ماذا يطبخ لسوريا وللمنطقة في دوائر القرار الدولي ؟
تردد في الأسابيع القليلة السالفة أن المنطقة مقبلة على حرب قادمة في شمال سوريا ، وربما العراق ( الموصل ) يتخللها إعلان منطقة آمنة ، والبعض يقول : حظر جوي بعمق 50 كيلو متر ، وطول 100 كيلو ، بمحاذاة الحدود التركية السورية ، تسبق عملية اجتياح تركي مع تغطية جوية غربية - عربية لمناطق سيطرة تنظيم الدولة ( داعش ) ، وبمباركة روسية أمريكية إيرانية سعودية ، وقبول من طرف نظام الأسد .
هكذا يقال ويتردد عبر الأسابيع الماضية ، ولكن الحرب الكبيرة القادمة هذه ليست تحصيل حاصل ، ولربما تقع ولربما لا تقع ، بغض النظر عن التصريح الرسمي لوزير الخارجية التركي جاويش أوغلو ، والذي أطلقه قبل أيام من خارج تركيا ، ولم يكن له صدى معاكس في موسكو التي قال وزير خارجيتها سيرغي لافرورف تعليقا عليه : " بأن القصف الجوي لا يجب أن يطال جيش النظام السوري ، لأن ذلك سيقوض الحل السياسي في سوريا " ، وبالفعل ، شهد ظهر السبت " أمس " أول طلعات جوية تركية ضد تنظيم داعش في سوريا .
التفاهم الأمريكي الروسي السعودي الإيراني حول خطورة تنظيم داعش لا لبس فيه ، غير أن قضية الأسد هي المركز الذي به أو منه تنطلق كل التفاهمات المتوقعة ، وإن كان السعوديون حسموا أمرهم أنه لا مكان لهذا الشخص في أي عملية سياسية يتفق عليها ، فإن الأمريكان يريدون بقاءه لكونه الضمانة لعدم الولوج في الفوضى ، وهي وجهة نظر روسية - إيرانية اقتنع بها الأمريكان بعد الإتفاق النووي الذي كان له ظلال واضحة على هذه الرؤيا .
ما قاله وزير خارجية السعودية الجمعة : أنه لا مكان للأسد ، هو رد على كل ما أشيع عن أن هناك تفاهما بين مختلف القوى ، إلا أن القنبلة التي فجرها الرئيس بوتين خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس السيسي في موسكو : هي أن روسيا ومصر متطابقتان في الرأي القائل إن الأسد جزء من الحل وليس جزءا من المشكلة، وعزز ذلك ما بثته المعارضة السورية من صور قالت إنها لصواريخ وقنابل مصرية الصنع ، بل إن الأخطر من كل ذلك ، هو ما قاله الأسد نفسه عن أن هناك تنسيقا عسكريا وأمنيا بين مصر ودمشق لمكافحة الإرهاب ، لتكتمل حلقة الإنطباعات فتصبح حقائق لا غموض فيها : أن الموقف العربي من الأزمة في سوريا لا زال يتلمس طريقه ، بعد أن نأت أمريكا بنفسها وسلمت ملف هذا البلد للروس ، وأيضا الإيرانيين الذين يحتلون سوريا فعليا ، ويفاوضون نيابة عن النظام في الزبداني ، وبشكل مباشر .
إذن : الموقف الروسي " المعلن " لم يتزحزح ، وإن كان يقال في الخفاء ضده تماما ، وأن الروس حريصون على وحدة سوريا وليس رأس النظام ، شريطة ضمان مصالحهم .
ولكي تتضح الصورة أكثر ، وليؤكد الروس بأنهم جادون في الدفاع عن حليفهم الأسد ( الموقف المعلن إياه ) سارعوا إلى نجدته بست طائرات حربية حديثة مزودة بكل الوسائل الأكترونية ، بالإضافة إلى عتاد وأسلحة مختلفة نقلت إلى مطار المزة العسكري خلال الأسبوعين السابقين ، وفق ما نشره موقع جي بي سي نيوز نقلا عن موقع ديفكا العبري المقرب من الأستخبارات الإسرائيلية ، مما يعني أن الروس ماضون في دعمهم للأسد حتى النهاية ، إن تعدت الإجراءات التركية حدود ما اتفق عليه بشأن داعش وطردها من الشمال السوري وهي رسالة غاية في الأهمية يدركها الأمريكان قبل الأتراك ، ناهيك عن تزويد النظام بمضادات أرضية حديثة ضد الطيران التركي لم يعلن عنها حتى الآن .
كل ما يجري ، أثار العديد من التساؤلات حول المواقف الحقيقية لبعض الدول العربية من بقاء بشار أو رحيله.
وتسرب بعض المصادر أن كل شيء تم الترتيب له والإتفاق حوله ، وقد تجلى ذلك في المبادرة الإيرانية لحل الأزمة في سوريا وهي مبادرة من أربع نقاط : وقف إطلاق النار ، تشكيل حكومة وحدة وطنية ، تعديل الدستور ( لطمأنة الأقليات والإثنيات ) والبند الرابع : إجراء انتخابات في البلاد برقابة دولية ، ولمن لا يعرف ، فإن هذه المبادرة طرحتها إيران قبل عام ، وما طرح بعدها من قبل البعض لا يشكل أي خروج عليها بغض النظر عمن طرحها أو نسبها إليه ، ورأينا مؤخرا موقف مجلس الأمن .
وللمفارقة ، فإنه وبعد مضي هذه الأسابيع على مبادرة إيران ، فإنه لم يقل أحد بعد : هل وافقت تركيا عليها أم لا ، حيث لم تعلق عليها " تفصيلا " بالمطلق حتى كتابة هذه السطور ، إلا أن البعض أرجع هذا الموقف إلى الوضع الميداني في سوريا ، والذي بات يهدد حدودها ويهدد أمنها في العمق ، سواء من الفصائل الإسلامية المتشددة ، أم من قبل العلمانيين الكرد ، وعلى رأسهم قوات الحماية الكردية التي هي بمثابة الفصيل السوري لحزب العمال الكردستاني التركي الذي يخوض حربا ضروسا مع أنقرة منذ عقود تخللها - عبر السنوات السالفة من حكم العدالة والتنمية - تفاهمات سياسية حقنت الدماء لأكثر من 12 عاما .
هل سيقتصر التحرك على سوريا أم سيشمل العراق ؟ .
التوقعات ، وليس التسريبات ، تقول إنه سيشمل البلدين ، أو - ربما - سيشملهما تباعا ، ولقد أمعن الأتراك في التحديق بالمنطقة العازلة ، كثمن لفتح قاعدة أنجيليك أمام طائرات التحالف ، وكثمن للسماح لهم بضرب الكرد : الإرهابيين في العراق ، وحلفاء أمريكا في سوريا ، وهي بذلك تضمن إنهاء صداع الجيب الكردي المستقل المتاخم للحدود .
لطالما رفضت الولايات المتحدة العرض التركي ، ولكن يبدو أن التفاهم بين الدول المعنية ، وضع هدفا ذا أولوية على كل الأهداف الأخرى ، وهو القضاء على " داعش " ولربما القضاء - بالمعية - على كل الفصائل التي تصنف أنها : متطرفة من مثل جبهة النصرة ، فرع القاعدة في سوريا ، فما هي يا ترى ردات فعل هذه الفصائل وأبرزها النصرة ، حول كل ذلك ؟ .
كل الفصائل المسلحة تقف ضد داعش ، وعلى رأسهم أحرار الشام وجبهة النصرة التي تعرف أن الدور سيطالها بعد الإنتهاء من التنظيم ، أما أحرار الشام فقد أصدرت بيانا لسان حالها فيه أنها تتبرأ من القاعدة والتطرف ، وأكدت أنها لا ترغب بإقامة الشريعة الأسلامية رغما عن الناس ، وتترك الامر للإنتخابات ، وهي بذلك تخرج من دائرة الإستهداف ، أما النصرة ، فكانت قد حاولت تلميع نفسها من خلال تصريحات أطلقها زعيمها عبر قناة الجزيرة ، شدد فيها على أن شكل الحكم القادم لسوريا يختاره الشعب السوري ، وركز على أن الجبهة لا تستهدف الأقليات ، ولا الدروز ولا المسيحيين أو أي طائفة أو إثنية بعينها ، بمن في ذلك العلويون الذين قال الجولاني : إنه لن يقاتلهم كطائفة ، ويبدو أن كل ذلك لم ينجح في تبييض ساحة الجبهة ، فبدأت تشاغب وتلوح بتخريب هذا المخطط إذا ما ظل اسمها على لائحة الإرهاب ، فرأيناها تهاجم الفرقة 30 التي دربتها الولايات المتحدة ، وتختطف ضباطها وجنودها ، بينما تتلقى ضربات جوية في رسالة أمريكية بأن أمريكا ستحمي من دربتهم والمحسوبين عليها ، ولكن يبدو أن الجولاني رد " عمليا " مرة أخرى ، وهاجم الفرقة واختطف جنودا إضافيين منها ، ومن ثم أعلنت الجبهة رسميا : أنه من غير المسموح للمشروع الأمريكي التركي بالمرور ، قبل أن يعود ويسحب الجولاني قواته من المنطقة العازلة المفترضة ، وعزا البعض رفض الجبهة للخطة التركية ، رغم حربها الدموية مع تنظيم البغدادي ، لقناعتها بأن أي حزام في المنطقة سيشمل مناطقها شمالا ،ومن أجل ذلك هاجمت الجبهة فرقة " المعتدلين " المتدربين أمريكيا ،( 60 شخصا فقط ، التحق بالفرقة منهم داخل سوريا 54 مسلحا ليس إلا ، والبنتاغون أعلن وجود صعوبة في العثور على مقاتلين وفق المواصفات الأمريكية ) ولم يعد بالإمكان إقناع هذه الجبهة بفك الإرتباط بالقاعدة وأيمن الظواهري كما يطالبها البعض كي تنجو من تهمة الإرهاب ، رغم أن قادتها مقتنعون بذلك وعملوا لأجله ، وهو هدف يبدو أنه فشل إلى حد ما ، ولربما تفشله الاحداث القادمة ، خاصة إذا علمنا بأن فك الإرتباط بالقاعدة من قبل الجولاني يعني انشقاق المقاتلين عن الجبهة والتحاقهم بـ " داعش " وهو ما لا يريده لا الجولاني ، ولا شرعيو الجبهة ، ولا تركيا وحلفاؤها ، إذا أخذنا بالإعتبار ان تنظيم البغدادي نشر قبل أيام شريط فيديو لعشرات المقاتلين الذين انشقوا عن جبهة النصرة وحركة أحرار الشام وبايعوا زعيم التنظيم ، لأن السؤال ألأبرز هنا : ماذا سيكون مصير هذه الفصائل الإسلامية التي توصف بـ " المتطرفة " حيال المنطقة العازلة أو الآمنة التي تعني - كما قلنا - فقدانهم ، هم أنفسهم ، لهذه المناطق التي احتلوها بالدماء والأشلاء ، كما تقول توصيفاتهم ، إلا أن الأيام القليلة الماضية حملت وقائع جديدة في الشمال ، بعد أن أخلت جبهة النصرة مواقعها مما أثار حنق الفصائل السورية التي أصبحت لقمة سائغة لتنظيم البغدادي .
وإذا كانت الخطوة التركية " مغامرة خطرة " ، سواء لا زالت في سياقات الإستراتيجية التركية أو التفاهمات السرية التي ينفيها البيت الأبيض دائما ، فإنه ليس أمام الأتراك إلا خوضها لأن وجههم الآن إلى الحائط : إما منطقة كردية مسلحة على حدودهم وفصائل إسلامية متشددة في جانب من الحدود والمعابر ، وإما حرب لا هوادة فيها ، ومن المؤكد هنا ، بأن هذه " المغامرة " ليست سوى " مقامرة " قد تخسر فيها تركيا المبادءة وتغرق في دماء جنودها ، دون أن نرى هنا " الصمت الإيراني المريب" ، الذي يرغب في إضعاف أنقرة ، لسلبها أي دور منشود لها بعد أن باتت طهران قوة حليفة للغرب والشرق على السواء .
هل ستنجح الولايات المتحدة والروس والحلفاء والأتراك والأيرانيون والنظام في وصول كل منهم لوجهته ، خاصة إذا علمنا أن لكل هدفا ، ولكل غاية ، ومصلحة ؟؟ .
لقد نسي جميع هؤلاء بأن الشعب السوري الذي بات مسلحا هو صاحب الولاية الحقيقية داخل سوريا ، كما فعلها الشعب الأفغاني مع حلف الأطلسي، وأن أي " طبخة " يستمر فيها نظام الأسد كما يرغب الروس والإيرانيون ، هي طبخة " بايتة " قد تدفع بجميع المقاتلين من مختلف الفصائل إلى التوحد لمقاومتها ، سواء اولئك الذين ليس لهم امتدادات عبرالحدود ، أو ممن هم في ركاب دول بعينها ، وقد تدفع تركيا ثمنا باهظا ، قد يكون من ضمن تبعاته ، خطة عالمية لتقسيم تركيا نفسها ، أو إغراقها في وحل سوريا التي نجت منه حتى الآن ، والخوف ، كل الخوف ، أن يكون قد نصب لتركيا " فخ " لا فكاك منه ، والذي يتابع التصريحات الأوروبية ، حول الغارات على مواقع حزب العمال الكردستاني يدرك حجم الحقد الذي يكنه الغرب وإيران لبلد وصلت موازنته السنوية " تريليون " دولار ، ويراد له أن يتحطم .
قد نسمع عن منطقة عازلة ، أو آمنة ، سموها ما شئتم ، وقد نسمع عن نفي مطلق ، إلا أن ما لا نسمعه نحن ، ولا يسمعه السوريون ولا العراقيون ولا العرب عموما : هو ما يطبخ لسوريا ولدول المنطقة في دوائر القرار الدولي ، الذي جعل كل المنطقة تقف على رجل واحدة .
رجل واحدة عالقة في رمال متحركة ! .
د. فطين البداد
Comments
Post a Comment