صحيفة الجريدة - عدد اليوم الأحد 25/9/2016
سفينة بَوْح – صحيفة الجريدة
فساد الظاهر و الباطن ... !! - هيثم الفضل
** الشاعر الشفيف محمد الأمين محمد الحسن له قصيدة مشهورة جاراه فيها العديد من الشعراء أمثال المرحوم أبو سوار و الأستاذ / محمد إسماعيل الرفاعي ، مطلعها يقول : ( مالو السلام بِقا رفعة إيد و سلامنا كان بمقالدة ** ومالو الكلام بِقا من بعيد و كلامنا كان بموادده ) ، و الحقيقة كان للقصيدة أثرها الكبير على الوسط الثقافي و وجدت إحتفاءاً أدبياً كبيراً لسببين ، الأول لجزالتها و سطوعها الأدبي ، و الثاني أنها لمست في أعماق مجموعة من الناس يمكن أن نطلق عليها ( الجيل الوسيط ) الكثير من الأحاسيس المتعلقة بما كانت عليه حالة العلاقات الإجتماعية بين أهل السودان في الماضي القريب ، و محمد الأمين محمد الحسن عبَّر عن جيل يمضي بين الناس في زماننا هذا و بين جوانحه شعور بالغربة داخل الوطن ، فالذين عاشوا ألق الماضي بما يحتويه من آيات التوادد و التعاضد الإجتماعي الثر و المنبسط في كل زمان و مكان ، لهم الحق في أن يستغربوا وحدانية الإنسان و جنوحه للفردية في زماننا العقيم هذا ، و للحقيقة فإن ما بُني على باطل فهو باطل ، لأن زماننا جُل ما يُمكن أن يوصم به يُختصر في آفة ( الفساد ) ، فقد إستشرى هذا الأخير في أعماق الناس و زيّن ظاهر حياتهم و باطنها ، فالظلم و القهر و الإذلال بإسم السلطة و القدرة و القوة لطالما دفع الكثيرين من ضِعاف النفوس إلى الإستحواذ على حقوق الآخرين و ظلم الضعفاء ، و عدم العدالة في توزيع السلطة و الثروة و الفرص الوظيفية أفشى حالة ظاهرة أو خفية من الحقد و الضغينة طالما عملت يوماً بعد يوم على تشوية نفوس الناس تجاه بعضهم ، ثم الغلاء الفاحش و صعوبة الحصول على أبسط متطلبات الحياة و أهمها كإعالة الأسرة و التعليم و علاج المريض و الحصول على الدواء ، جعلت الناس مشغولون على مدار ساعات اليوم في اللهث الذي لا ينقطع من أجل توفير أقل ما يمكن توفيره ، فأصبح الغد في عيون الناس غولاً يحوم في غياهب الظلام ، الناس في زمان مضى كان لديهم متسع من الوقت ليغوصوا في تفاصيل حياتهم ( الجماعية ) .. من لم يطلب الترف و آثر أن يحيا حياة العامة التي كان قوامها الإعتدال و المعقولية في طلب حوائج الدنيا الفانية ، كانوا يعودون من أعمالهم إلى بيوتهم الآمنة في الثالثة ظهراً ، و كان في حياتهم وقتاً مديداً إسمهُ ( العصر ) و هو يبدأ من بعد صلاة العصر إلى آذان المغرب .. فيه كان يتفقد و يجامل الجيران و الأقارب بعضهم البعض ، فالتوادد كان حالة إجتماعية أكثر من كونه واجب كما هو واقع الآن ، و كان فطرياً و تلقائياً و لا يحتاج إلى مقدمات أو مبررات ، أما الآن فإن المنهج ( الفردي ) أصبح سيد الموقف في البوادي و المدن ، و لا أتهم المدنية بأنها السبب في ذلك لأن مدن السودان كما يعلم الجميع هي في الأصل حواضر ريفية ، كما أن التلاحم الإجتماعي الذي نتباكى عليه كان في الماضي سمةٌ من سمات المدن قبل القرى ، لكنني على المستوى الشخصي أتهم فساد الظاهر و الباطن في زماننا هذا ، و أتهم النظام السياسي الذي غيَّر بإخفاقاته التي ألمت بكل جوانب الحياة من سلوكيات وأدبيات و أخلاقيات إنسانية و سودانية أصيلة سيصعب في المستقبل إعادة ترميمها و بنائها من جديد لأنها قامت على أزمان طويلة و مديدة من التجارب و الأحكام و الأعراف التي بسطها و أتفق حولها المجتمع .
سفينة بَوْح – صحيفة الجريدة
فساد الظاهر و الباطن ... !! - هيثم الفضل
** الشاعر الشفيف محمد الأمين محمد الحسن له قصيدة مشهورة جاراه فيها العديد من الشعراء أمثال المرحوم أبو سوار و الأستاذ / محمد إسماعيل الرفاعي ، مطلعها يقول : ( مالو السلام بِقا رفعة إيد و سلامنا كان بمقالدة ** ومالو الكلام بِقا من بعيد و كلامنا كان بموادده ) ، و الحقيقة كان للقصيدة أثرها الكبير على الوسط الثقافي و وجدت إحتفاءاً أدبياً كبيراً لسببين ، الأول لجزالتها و سطوعها الأدبي ، و الثاني أنها لمست في أعماق مجموعة من الناس يمكن أن نطلق عليها ( الجيل الوسيط ) الكثير من الأحاسيس المتعلقة بما كانت عليه حالة العلاقات الإجتماعية بين أهل السودان في الماضي القريب ، و محمد الأمين محمد الحسن عبَّر عن جيل يمضي بين الناس في زماننا هذا و بين جوانحه شعور بالغربة داخل الوطن ، فالذين عاشوا ألق الماضي بما يحتويه من آيات التوادد و التعاضد الإجتماعي الثر و المنبسط في كل زمان و مكان ، لهم الحق في أن يستغربوا وحدانية الإنسان و جنوحه للفردية في زماننا العقيم هذا ، و للحقيقة فإن ما بُني على باطل فهو باطل ، لأن زماننا جُل ما يُمكن أن يوصم به يُختصر في آفة ( الفساد ) ، فقد إستشرى هذا الأخير في أعماق الناس و زيّن ظاهر حياتهم و باطنها ، فالظلم و القهر و الإذلال بإسم السلطة و القدرة و القوة لطالما دفع الكثيرين من ضِعاف النفوس إلى الإستحواذ على حقوق الآخرين و ظلم الضعفاء ، و عدم العدالة في توزيع السلطة و الثروة و الفرص الوظيفية أفشى حالة ظاهرة أو خفية من الحقد و الضغينة طالما عملت يوماً بعد يوم على تشوية نفوس الناس تجاه بعضهم ، ثم الغلاء الفاحش و صعوبة الحصول على أبسط متطلبات الحياة و أهمها كإعالة الأسرة و التعليم و علاج المريض و الحصول على الدواء ، جعلت الناس مشغولون على مدار ساعات اليوم في اللهث الذي لا ينقطع من أجل توفير أقل ما يمكن توفيره ، فأصبح الغد في عيون الناس غولاً يحوم في غياهب الظلام ، الناس في زمان مضى كان لديهم متسع من الوقت ليغوصوا في تفاصيل حياتهم ( الجماعية ) .. من لم يطلب الترف و آثر أن يحيا حياة العامة التي كان قوامها الإعتدال و المعقولية في طلب حوائج الدنيا الفانية ، كانوا يعودون من أعمالهم إلى بيوتهم الآمنة في الثالثة ظهراً ، و كان في حياتهم وقتاً مديداً إسمهُ ( العصر ) و هو يبدأ من بعد صلاة العصر إلى آذان المغرب .. فيه كان يتفقد و يجامل الجيران و الأقارب بعضهم البعض ، فالتوادد كان حالة إجتماعية أكثر من كونه واجب كما هو واقع الآن ، و كان فطرياً و تلقائياً و لا يحتاج إلى مقدمات أو مبررات ، أما الآن فإن المنهج ( الفردي ) أصبح سيد الموقف في البوادي و المدن ، و لا أتهم المدنية بأنها السبب في ذلك لأن مدن السودان كما يعلم الجميع هي في الأصل حواضر ريفية ، كما أن التلاحم الإجتماعي الذي نتباكى عليه كان في الماضي سمةٌ من سمات المدن قبل القرى ، لكنني على المستوى الشخصي أتهم فساد الظاهر و الباطن في زماننا هذا ، و أتهم النظام السياسي الذي غيَّر بإخفاقاته التي ألمت بكل جوانب الحياة من سلوكيات وأدبيات و أخلاقيات إنسانية و سودانية أصيلة سيصعب في المستقبل إعادة ترميمها و بنائها من جديد لأنها قامت على أزمان طويلة و مديدة من التجارب و الأحكام و الأعراف التي بسطها و أتفق حولها المجتمع .
Comments
Post a Comment