عماد البليك --------الحاجة إلى تاريخ بديل !
يعرف التاريخ البديل Alternate History أو الواقع البديل كما في الفنون الأدبية وأوضحها الرواية على أنه كتابة قصص أو وقائع بطريقة مختلفة عما حدثت فعليا في حيز الواقع أو التاريخ المدرك، وهو فن إشكالي من حيث كونه يزيح المعروف والممكن إلى اللامعروف واللاممكن، فمثلا بافتراض أن معركة حربية حصلت في مكان معين وانتصر فيها طرف بعينه، تأتي الرواية لتكتب الضد تماما، أن ينتصر الطرف المنهزم في الواقع، وهنا سوف يقع الإشكال للذين يحددون التخييل السردي بمقومات التأريخ، ويصير ثمة جدل يحاول أن يحاسب النص أو يقومه على هذا الأساس.
لكن مفهوم فكرة التاريخ البديل هي أعمق من ذلك، كما أن لها ممارسات في نواح كثيرة من الحياة الإنسانية إذ لا تنحصر في إطار النص الروائي أو السرد عموما في الأدب، بل هي تنزح أو تكتب أفقها في مجال واسع من التطبيقات البشرية لاسيما عندما تتقاطع خطوط المصلحة مع الفكرة اتحادا أو ضدا، أو عندما تحاول أيدلوجية معينة أن تفرض رأيا أو رواية معينة للوقائع الواقعية ويحدث ذلك في مستوى المعاين والمتشكل بصريا وسمعيا وفي الراهن، كذلك في محيط العلاقات الجدلية الكبرى ما بين المقدس والمحدود في الوعي الإنساني، ما بين حقيقة الذات العميقة وما يحاصرها من ترهات الواقع اليومي والمماحكات الحياتية المباشرة التي تغلف ما وراءها من الأفكار والظنون والأمنيات.
أن ما يعرف بالسرديات الكبرى التي تتمثل سواء في الأفكار الدينية أو الفرضيات الكبيرة لحياة أمم أو شعوب وما يحيط ذلك من تفاصيل وإضافات وتخييل مستمر، هو في ملخصه نوع من إنتاج تاريخ بديل للتاريخ المعلن، لأنه لا يمكن تحريك الذات نحو فضاء جديد من الرؤية التي تغير في مناظير العالم ما لم يكن ثمة إبدال في نواميس الوعي المتراكمة والثابتة بعض المرات، وهذا لا يكون بالاستمرار في توليد ذات الطاقة المكتشفة في الوقائع والأحداث كما درجت معرفتها، بل عبر إبدالها بطاقة جديدة لها القدرة على الدفع المستقبلي بعيدا عن مكتسبات تكون قد بدأت في فقدان ديمومتها الافتراضية.
وإذا كان التاريخ كما يراه الدكتور شوقي جلال: "نسيج جامع في خيوطه المتشابكة ما بين الذاتي والموضوعي"، فإن ما يعرف بـ "الحقيقة الموضوعية" تظل هي محل تحرك بين هذه الذات بكل ما فيها من إغواء وإيمان بقيم معينة من جهة والموضوع في الجهة الثانية، وهذا يعني أن التاريخ في مجمله سوف يصبح سرديات وليس موضوعات تتمثل دامغة الحقيقة، بمعنى أننا كبشر نعيش رواية التاريخ لا التاريخ في حد ذاته، وهذه هي الصورة الموضوعية للواقع والحياة لو أن الإنسان توقف ليتأمل المسألة بهدوء بعيدا عن القراءة الفوقية والمتعالية عن استخفاف بفحوى العالم. فالإنسان الحديث الذي يظن أنه تحرر من سلطة الغيب أو الظنون البدائية التي تقوم على معتقدات بالية كما يحكم عليها عقله الخارجي، إنما هو حتى لو لم ينتبه يعيش أسطورته وميثولوجياته بمعنى أن العالم عنده ليس حقيقة إلا في حدود معرفته التي يتمثل بها ويحاول أن يرى عبرها شكل الوجود ويفهم نسقه.
فممارسة إنتاج التاريخ البديل ليست أكذوبة أو تخييل عال يتطلب مهارات كبيرة لا يمتلكها إلا الفنان مثلا أو الكاتب. بل هي صيرورة حياة ويمتد ذلك المشهد ليكون جليا في ممارسات الحياة اليومية والعادية، فالإنسان لو قام على مراجعة صارمة لتفاصيل يومه من الصباح إلى المساء وبدأ في عمل يستند على فك التشبيك الحاصل في فضاءات الوقائع التي عبر بها، وأمسك بورق وقلم أو "كي بورد وشاشة" في محاولة لكتابة أو تسجيل نقاط لما حصل في هذا اليوم المعين، سوف يجد أنه سوف يقع مباشرة ودون انتباه منه في فخ التاريخ البديل، ليس لأنه يدلس أو لا يكتب الحقيقة بل لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي في واقعه يعيش في هذه المنطقة الرمادية بين المرئي واللامرئي، بين التخييل وما يظنه واقعا. وهذه سمة الكائن البشري في ذهنيته المجردة بغض النظر عن مستوى المعرفة، لكن ما تفعله المعرفة أنها تعيد ترتيب الخيال ليكون أكثر عملية وفائدة في المستويات البراغماتية، وهذا ما نراه لدى الشعوب التي هي أكثر تقدما بافتراض أنها وصلت إلى مصاف أوسع في توظيف التخييل في تعديل أنسقة السياسة والثقافة وفي المنافع المباشرة كما في الصناعات وتشكيل الابتكار وجعله سمة حياة عامة وليس مشروعا متعلق بالمحتوى أو الموضوع الفني أو الثقافي والأدبي أو ما درجنا على تسميته بالإبداع.
إن التاريخ البديل نجح في بعد واضح مثلا في المستوى الراهن في إعادة تشكيل حياة الكثير من المجتمعات، وفي السودان رأينا كيف أن العقود السابقة أعادت بناء الذهن الجمعي بفعل ما تمدد من سطوة مفاهيم وسرديات معينة استطاعت أن تتموضع في اللاوعي المجتمعي لتجعله يخرج عن مسارات لغيرها، فيما شكّل افتراضا حالة من الأوضاع السائدة التي أصبحت مآلاتها غامضة ومجهولة. وهذه "الفوضى" هي نتاج لتركيب الوقائع البديلة أو ترسيمها وفق لاوعي مطلق عموما، إذ جاءت بناء على تجهيل مارسه سواء القائم على صناعة البديل أو المستقبل له في شكل رسائل وأنماط حياة مفترضة أو قيم جديدة، وإذا كان للأيدلوجية كما تمت الإشارة أن تعيد بناء التاريخ وتقهره لصالحها فهي لا تحترم سوى مصلحتها أو همّ الأفراد الذين يظنون أنهم في لحظة ما يمتلكون الحقيقة المقدسة والنهائية أو يكتبون سفر قيامة الأشياء، وهو إشكال لا يمكن الانتقاض منه في ظل أن الوعي العام في أغلبه ما زال يتحرك أو يحوم في مساحة الذات التي ترى الأشياء كما لو أنها كاملة أو أن محاولة إعادة التشكيل هي معجزة أو أن البناء والهدم هو عمل نخبوي لأناس افتراضيين ليس لهم من وجود حقيقي، وليس هم سوى أنت وأنا وهم.
إن تغييرا منهجيا في نمط التفكير ووعي الذات للواقع والتاريخ والسرديات التي تتحكم في حياتنا، سوف يمكن من بناء "تاريخ بديل" ممكن ورائع، لكن ذلك مشروط بتنازلات كبيرة لابد منها، علينا الاعتراف بأن ثمة إشكال في طريقة رؤيتنا للعالم وعلينا أن نراجع أنفسنا ونمارس النقد بقوة وبشدة. لا أن ينطلق كل منا من موقع العارف والكامل والنهائي. لأن جوهر الإشكال المعاصر وأزمتنا يتعلق بهذا "الكمال الباهت"، ذلك الإحساس الفوقي بأن ثمة بشر هم كل شيء وفوق كل شيء، وما سواهم مجرد كائنات باهتة وتائهة ليس من معنى لها، يمكن الدوس عليها ومحوها إلى الأبد ودون أدنى شعور بالذنب.
لكن مفهوم فكرة التاريخ البديل هي أعمق من ذلك، كما أن لها ممارسات في نواح كثيرة من الحياة الإنسانية إذ لا تنحصر في إطار النص الروائي أو السرد عموما في الأدب، بل هي تنزح أو تكتب أفقها في مجال واسع من التطبيقات البشرية لاسيما عندما تتقاطع خطوط المصلحة مع الفكرة اتحادا أو ضدا، أو عندما تحاول أيدلوجية معينة أن تفرض رأيا أو رواية معينة للوقائع الواقعية ويحدث ذلك في مستوى المعاين والمتشكل بصريا وسمعيا وفي الراهن، كذلك في محيط العلاقات الجدلية الكبرى ما بين المقدس والمحدود في الوعي الإنساني، ما بين حقيقة الذات العميقة وما يحاصرها من ترهات الواقع اليومي والمماحكات الحياتية المباشرة التي تغلف ما وراءها من الأفكار والظنون والأمنيات.
أن ما يعرف بالسرديات الكبرى التي تتمثل سواء في الأفكار الدينية أو الفرضيات الكبيرة لحياة أمم أو شعوب وما يحيط ذلك من تفاصيل وإضافات وتخييل مستمر، هو في ملخصه نوع من إنتاج تاريخ بديل للتاريخ المعلن، لأنه لا يمكن تحريك الذات نحو فضاء جديد من الرؤية التي تغير في مناظير العالم ما لم يكن ثمة إبدال في نواميس الوعي المتراكمة والثابتة بعض المرات، وهذا لا يكون بالاستمرار في توليد ذات الطاقة المكتشفة في الوقائع والأحداث كما درجت معرفتها، بل عبر إبدالها بطاقة جديدة لها القدرة على الدفع المستقبلي بعيدا عن مكتسبات تكون قد بدأت في فقدان ديمومتها الافتراضية.
وإذا كان التاريخ كما يراه الدكتور شوقي جلال: "نسيج جامع في خيوطه المتشابكة ما بين الذاتي والموضوعي"، فإن ما يعرف بـ "الحقيقة الموضوعية" تظل هي محل تحرك بين هذه الذات بكل ما فيها من إغواء وإيمان بقيم معينة من جهة والموضوع في الجهة الثانية، وهذا يعني أن التاريخ في مجمله سوف يصبح سرديات وليس موضوعات تتمثل دامغة الحقيقة، بمعنى أننا كبشر نعيش رواية التاريخ لا التاريخ في حد ذاته، وهذه هي الصورة الموضوعية للواقع والحياة لو أن الإنسان توقف ليتأمل المسألة بهدوء بعيدا عن القراءة الفوقية والمتعالية عن استخفاف بفحوى العالم. فالإنسان الحديث الذي يظن أنه تحرر من سلطة الغيب أو الظنون البدائية التي تقوم على معتقدات بالية كما يحكم عليها عقله الخارجي، إنما هو حتى لو لم ينتبه يعيش أسطورته وميثولوجياته بمعنى أن العالم عنده ليس حقيقة إلا في حدود معرفته التي يتمثل بها ويحاول أن يرى عبرها شكل الوجود ويفهم نسقه.
فممارسة إنتاج التاريخ البديل ليست أكذوبة أو تخييل عال يتطلب مهارات كبيرة لا يمتلكها إلا الفنان مثلا أو الكاتب. بل هي صيرورة حياة ويمتد ذلك المشهد ليكون جليا في ممارسات الحياة اليومية والعادية، فالإنسان لو قام على مراجعة صارمة لتفاصيل يومه من الصباح إلى المساء وبدأ في عمل يستند على فك التشبيك الحاصل في فضاءات الوقائع التي عبر بها، وأمسك بورق وقلم أو "كي بورد وشاشة" في محاولة لكتابة أو تسجيل نقاط لما حصل في هذا اليوم المعين، سوف يجد أنه سوف يقع مباشرة ودون انتباه منه في فخ التاريخ البديل، ليس لأنه يدلس أو لا يكتب الحقيقة بل لأن هذه هي طبيعة الإنسان الذي في واقعه يعيش في هذه المنطقة الرمادية بين المرئي واللامرئي، بين التخييل وما يظنه واقعا. وهذه سمة الكائن البشري في ذهنيته المجردة بغض النظر عن مستوى المعرفة، لكن ما تفعله المعرفة أنها تعيد ترتيب الخيال ليكون أكثر عملية وفائدة في المستويات البراغماتية، وهذا ما نراه لدى الشعوب التي هي أكثر تقدما بافتراض أنها وصلت إلى مصاف أوسع في توظيف التخييل في تعديل أنسقة السياسة والثقافة وفي المنافع المباشرة كما في الصناعات وتشكيل الابتكار وجعله سمة حياة عامة وليس مشروعا متعلق بالمحتوى أو الموضوع الفني أو الثقافي والأدبي أو ما درجنا على تسميته بالإبداع.
إن التاريخ البديل نجح في بعد واضح مثلا في المستوى الراهن في إعادة تشكيل حياة الكثير من المجتمعات، وفي السودان رأينا كيف أن العقود السابقة أعادت بناء الذهن الجمعي بفعل ما تمدد من سطوة مفاهيم وسرديات معينة استطاعت أن تتموضع في اللاوعي المجتمعي لتجعله يخرج عن مسارات لغيرها، فيما شكّل افتراضا حالة من الأوضاع السائدة التي أصبحت مآلاتها غامضة ومجهولة. وهذه "الفوضى" هي نتاج لتركيب الوقائع البديلة أو ترسيمها وفق لاوعي مطلق عموما، إذ جاءت بناء على تجهيل مارسه سواء القائم على صناعة البديل أو المستقبل له في شكل رسائل وأنماط حياة مفترضة أو قيم جديدة، وإذا كان للأيدلوجية كما تمت الإشارة أن تعيد بناء التاريخ وتقهره لصالحها فهي لا تحترم سوى مصلحتها أو همّ الأفراد الذين يظنون أنهم في لحظة ما يمتلكون الحقيقة المقدسة والنهائية أو يكتبون سفر قيامة الأشياء، وهو إشكال لا يمكن الانتقاض منه في ظل أن الوعي العام في أغلبه ما زال يتحرك أو يحوم في مساحة الذات التي ترى الأشياء كما لو أنها كاملة أو أن محاولة إعادة التشكيل هي معجزة أو أن البناء والهدم هو عمل نخبوي لأناس افتراضيين ليس لهم من وجود حقيقي، وليس هم سوى أنت وأنا وهم.
إن تغييرا منهجيا في نمط التفكير ووعي الذات للواقع والتاريخ والسرديات التي تتحكم في حياتنا، سوف يمكن من بناء "تاريخ بديل" ممكن ورائع، لكن ذلك مشروط بتنازلات كبيرة لابد منها، علينا الاعتراف بأن ثمة إشكال في طريقة رؤيتنا للعالم وعلينا أن نراجع أنفسنا ونمارس النقد بقوة وبشدة. لا أن ينطلق كل منا من موقع العارف والكامل والنهائي. لأن جوهر الإشكال المعاصر وأزمتنا يتعلق بهذا "الكمال الباهت"، ذلك الإحساس الفوقي بأن ثمة بشر هم كل شيء وفوق كل شيء، وما سواهم مجرد كائنات باهتة وتائهة ليس من معنى لها، يمكن الدوس عليها ومحوها إلى الأبد ودون أدنى شعور بالذنب.
Comments
Post a Comment