قتل القادة وأزمة السياسة الاريترية كتب من باريس / فتحي عثمان
تكشف التداعيات التي رافقت الاحتفال والتناول المتباين للذكرى الرابعة والخمسين لانطلاقة شرارة الثورة الاريترية بقيادة الرمز حامد عواتي الكثير من مثالب التفاعل السياسي الاريتري وهشاشة بنيته التحتية., انقسمت الساحة ما بين السنة حداد سلقت القائد الرمز بحجة أنه ليس محل إجماع "وطني" واندفاع مجموعة أخرى للدفاع الأعمى عنه، وما بين الفريقين تكشفت عورة التفاعل السياسي الاريتري وأزمة القيادة فيه. القيادة أبرز مظاهر عملية التفاعل السياسي بشكل عام، وفيها تتجلى الحالة الانسانية في نبلها ودناءتها، فالسلطة مطلب غال ويقوم الواقع المحيط بتحديد أشكال التنافس عليها وهو ما يعرف بالشرط التاريخي لظهور القائد السياسي. لنبدأ في واقعنا بتأمل موقع القائد الشهيد عواتي وقتله كرمز "وطني" جامع. ولنجب أولا عن سؤال : لماذا هو رمز وطني؟
أولا حامد ادريس عواتي الشخص والفرد بتاريخه الشخصي الفريد ولد قبل الحادي من سبتمبر 1961؛ ولكن عواتي القائد الرمز ولد بعد ضحى يوم الهجوم الذي شنه على العدو الاثيوبي مع كوكبة من الابطال الذين رافقوه في صنع تاريخ جديد لاريتريا. وهذا الميلاد الجديد لهذا الرمز الوطني "يجب ما قبله"، لأنه جاء معمدا بالهم الوطني الكاسح والذي هو امتداد لنضالات مشرفة وسابقة قادها رموز آخرون. كان لعواتي قبلها خيار أن يكون شيخا لخط، أو زعيما لقبيلة أو أماما لمذهب، ولكنه اختار أن يكون ثائرا ضد عدو واضح المعالم والأغراض. ضمن هذا الفعل السياسي والعسكري ولدت رمزية الشهيد عواتي. ومن يحاكمونه اليوم أو أمس بحجة أنه ليس محل "إجماع وطني"، لا يستخدمون محاكمة "وطنية" لتجريده من هذه الرمزية، بل يستخدمون محاكمة قبلية أو جهوية أو دينية، وبالفعل إذا طبقنا معايير الجهوية أو القبلية أو الطائفية لوجدنا أن حامد عواتي تسامي عليها جميعا، لذلك فهو ليس رمزا لقبيلة أو جهة أو طائفة، إذن المنطق المقابل هو كونه رمز وطني عليه إجماع عام. عمر المختار، نيلسون مانديلا، عبد القادر الجزائري، شارل ديغول كل هؤلاء رموز وطنية في حدود أوطانهم، لم يرفعوا إلى مصاف الآلهة، ولم يحقروا ولكن تم تكريمهم وتوقيرهم وحفظت كرامتهم ومآثرهم للأجيال القادمة، رغم ذلك فتحت صفحات حيواتهم للباحثين التاريخين الموضوعيين لتقصي دقائق شخصياتهم ولكن دون الإخلال برمزيتهم الثابتة، فهم في المحصلة الأخيرة بشر قبل أن يكونوا رموزا وحال عواتي لا يختلف عنهم، إلا كونه ارتريا ينبش قبره بعد نصف قرن فقط على رحيله. وهذا بسبب أن بنية التفاعل السياسي الارتري لا زالت في اطوار اسنانها اللبنية، ولم تتخلص بعد من الثالوث الجهنمي المتمثل في الطائفية والقبلية والجهوية. من الطبيعي ضمن هذا السياق التاريخي أن لا يكون "الرمز" الوطني محل إجماع بسبب تشتت الولاءات، ولأن شروط الإجماع الطائفي والقبلي والجهوي "إقصائية" بطبيعتها، فرمز القبيلة الفلانية ليس بالضرورة رمزا للقبيلة العلانية. هذا الطور البدائي للتفاعل يحيل مباشرة إلى أزمة القائد في سياق التفاعل السياسي الاريتري. القائد السياسي يحتاج بدهيا إلى شرعية وقبول وإجماع وتنازل من الرعية عن جزء من حقوقهم أي درجة من " الانقياد" حتى يتمكن من القيادة، ثم يعطي مساحة للقيادة ومساحة أخرى للمساءلة، هذا ضمن سياق تفاعل سياسي سليم وصحي : ولكن ما الذي يحدث في اريتريا؟ لا يستطيع الواقع الارتري الراهن والذي يمارس السياسة في سياق مجتمع بدائي أن يخلق القائد الوطني الجامع وذلك بسبب القسمة على واقع الجهوية والطائفية والقبلية، إذ أن الشعب لا يستطيع تقديم الشرعية والتنازل الطوعي عن الحقوق " الانقياد" أو دعم القائد بالإجماع التأييدي لإداء واجب القيادة. فعندما يتم "غسل" القائد المقترح بالمواد الكاوية للطائفية والجهوية والقبلية فماذا يتبقى منه ليحكم؟. بهذا الغسيل الثلاثي الأبعاد نقتل قادتنا في ارتريا قبل أن يولدوا، لأنه مستحيل عليهم أن يحصلوا على إجماع ثلاثي مضاف إلى إجماع وطني، وفي إطار هذه المعادلة غير المتحققة أبدا يتم وأد مشروع قادة المستقبل. وبل وأرتد الحال لمحاكمة الرمز عواتي ضمن شروط هذه المرحلة اللبنية، والأغرب من ذلك أن من أنبرى للدفاع عنه أصابه في مقتل من حيث لا يدري إذ جيره للقبلية والجهوية وهو الأمر الذي يناقض رسالة عواتي نفسها، التجني لا يصيب الرمز فقط بل يتعداه إلى رسالته، فمن يهدم ما خرج عواتي من أجله ينال من رمزيته أيضا. لو أخذنا مثال الطاغية اسياس اليوم لوجدنا أنه لم يمر بالمغسلة الثلاثية الجهنمية، لأنه يعرف مسبقا لو أنه عرض نفسه للحصول على اجماع ثلاثي لما ساد أبدا. ولذلك "انتزع" الإجماع والشرعية والقبول "انتزاعا" فحكمه في ظل السياق الارتري المريض يتكئ على : شرعية الاغتصاب، وقبول القسر وإجماع الخوف. إذن إذا لم يتواضع الشعب الارتري على الانقياد لقيادات يختارها بعيدا عن الثالوث الجهنمي، فالطغاة جاهزون لانتزاع القياد والحياة سجال بين أرحام تدفع وقبور تبلع. السلطة السياسية هي محل المنازعة في غياب "موجبات" الإجماع والتراضي الوطني، وهي عكس للطبيعة البشرية منذ الأزل وحتي قيام الساعة: فعندما وضع معاوية أسس حكمه خطب في الناس قائلا: " من نازعنا عروة هذا القميص أجزرناه خبئ هذا الغمد"، أي من نازعنا ولاية الأمر أذقناه حد السيف. ختاما كما أن هناك شروطا تاريخية لبروز قيادات تاريخية، فإن هناك درجة من السلوك السياسي التي تحدد القيادة والانقياد، وللأسف فإن الواقع الارتري لا يترك مجالا سوي لبروز طاغية جديد. ما نراه اليوم هو وأد للقيادات الواعدة ونكوص لتدمير الرموز الوطنية، فماذا بعد؟
Comments
Post a Comment