عماد البليك ---------- محطة الباشا !
في 17 نوفمبر 1958 استولى العسكر على الحكم في السودان، عندما أعلن الفريق ابراهيم باشا عبود بيانه الأول على الإذاعة السودانية، مشيرا إلى: "تدهور الحال وما آلت إليه البلاد من الفوضى والفساد، حتى كادت ان تتردى إلى هاوية سحيقة لا يعلم مداها إلا الله.." كما ورد نصا.
مشهد يلخص تاريخ السودان في نصف قرن وأكثر.. كيف أن الحياة كأنها لم تبارح مكانها أو كأنها لم تتقدم إلى الأمام فالإشكاليات والتعقيدات أو بالأحرى سلسلة المشاكل التي تكلم عنها بيان الفريق الباشا، وبعد وقت وجيز من استقلال السودان، ما زالت قائمة إلى اليوم. نعم لم يكن مضى على الاستقلال سوى أقل من ثلاث سنوات، لتتكشف الأمور واضحة كيف أن الأزمة أكبر من الواقع وأن الطريق إلى المستقبل لن يكون سهلا.
أشار الفريق عبود في بيانه الأول إلى ما اسماه "الفوضى" والرغبة في بناء "الاستقرار" وتحدث بوضوح عن الفساد الذي ينخر في جسد الدولة وأنه سوف ينقل البلاد من "النزاهة إلى الأمانة" مؤكدا أن عهده سوف يكون عهد الأمانة والعمل لأجل الصالح العام للإنسان السوداني قال: "لا نرجو نفعا ولا كسبا ولا نضمر لأحد عداء ولا حقدا بل نعمل على استقرار الشعب وسعادته واستقراره".
وباديء ذي بدء تجلت الأزمة على أنها سياسة تتعلق بفساد الأحزاب والارتزاق والعمالة الخارجية، كما اطلق عليها من فترات مبكرة. حيث أن هناك من يعمل لغير صالح البلد أو الوطن الحديث النشأة. وبالتالي لم يكن ثمة مخرج إلا بمباشرة الحل السياسي نفسه ولكن بالطريقة العسكرية التي باتت وقتها آفة شعوب العالم الثالث، حيث كان العسكر يمثلون الطبقة التي تمتلك القوة وبإمكانها التغيير، وحيث كانوا يرسمون أنفسهم بوصفهم سلطة النظام والالتزام في مقابل "الفوضى". لهذا كان استخدام الفريق الباشا عبود، لمصطلح "الفوضى" دليلا واضحا على أن الإشكال يتعلق باللانظام، وهي فوضى تعتبر نسبيا مطمئنة قياسا لما سيحدث لاحقا من تردي في الحياة السودانية وفي السياسة وفي كافة مزالق الحياة.
وفي الوقت الذي نمت وتطورت فيه شعوب بعدنا بكثير، وإلى حيز السبعينات مثل سنغافورة وماليزيا واليابان وشعوب أفريقية كجنوب أفريقيا التي كانت تعاني تفرقة مستعصية، وغيرها.. بقي السودان يتراجع للوراء، في حين أن المخزون الثقافي والفكري والسياسي كان يشير بشكل فوقي أو براني إلى أن هذا البلد سوف يصبح شيئا له قيمة، ولكن تساقطت كل الأحلام والرؤى ودخلنا في "النفق المظلم" وانسد شريان الأمل بأن تكون الحياة أفضل أو يتغير الوضع.
كانت أولى الحلول التي طرحها الانقلاب أن أعلن "حل جميع الاحزاب السياسية ومنع التجمعات"، في إشارة جلية إلى أن رأس الأفعى كما أكدنا سابقا سياسية تتمثل في الأحزاب "الفاسدة" التي باعت الضمير ولم تفكر في مصلحة الوطن والشعب ولم تر سوى مصالح من يقودونها بدعوى أنهم يمثلون الجميع في حين أنهم ينحصرون في الذوات المتقوقعة على خيالاتها المريضة. وهذه التصورات ظلت هي التي تحرك الفكر الحزبي السياسي السوداني إلى اليوم، فالسياسة عندنا وباء وليس علاج، بل هي انشطار على الآمال وابتعاد عن الهيئات السليمة لتجسير المسافات إلى المستقبل، بل هي قبح يُعمي ويُصم ويعطل المواهب ويتقل الأمنيات والنوايا الحسنة.
ثم جاء القرار الثاني بـ "وقف الصحف حتى يصدر أمر من وزير الداخلية"، وفي هذا الشأن فثمة إشارة واضحة إلى تداخل الإعلام أو الصحف بوصفها الوسيلة الأكثر تأثيرا وقتذاك حيث لا وسيلة إعلامية أخرى نافذة للسلطة في قوتها- تداخلها مع الجهاز الرقابي والعسكرة، هذه الصفة التي لا زالت مستمرة بل تعقدت. وبدا بما لا يدع مجالا للشك أنه منذ تلك الفترة المبكرة تمّ رسم علاقة تجذرت بين الإعلام والتجييش وباتت الصحف هي "سلطة رابعة" مقيدة في يد "السلطة التنفيذية والتشريعية" العليا المتمثلة في الجهاز الأمني، الذي بات يفرض أفكاره على مسارات الحريات الفكرية ومناقشة القضايا العامة للمجتمع.
إن جذور الأزمات السودانية واضحة وجلية وما يحدث في واقعنا الراهن ليس بالبعيد عن تلك المتجذرات والطبقات التي تكشف بجلاء أن الذهن الجمعي هو الذي أسس لهذه "الفوضى" ومهّد للتعميق الأكبر للمشاكل التي أصبحت اليوم تُعرَّف بأكثر من ذلك المعنى المبدئي الذي يقف عاجزا اليوم عن التوصيف. فإذا كان ما يحدث سنة 1958 بتعبير الفريق الباشا هو "الفوضى" فماذا سيكون الحال بعد الحروب التي اشتعلت في كافة المناطق والنزعات القبلية وضياع الحقوق واندلاق الفساد في كل حدب وتجزئة البلاد؟!
فعبود كان يتحدث عن فساد ربما لم يصل المعنى الملموس له، كان يتكلم عن فساد في القيم وفي الأمانة بمعناها الأخلاقي وفي أن الذات السياسية لم تعد تقوم على نزاهة المعتقد والعمل الذي يخدم الشعب، وهي بالتالي فاسدة، وهذا لا يعفي طبعا من وجود فساد دولابي مبكر في الأجهزة الحكومية وغيرها. لكن الغالب الأعم أن المنظور الذي انطلق منه البيان الأول في 1958 كان يقوم على المسائل العامة والدلالات الاستعارية أو المجازية أكثر من التعلق بالواقع المباشر في منعكسه الواضح، وكان يعني عراضة الآمال وبطر في لهفة التغيير التي أثبتت كسادا في سوق الممارسة والتجارب العملية وبإمتياز.
إن هذه التصورات القديمة والمتعاقبة والمنفجرة.. في قياس عمر شعوب نهضت حقيقة وتجاوزت الأمس إلى الإشراق، تبدو مهمة في النظر إلى جذور الأزمات والتركيبة السودانية العصية التي تقولبت على "الفساد" وعلى "غياب النزاهة" وعلى أن الحل دائما ما يكون قائما على السلطة والتسلط والعسكرة والتجييش، وكذلك الاعتقاد بأن التحكم في الأجهزة الإعلامية يمكن أن يوجه الناس والحياة هذا المعتقد الذي ما زال قائما رغم وسائط التواصل الحديثة والكثيفة التي جعلت الإعلام الكلاسيكي يقف عاريا بلا أردية، وقد تعجبت قبل يومين لدكتور جامعي وكاتب صحفي في برنامج بقناة الشروق يطالب بما اسماه "حارس البوابة الإلكترونية" في إطار أن هذا الإعلام "الموازي" بات مصدرا للشائعات والقلق ولابد من ضبطه.
بعدها جاء النميري في 1969 ليتحدث في أول أيامه للبروفيسور علي شمو، بأن ثمة مفهومين لابد من إيضاحهما، هما: "الرجعية" و"الاشتراكية"، وقام النميري بتوصيف الرجعية التي أعاقت التنمية في السودان وجعلته يتخلف عن الشعوب، ومن ثم تكلم عن الاشتراكية للحل.. وانتهى عهد النميري برأسمالية وقحة وبرجعية حتى على مستوى تفكير الرجل وقدراته في المنطق والكلام، فحواراته الأولى تكشف أنه كان أذكى وأكثر عمقا مما وصل إليه من "تخريفات" في نهاية العمر.. والصورة سواء تعلقت بالعبود أو بالنميري وإلى اليوم، هي الانغلاق الفكري.. أن وجودك داخل قطار متحرك وأنت ثابت على مقعدك كما يقال لا يعني أنك تتحرك.. نعم نحن في كرة وعالم يتحركان وبسرعة.. لكننا للأسف ما زلنا في محطة الباشا الأولى.
مشهد يلخص تاريخ السودان في نصف قرن وأكثر.. كيف أن الحياة كأنها لم تبارح مكانها أو كأنها لم تتقدم إلى الأمام فالإشكاليات والتعقيدات أو بالأحرى سلسلة المشاكل التي تكلم عنها بيان الفريق الباشا، وبعد وقت وجيز من استقلال السودان، ما زالت قائمة إلى اليوم. نعم لم يكن مضى على الاستقلال سوى أقل من ثلاث سنوات، لتتكشف الأمور واضحة كيف أن الأزمة أكبر من الواقع وأن الطريق إلى المستقبل لن يكون سهلا.
أشار الفريق عبود في بيانه الأول إلى ما اسماه "الفوضى" والرغبة في بناء "الاستقرار" وتحدث بوضوح عن الفساد الذي ينخر في جسد الدولة وأنه سوف ينقل البلاد من "النزاهة إلى الأمانة" مؤكدا أن عهده سوف يكون عهد الأمانة والعمل لأجل الصالح العام للإنسان السوداني قال: "لا نرجو نفعا ولا كسبا ولا نضمر لأحد عداء ولا حقدا بل نعمل على استقرار الشعب وسعادته واستقراره".
وباديء ذي بدء تجلت الأزمة على أنها سياسة تتعلق بفساد الأحزاب والارتزاق والعمالة الخارجية، كما اطلق عليها من فترات مبكرة. حيث أن هناك من يعمل لغير صالح البلد أو الوطن الحديث النشأة. وبالتالي لم يكن ثمة مخرج إلا بمباشرة الحل السياسي نفسه ولكن بالطريقة العسكرية التي باتت وقتها آفة شعوب العالم الثالث، حيث كان العسكر يمثلون الطبقة التي تمتلك القوة وبإمكانها التغيير، وحيث كانوا يرسمون أنفسهم بوصفهم سلطة النظام والالتزام في مقابل "الفوضى". لهذا كان استخدام الفريق الباشا عبود، لمصطلح "الفوضى" دليلا واضحا على أن الإشكال يتعلق باللانظام، وهي فوضى تعتبر نسبيا مطمئنة قياسا لما سيحدث لاحقا من تردي في الحياة السودانية وفي السياسة وفي كافة مزالق الحياة.
وفي الوقت الذي نمت وتطورت فيه شعوب بعدنا بكثير، وإلى حيز السبعينات مثل سنغافورة وماليزيا واليابان وشعوب أفريقية كجنوب أفريقيا التي كانت تعاني تفرقة مستعصية، وغيرها.. بقي السودان يتراجع للوراء، في حين أن المخزون الثقافي والفكري والسياسي كان يشير بشكل فوقي أو براني إلى أن هذا البلد سوف يصبح شيئا له قيمة، ولكن تساقطت كل الأحلام والرؤى ودخلنا في "النفق المظلم" وانسد شريان الأمل بأن تكون الحياة أفضل أو يتغير الوضع.
كانت أولى الحلول التي طرحها الانقلاب أن أعلن "حل جميع الاحزاب السياسية ومنع التجمعات"، في إشارة جلية إلى أن رأس الأفعى كما أكدنا سابقا سياسية تتمثل في الأحزاب "الفاسدة" التي باعت الضمير ولم تفكر في مصلحة الوطن والشعب ولم تر سوى مصالح من يقودونها بدعوى أنهم يمثلون الجميع في حين أنهم ينحصرون في الذوات المتقوقعة على خيالاتها المريضة. وهذه التصورات ظلت هي التي تحرك الفكر الحزبي السياسي السوداني إلى اليوم، فالسياسة عندنا وباء وليس علاج، بل هي انشطار على الآمال وابتعاد عن الهيئات السليمة لتجسير المسافات إلى المستقبل، بل هي قبح يُعمي ويُصم ويعطل المواهب ويتقل الأمنيات والنوايا الحسنة.
ثم جاء القرار الثاني بـ "وقف الصحف حتى يصدر أمر من وزير الداخلية"، وفي هذا الشأن فثمة إشارة واضحة إلى تداخل الإعلام أو الصحف بوصفها الوسيلة الأكثر تأثيرا وقتذاك حيث لا وسيلة إعلامية أخرى نافذة للسلطة في قوتها- تداخلها مع الجهاز الرقابي والعسكرة، هذه الصفة التي لا زالت مستمرة بل تعقدت. وبدا بما لا يدع مجالا للشك أنه منذ تلك الفترة المبكرة تمّ رسم علاقة تجذرت بين الإعلام والتجييش وباتت الصحف هي "سلطة رابعة" مقيدة في يد "السلطة التنفيذية والتشريعية" العليا المتمثلة في الجهاز الأمني، الذي بات يفرض أفكاره على مسارات الحريات الفكرية ومناقشة القضايا العامة للمجتمع.
إن جذور الأزمات السودانية واضحة وجلية وما يحدث في واقعنا الراهن ليس بالبعيد عن تلك المتجذرات والطبقات التي تكشف بجلاء أن الذهن الجمعي هو الذي أسس لهذه "الفوضى" ومهّد للتعميق الأكبر للمشاكل التي أصبحت اليوم تُعرَّف بأكثر من ذلك المعنى المبدئي الذي يقف عاجزا اليوم عن التوصيف. فإذا كان ما يحدث سنة 1958 بتعبير الفريق الباشا هو "الفوضى" فماذا سيكون الحال بعد الحروب التي اشتعلت في كافة المناطق والنزعات القبلية وضياع الحقوق واندلاق الفساد في كل حدب وتجزئة البلاد؟!
فعبود كان يتحدث عن فساد ربما لم يصل المعنى الملموس له، كان يتكلم عن فساد في القيم وفي الأمانة بمعناها الأخلاقي وفي أن الذات السياسية لم تعد تقوم على نزاهة المعتقد والعمل الذي يخدم الشعب، وهي بالتالي فاسدة، وهذا لا يعفي طبعا من وجود فساد دولابي مبكر في الأجهزة الحكومية وغيرها. لكن الغالب الأعم أن المنظور الذي انطلق منه البيان الأول في 1958 كان يقوم على المسائل العامة والدلالات الاستعارية أو المجازية أكثر من التعلق بالواقع المباشر في منعكسه الواضح، وكان يعني عراضة الآمال وبطر في لهفة التغيير التي أثبتت كسادا في سوق الممارسة والتجارب العملية وبإمتياز.
إن هذه التصورات القديمة والمتعاقبة والمنفجرة.. في قياس عمر شعوب نهضت حقيقة وتجاوزت الأمس إلى الإشراق، تبدو مهمة في النظر إلى جذور الأزمات والتركيبة السودانية العصية التي تقولبت على "الفساد" وعلى "غياب النزاهة" وعلى أن الحل دائما ما يكون قائما على السلطة والتسلط والعسكرة والتجييش، وكذلك الاعتقاد بأن التحكم في الأجهزة الإعلامية يمكن أن يوجه الناس والحياة هذا المعتقد الذي ما زال قائما رغم وسائط التواصل الحديثة والكثيفة التي جعلت الإعلام الكلاسيكي يقف عاريا بلا أردية، وقد تعجبت قبل يومين لدكتور جامعي وكاتب صحفي في برنامج بقناة الشروق يطالب بما اسماه "حارس البوابة الإلكترونية" في إطار أن هذا الإعلام "الموازي" بات مصدرا للشائعات والقلق ولابد من ضبطه.
بعدها جاء النميري في 1969 ليتحدث في أول أيامه للبروفيسور علي شمو، بأن ثمة مفهومين لابد من إيضاحهما، هما: "الرجعية" و"الاشتراكية"، وقام النميري بتوصيف الرجعية التي أعاقت التنمية في السودان وجعلته يتخلف عن الشعوب، ومن ثم تكلم عن الاشتراكية للحل.. وانتهى عهد النميري برأسمالية وقحة وبرجعية حتى على مستوى تفكير الرجل وقدراته في المنطق والكلام، فحواراته الأولى تكشف أنه كان أذكى وأكثر عمقا مما وصل إليه من "تخريفات" في نهاية العمر.. والصورة سواء تعلقت بالعبود أو بالنميري وإلى اليوم، هي الانغلاق الفكري.. أن وجودك داخل قطار متحرك وأنت ثابت على مقعدك كما يقال لا يعني أنك تتحرك.. نعم نحن في كرة وعالم يتحركان وبسرعة.. لكننا للأسف ما زلنا في محطة الباشا الأولى.
Comments
Post a Comment