التعريب: ومدارس كمبردج التي كانت تعاكسنا
د.عبد الله علي إبراهيم
(جاء في الأخبار أن سلطات التربية والتعليم أغلقت مدارس كمبردج لمغالاتها في المصاريف المدرسية وتردي بيئتها التدريسية. وأمر كمبردج وسائر مؤسسات التعليم التجاري أكبر. فهي في حالة "تمرد" على اللغة العربية، لغة أم قطاع كبير للسودانيين، ولغة تواصل لسائرهم تقريباً، ولغة رسمية بالأمر) خدمة لطبقات حظية اقتصر التعليم عندها في إعداد ذريتها لسوق توظيف عالمي افتراضي. وهي سيرة قديمة منذ عهد "التجهيزي". والتجهيزي هي كلية غردون التي كان غرضها المعلوم هو "تجهيز" جيل من السودانيين في الحرف والعلوم للوظائف الدنيا في وظائف الحكومة. وهو تبخيس للعلم احتج عليه الخريجون تباعاً ورغبوا في تعليم للتفكير والنضج لبناء وطن مستقل لاحقاً. وكتبتُ الكلمة التالية عن هذا "التمرد" الذي مدارس كمبردج، ذات الصلة بالإسلاميين، كتيبة واحدة في هذه الحرب).
خاطب رئيس الجمهورية مؤتمر التعريب الذي انعقد في 2014. وشدد على أهمية التمسك باللغة العربية كضرورة حضارية وعلمية جوهرية تحصيناً للهوية وصناعة المستقبل. ومعروف بالطبع التحفظ الذائع عن مثل عبارة الرئيس بشمولها بالهوية العربية غير الراغبين في ذلك برغم صرف الرئيس له ك"دغمسة". ولكن لا أعرف من نبه إلى مغزى كلمة الرئيس بقوة ومنذ نحو نصف قرن مثل منصور خالد. فأكد في كتابه "حوار مع الصفوة" (مقالات نشر أكثرها في 1965) على دور الثقافة العربية في إبراز الشخصية القومية. ونعى على الصفوة السياسية عقيدتها في الإنجليزية كلغة للتعليم لا شريك لها. وقال إن استرداد الشخصية العربية في مدارس السودان لن يتم بغير تخطيط تربوي لتحوير برامج التعليم "لتدل الناشئة على جذورهم الحضارية وتغرس في نفوسهم تقدير أمجادهم القومية". ولعن ابو خاش مستر إسكوت الذي وضع "كتاب الأطفال" بمعهد بخت الرضا
لا أعرف مسألة تصيب الإنسان بالقنوط من رحمة الثقافة مثل التعريب. وقلت في كتيب منشور في سلسلة "كاتب الشونة" التي أحررها إن مطلبنا بالتعريب صار مثل الكلب الذي يطارد ذيله في قول الخواجات. فهو لن يبلغه ولن يكف عن المحاولة. وأبلغ ما سمعت في خذلاننا التعريب قول الدكتور عز الدين الأمين في نهاية مؤتمر عنه في 1978 عن نطاحنا القديم العقيم للتعريب:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
لولا يقين عجوز في التعريب لقلت إنها قضية خاسرة ننفض يدنا منها. وكانت يا عرب! فقبل أيام شكت سليمي عثمان لجريدة الخرطوم عن إرخاص المدراس الخاصة لهويتنا التي تحدث الرئيس عنها. فقالت إن بعض هذه المدراس تتخذ نشيد بلدها الأصل نشيداً قومياً بدلاً عن "نحن جند الله". بل تفرض على طلابها التكلم بالإنجليزية طوال دوامهم الدراسي بنظام "قرش العربي". فمن تكلم بالعربية تسلم "القرش" ودار به ليملصه على متحدث آخر بالعربية وهكذا حتى نهاية اليوم. فيجازى المتحدث الأخير بالعربية مجازاً وواقعاً. وكان ذلك متبعاً كما سمعت في كلية غردون قديماً. وبالطبع سمعنا عن "قرش الرطانة" الذي كان يعلق برقبة من تحدث بالعربية خلال الدوام في مدارس غير الناطقين بالعربية. وعحبني للمرقوت.
إن التمرد على اللغة العربية في المدارس فاش. والمتمردن فيه كثوار ماوتسي تونغ يعيشون في ماء تضامن غزير من طبقة حظية وغير حظية لا تريد لأبنائها تعليماً بسوى الإنجليزية. وليس هذا بدعاً في الطبقات الحظية (البرجوازية). فكانت لغتها في روسيا وألمانيا الفرنسية وكذلك في مصر. وبلغ التمرد ضد العربية حداً اشتكت منه وزرارة التربية في الصحف بقولها إنها ستفرض على هذه المدراس تدريس العربية والدين. وهذا التمرد قديم. فلم تكن مدارس الكمبوني تدرس الدين الإسلامي حتى الستينات. وحين قبلت بتدريسه طلبت من وزارة التربية ترحيل الطلاب إلى مدارسها بالمدينة ويعودون منها بعد الفراغ من حصتهم في دينهم والحمد لله على الإسلام. وكنت قريباً في الستينات مع رفاقي الطلاب الشيوعيين في كمبوني عطبرة الذين قادوا من خلال اتحادهم معركة طويلة فرضوا بها على كمبوني فتح فصولها لتدريس الديانة الإسلامية
أكره أن أعود لسيرة مدارس كمبردج في السودان مرة أخرى. ولكن يجبرني سياق التمرد على اللغة العربية والدين الإسلامي. فهي مدارس مستنسخة من تقليد بريطاني محض استغربت أن يقوم عليها إسلاميون يراقبون الله في تأصيل التعليم الذي تحدث عنه الرئيس. فوجدت سيف خطبهم البتراء مع العربية وقلبهم مع الإنجليزية. فكمبردج سودان تتكون من كلية للتقانة وست مدارس للكبار والصغار جملة طلابها نحو ست ألف يخضعون لمنهج بريطاني خالص شامل من الروضة حتى التعليم الجامعي. والمعارف النواة فيها هي العلوم واللغة الإنجليزية والرياضيات والتاريخ. وليس للغة العربية موضع في إعراب هذه النواة. وتصفحت موقعاً لها على الإنترنت فلم أجد سوى كتابيّ أطفال باللغة العربية بمكتبتها والباقي إنجليزي صر
لا أعرف سانحة توافرت للإسلاميين أكبر من دست الحكم لتأصيل التعليم كما في شعارهم المعروف. ولا أعرف من فر من التأصيل في خاصة ذريته واستثماره مثلهم: فرار السليم من الأجرب. فالذائع أن دكتور حميدة الإسلامي استقال من منصبه من إدارة جامعة الخرطوم لأن التعريب اقترب من كلية الطب رضي أبو قراط عنها. وأنشأ جامعته الخاصة ليجرعنا قدسية الإنجليزية وفروض التدريس بها. وتحول التعريب على مستوى التعليم العالي من فرط سوء الأداء والارتجال إلى دليل على فساد الفكرة بل صار هزؤه.
د.عبد الله علي إبراهيم
(جاء في الأخبار أن سلطات التربية والتعليم أغلقت مدارس كمبردج لمغالاتها في المصاريف المدرسية وتردي بيئتها التدريسية. وأمر كمبردج وسائر مؤسسات التعليم التجاري أكبر. فهي في حالة "تمرد" على اللغة العربية، لغة أم قطاع كبير للسودانيين، ولغة تواصل لسائرهم تقريباً، ولغة رسمية بالأمر) خدمة لطبقات حظية اقتصر التعليم عندها في إعداد ذريتها لسوق توظيف عالمي افتراضي. وهي سيرة قديمة منذ عهد "التجهيزي". والتجهيزي هي كلية غردون التي كان غرضها المعلوم هو "تجهيز" جيل من السودانيين في الحرف والعلوم للوظائف الدنيا في وظائف الحكومة. وهو تبخيس للعلم احتج عليه الخريجون تباعاً ورغبوا في تعليم للتفكير والنضج لبناء وطن مستقل لاحقاً. وكتبتُ الكلمة التالية عن هذا "التمرد" الذي مدارس كمبردج، ذات الصلة بالإسلاميين، كتيبة واحدة في هذه الحرب).
خاطب رئيس الجمهورية مؤتمر التعريب الذي انعقد في 2014. وشدد على أهمية التمسك باللغة العربية كضرورة حضارية وعلمية جوهرية تحصيناً للهوية وصناعة المستقبل. ومعروف بالطبع التحفظ الذائع عن مثل عبارة الرئيس بشمولها بالهوية العربية غير الراغبين في ذلك برغم صرف الرئيس له ك"دغمسة". ولكن لا أعرف من نبه إلى مغزى كلمة الرئيس بقوة ومنذ نحو نصف قرن مثل منصور خالد. فأكد في كتابه "حوار مع الصفوة" (مقالات نشر أكثرها في 1965) على دور الثقافة العربية في إبراز الشخصية القومية. ونعى على الصفوة السياسية عقيدتها في الإنجليزية كلغة للتعليم لا شريك لها. وقال إن استرداد الشخصية العربية في مدارس السودان لن يتم بغير تخطيط تربوي لتحوير برامج التعليم "لتدل الناشئة على جذورهم الحضارية وتغرس في نفوسهم تقدير أمجادهم القومية". ولعن ابو خاش مستر إسكوت الذي وضع "كتاب الأطفال" بمعهد بخت الرضا
لا أعرف مسألة تصيب الإنسان بالقنوط من رحمة الثقافة مثل التعريب. وقلت في كتيب منشور في سلسلة "كاتب الشونة" التي أحررها إن مطلبنا بالتعريب صار مثل الكلب الذي يطارد ذيله في قول الخواجات. فهو لن يبلغه ولن يكف عن المحاولة. وأبلغ ما سمعت في خذلاننا التعريب قول الدكتور عز الدين الأمين في نهاية مؤتمر عنه في 1978 عن نطاحنا القديم العقيم للتعريب:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
لولا يقين عجوز في التعريب لقلت إنها قضية خاسرة ننفض يدنا منها. وكانت يا عرب! فقبل أيام شكت سليمي عثمان لجريدة الخرطوم عن إرخاص المدراس الخاصة لهويتنا التي تحدث الرئيس عنها. فقالت إن بعض هذه المدراس تتخذ نشيد بلدها الأصل نشيداً قومياً بدلاً عن "نحن جند الله". بل تفرض على طلابها التكلم بالإنجليزية طوال دوامهم الدراسي بنظام "قرش العربي". فمن تكلم بالعربية تسلم "القرش" ودار به ليملصه على متحدث آخر بالعربية وهكذا حتى نهاية اليوم. فيجازى المتحدث الأخير بالعربية مجازاً وواقعاً. وكان ذلك متبعاً كما سمعت في كلية غردون قديماً. وبالطبع سمعنا عن "قرش الرطانة" الذي كان يعلق برقبة من تحدث بالعربية خلال الدوام في مدارس غير الناطقين بالعربية. وعحبني للمرقوت.
إن التمرد على اللغة العربية في المدارس فاش. والمتمردن فيه كثوار ماوتسي تونغ يعيشون في ماء تضامن غزير من طبقة حظية وغير حظية لا تريد لأبنائها تعليماً بسوى الإنجليزية. وليس هذا بدعاً في الطبقات الحظية (البرجوازية). فكانت لغتها في روسيا وألمانيا الفرنسية وكذلك في مصر. وبلغ التمرد ضد العربية حداً اشتكت منه وزرارة التربية في الصحف بقولها إنها ستفرض على هذه المدراس تدريس العربية والدين. وهذا التمرد قديم. فلم تكن مدارس الكمبوني تدرس الدين الإسلامي حتى الستينات. وحين قبلت بتدريسه طلبت من وزارة التربية ترحيل الطلاب إلى مدارسها بالمدينة ويعودون منها بعد الفراغ من حصتهم في دينهم والحمد لله على الإسلام. وكنت قريباً في الستينات مع رفاقي الطلاب الشيوعيين في كمبوني عطبرة الذين قادوا من خلال اتحادهم معركة طويلة فرضوا بها على كمبوني فتح فصولها لتدريس الديانة الإسلامية
أكره أن أعود لسيرة مدارس كمبردج في السودان مرة أخرى. ولكن يجبرني سياق التمرد على اللغة العربية والدين الإسلامي. فهي مدارس مستنسخة من تقليد بريطاني محض استغربت أن يقوم عليها إسلاميون يراقبون الله في تأصيل التعليم الذي تحدث عنه الرئيس. فوجدت سيف خطبهم البتراء مع العربية وقلبهم مع الإنجليزية. فكمبردج سودان تتكون من كلية للتقانة وست مدارس للكبار والصغار جملة طلابها نحو ست ألف يخضعون لمنهج بريطاني خالص شامل من الروضة حتى التعليم الجامعي. والمعارف النواة فيها هي العلوم واللغة الإنجليزية والرياضيات والتاريخ. وليس للغة العربية موضع في إعراب هذه النواة. وتصفحت موقعاً لها على الإنترنت فلم أجد سوى كتابيّ أطفال باللغة العربية بمكتبتها والباقي إنجليزي صر
لا أعرف سانحة توافرت للإسلاميين أكبر من دست الحكم لتأصيل التعليم كما في شعارهم المعروف. ولا أعرف من فر من التأصيل في خاصة ذريته واستثماره مثلهم: فرار السليم من الأجرب. فالذائع أن دكتور حميدة الإسلامي استقال من منصبه من إدارة جامعة الخرطوم لأن التعريب اقترب من كلية الطب رضي أبو قراط عنها. وأنشأ جامعته الخاصة ليجرعنا قدسية الإنجليزية وفروض التدريس بها. وتحول التعريب على مستوى التعليم العالي من فرط سوء الأداء والارتجال إلى دليل على فساد الفكرة بل صار هزؤه.
Comments
Post a Comment