وقديم وبال، ليس له القدرة على صياغة قواعد وأسس جديدة لدفع الحياة الإنسانية في البلد، وبالتالي هو واقع لا يقدم حلولا بل يعمق من الأزمات ويجعلها عميقة بحيث تتحول إلى جراح آثنة وغارقة الصعوبة من حيث التجريب والآليات التي يمكن أن تقربنا من الحل. وإشكال الواقع السياسي السوداني ببساطة أنه شكلاني، براني، لا يقوم على معرفة ولا فكر إنما على المغامرات غير المحسوبة، أي الألعاب الدونكوشتية التي يسعى إليها وينهض بها أناس غير عارفين في المقام الأول، همهم لا يتعلق بالفكر السياسي وحفزه ليكون عاملا في التغيير الاجتماعي والحياة ككل، بقدر ما يعملون على الوسائل الكلاسيكية في الوعي والقراءة والتجريب. والأبعد من ذلك أن هذه القراءة أساسا لا تتم وليس لها من وجود أصلا، لأن القارئ هو إنسان يمكن له أن يحدث فعل التغيير والانتقال بحيث يشكل واقعا جديدا بالفعل. لأن السياسي العارف والمثقف يجد نفسه أمام مساءلة دائما تستثني الواقع بشكله وغلافه المدرك في سبيل واقع جديد ومختلف، لهذا يكون لهذا المفكر السياسي أثره على الوقائع المتنوعة في قطاعات الحياة ويكون إيجابيا في الرفد والتحولات وفيزياء التغيير وليس كائنا استاتيكيا لا يخدم بأي درجة كانت في آفاق المستقبل والحياة المنشودة.
إن السياسي بهذا الوضع الراهن لا يمكنه أن يساهم في حل الأزمات، بل يعمقها ويجعلها أكثر تعقيدا، لأن الحل دائما يرتبط بالوسائل، أي الطرق التي نسلكها لكي نصل إلى نقطة جديدة من الأمل والرجاء، وهذا غائب في الوعي الجمعي السياسي، فالصورة الغالبة أن فعل السياسة في السودان وممارستها ومنذ فترات بعيدة ارتبطت إما بالطوباوية الغارقة في استلاف الحلول من أزمنة أخرى أو عقائد مصدرها الغيب أو تاريخ لا وجود له في حيز اللحظة إلا داخل ذواتنا، باعتبارنا كائنات تحمل هذا التاريخ وتتنقل به من بيت لسوق لبرلمان دون أن تقف ليس للتخلص من هذا العبء بل لممارسة فعل النظافة والاستنجاء ليكون لنا أن نكون أكثر عصرنة ومواكبة للحضارة والمدنية، وفق ما يجب أن نكون من خلال الذات نفسها وليس أخرى بديلة تكون غامضة ومركبة وأشبه بالدمى أو الروبتوتات التي تتلقى التعليمات في شكل برمجة مسبقة.
فالمطلوب هو إذن ترقية الوسائل المتاحة إما بتوسيع مواعينها، أو بإعمال التخييل ليلعب دورا في تكييف الوسائل باتجاه البيئة والإنسان والرهان اليومي القاسي للحياة، بحيث يتحول فعل السياسة إلى أداة وموصل إيجابي، إلى ثمرة وليس فعلا تضليليا لا يخدم بسوى إحداث دوران فارغ بما يشبه "ساقية جحا" في المثل العامي. بل أقبح من ذلك، حيث أن الاغتراف يأخذ أكثر مما يرد للأصل الذي تم الأخذ منه.
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة، هل السياسة هي الحل؟ هل هذا الفهم يعني أن الأزمات سوف تختزل في الحل السياسي الذي سوف يجعل حياتنا أفضل وأسهل وأجمل، أم أن ثمة توليفات أخرى مطلوبة وضرورية. إن السياسة يمكن أن توفر أرضية نحو بناء وعي جديد للإنسان لأنها ذات تأثير في كيان السلطة والتسلط، وبالتالي فهي إلى درجة معينة لها الأثر الفاعل، مع إعادة تعريف السياسة وفكرها بعيدا عن الممارسة الحيزية الراهنة التي تحصرها في الحزب أو الجماعة، بل هي نطاق واسع لأشكال العلاقات الاجتماعية في ارتباطها بمفهوم التأثير والأثر، السلطة والقدرة على تمرير القوة من طرف لآخر، وهذا حاصل في المجتمع السوداني اليوم، فالقوة باتت لها مراكز مختلفة رغم تمظهرها في أنها ملك الدولة، لأن كيان الدولة بالمفهوم الكلاسيكي لم يعد حاضرا، فالآن نتحدث عن كيان متعدد الأطراف يشمل حكومة مركزية وجماعات مسلحة وقبائل لها قرار مؤثر في المركز، وهناك جماعات ضغط من ألوية التجار وأصحاب المال وغيرها من تشعبات. لكن المعنى المقصود في نهاية الأمر هو أن السياسة ساعة يتم اختصارها في الإطار الفوقى لها فالنتيجة أننا سوف نحصرها بحيث نقتلها لتكون غير فاعلة، وبعض قادة الأحزاب الكبيرة وممارسي الفعل السياسي يعلمون ذلك سواء بالوعي التام أو على الأرجح بالفطرة التي هي رهينة الالتزام بالسلطة، فالذي يدمن على الفعل ويتوارثه يكون له أن يعرف كيف يشكل الأشياء حتى لو أنه كان يجهل الآلية أو الميكانيزمات التي تعمل بها أو الأنساق التي ترتبها، وهذا طبيعي حتى في محيط إدراك الطفل الذي له أيضا تقنياته السياسية في محيط ما يعيه ويفكر فيه ويرغب في التصرف به والتأثير عليه.
الآن وبهذا التقديم الذي هو انعكاس للواقع والممارسات يمكننا أن نتحدث عن كيفية توظيف "الميتاسياسة" بدلا من "السياسة" فقد أثبتت السياسة في السودان وفق خطلها الملحوظ عجزها عن إدراك المشكل أو الحلول أيضا. إن التعريف المبسط للميتاسياسة meta-politics هو حوار أو إدارة تتجاوز حدود اللغة أو المفكر فيه في السياسة إلى نقد فعل السياسة نفسه وأنساقه الكلية غير المرئية، بحيث يمكننا الوصول إلى أشكال جديدة ومصادر متنوعة للخطاب والممارسة بخلاف السائد والمدرك. ولكن المعنى يتجاوز الخطاب إلى إنتاج أو تحويل المحاورات إلى أفعال مبتكرة يكون ذلك كنتيجة لتفكير عملي ويعطي أبعادا جديدة للقضايا تستحضر جوانب الذات والحاجيات المتغالطة فيها. ولن نناقش التكيفات التي يتم بها ذلك لأنها أصبحت الآن في حيز الماضي ويمكن العمل على استبدالها من خلال عقلية أو ذهنية شبابية لها إيمان بوعي خلاق يقوم على تفكيك القوى التقليدية التي ترى أن القوة لها مركز محدد أو هي إرادة لأناس بعينهم، فالميتاسياسة هنا معنية بإنتاج واقع بديل يقوم على القراءة والتفكر أولا وربما يغلب عليه الفعل الاجتماعي وقضايا الإصلاح والتنوير الخدمي والمجتمعي دون تماسات السياسة في وضعها البراني، وقد شهدنا تجربة مثل (نفير) أيام السيول والفيضانات في عام 2013 وكيف نجحت لحد ما في فضح أنساق السياسة التقليدية. وملخص تلك التجربة أنها قراءة أو تعامل ميتاسياسي، استطاع أن يبعد الأثر الملحوظ والتماهي المباشر للسياسي، ليقوم على بدايات جديدة ولم يكن الفعل السياسي هدفا لغايته لكن النتائج كانت مخيفة جدا لمراكز التسلط في نهاية الأمر، وهذا هو المقصود من حيث الشكل لا التنويعات في مثل هذه الفصول من التفكير المستقبلي.
وإذا كان ثمة تصور ذهني لدى كثيرين أن "الميتاسياسة" هي نوع من الخرافة السياسية التي تلغي صوت العقل وتعمل على إزاحة الوعي، وبالتالي تجرد الناس من الأماني والأحلام، لكن المقصود هنا بالـ "ميتا" هو إعادة ابتكار الفعل حتى لو بدأ خرافة، فهو خرافة هذه المرة بنظر الممارس السياسي الكلاسيكي لا بنظر الممارس الجديد الذي أساسا لا يسمي نفسه سياسيا ولا يرغب في ذلك في الحيز الزمكاني المعين.
إن السياسي بهذا الوضع الراهن لا يمكنه أن يساهم في حل الأزمات، بل يعمقها ويجعلها أكثر تعقيدا، لأن الحل دائما يرتبط بالوسائل، أي الطرق التي نسلكها لكي نصل إلى نقطة جديدة من الأمل والرجاء، وهذا غائب في الوعي الجمعي السياسي، فالصورة الغالبة أن فعل السياسة في السودان وممارستها ومنذ فترات بعيدة ارتبطت إما بالطوباوية الغارقة في استلاف الحلول من أزمنة أخرى أو عقائد مصدرها الغيب أو تاريخ لا وجود له في حيز اللحظة إلا داخل ذواتنا، باعتبارنا كائنات تحمل هذا التاريخ وتتنقل به من بيت لسوق لبرلمان دون أن تقف ليس للتخلص من هذا العبء بل لممارسة فعل النظافة والاستنجاء ليكون لنا أن نكون أكثر عصرنة ومواكبة للحضارة والمدنية، وفق ما يجب أن نكون من خلال الذات نفسها وليس أخرى بديلة تكون غامضة ومركبة وأشبه بالدمى أو الروبتوتات التي تتلقى التعليمات في شكل برمجة مسبقة.
فالمطلوب هو إذن ترقية الوسائل المتاحة إما بتوسيع مواعينها، أو بإعمال التخييل ليلعب دورا في تكييف الوسائل باتجاه البيئة والإنسان والرهان اليومي القاسي للحياة، بحيث يتحول فعل السياسة إلى أداة وموصل إيجابي، إلى ثمرة وليس فعلا تضليليا لا يخدم بسوى إحداث دوران فارغ بما يشبه "ساقية جحا" في المثل العامي. بل أقبح من ذلك، حيث أن الاغتراف يأخذ أكثر مما يرد للأصل الذي تم الأخذ منه.
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة، هل السياسة هي الحل؟ هل هذا الفهم يعني أن الأزمات سوف تختزل في الحل السياسي الذي سوف يجعل حياتنا أفضل وأسهل وأجمل، أم أن ثمة توليفات أخرى مطلوبة وضرورية. إن السياسة يمكن أن توفر أرضية نحو بناء وعي جديد للإنسان لأنها ذات تأثير في كيان السلطة والتسلط، وبالتالي فهي إلى درجة معينة لها الأثر الفاعل، مع إعادة تعريف السياسة وفكرها بعيدا عن الممارسة الحيزية الراهنة التي تحصرها في الحزب أو الجماعة، بل هي نطاق واسع لأشكال العلاقات الاجتماعية في ارتباطها بمفهوم التأثير والأثر، السلطة والقدرة على تمرير القوة من طرف لآخر، وهذا حاصل في المجتمع السوداني اليوم، فالقوة باتت لها مراكز مختلفة رغم تمظهرها في أنها ملك الدولة، لأن كيان الدولة بالمفهوم الكلاسيكي لم يعد حاضرا، فالآن نتحدث عن كيان متعدد الأطراف يشمل حكومة مركزية وجماعات مسلحة وقبائل لها قرار مؤثر في المركز، وهناك جماعات ضغط من ألوية التجار وأصحاب المال وغيرها من تشعبات. لكن المعنى المقصود في نهاية الأمر هو أن السياسة ساعة يتم اختصارها في الإطار الفوقى لها فالنتيجة أننا سوف نحصرها بحيث نقتلها لتكون غير فاعلة، وبعض قادة الأحزاب الكبيرة وممارسي الفعل السياسي يعلمون ذلك سواء بالوعي التام أو على الأرجح بالفطرة التي هي رهينة الالتزام بالسلطة، فالذي يدمن على الفعل ويتوارثه يكون له أن يعرف كيف يشكل الأشياء حتى لو أنه كان يجهل الآلية أو الميكانيزمات التي تعمل بها أو الأنساق التي ترتبها، وهذا طبيعي حتى في محيط إدراك الطفل الذي له أيضا تقنياته السياسية في محيط ما يعيه ويفكر فيه ويرغب في التصرف به والتأثير عليه.
الآن وبهذا التقديم الذي هو انعكاس للواقع والممارسات يمكننا أن نتحدث عن كيفية توظيف "الميتاسياسة" بدلا من "السياسة" فقد أثبتت السياسة في السودان وفق خطلها الملحوظ عجزها عن إدراك المشكل أو الحلول أيضا. إن التعريف المبسط للميتاسياسة meta-politics هو حوار أو إدارة تتجاوز حدود اللغة أو المفكر فيه في السياسة إلى نقد فعل السياسة نفسه وأنساقه الكلية غير المرئية، بحيث يمكننا الوصول إلى أشكال جديدة ومصادر متنوعة للخطاب والممارسة بخلاف السائد والمدرك. ولكن المعنى يتجاوز الخطاب إلى إنتاج أو تحويل المحاورات إلى أفعال مبتكرة يكون ذلك كنتيجة لتفكير عملي ويعطي أبعادا جديدة للقضايا تستحضر جوانب الذات والحاجيات المتغالطة فيها. ولن نناقش التكيفات التي يتم بها ذلك لأنها أصبحت الآن في حيز الماضي ويمكن العمل على استبدالها من خلال عقلية أو ذهنية شبابية لها إيمان بوعي خلاق يقوم على تفكيك القوى التقليدية التي ترى أن القوة لها مركز محدد أو هي إرادة لأناس بعينهم، فالميتاسياسة هنا معنية بإنتاج واقع بديل يقوم على القراءة والتفكر أولا وربما يغلب عليه الفعل الاجتماعي وقضايا الإصلاح والتنوير الخدمي والمجتمعي دون تماسات السياسة في وضعها البراني، وقد شهدنا تجربة مثل (نفير) أيام السيول والفيضانات في عام 2013 وكيف نجحت لحد ما في فضح أنساق السياسة التقليدية. وملخص تلك التجربة أنها قراءة أو تعامل ميتاسياسي، استطاع أن يبعد الأثر الملحوظ والتماهي المباشر للسياسي، ليقوم على بدايات جديدة ولم يكن الفعل السياسي هدفا لغايته لكن النتائج كانت مخيفة جدا لمراكز التسلط في نهاية الأمر، وهذا هو المقصود من حيث الشكل لا التنويعات في مثل هذه الفصول من التفكير المستقبلي.
وإذا كان ثمة تصور ذهني لدى كثيرين أن "الميتاسياسة" هي نوع من الخرافة السياسية التي تلغي صوت العقل وتعمل على إزاحة الوعي، وبالتالي تجرد الناس من الأماني والأحلام، لكن المقصود هنا بالـ "ميتا" هو إعادة ابتكار الفعل حتى لو بدأ خرافة، فهو خرافة هذه المرة بنظر الممارس السياسي الكلاسيكي لا بنظر الممارس الجديد الذي أساسا لا يسمي نفسه سياسيا ولا يرغب في ذلك في الحيز الزمكاني المعين.
Comments
Post a Comment