Skip to main content

عماد البليك عماد البليك_________ عن الشعر

عن الشعر

السودانيون شعراء بطبعهم، تراثنا في هذا الباب كثيف جداً، كما يكاد القرن العشرين يكون قرن الشعر في بلدنا، فلا أحد اهتم بالأدب أو الثقافة، إلا وكتب قصيدة في فترة الصبا المبكر أو في الشباب. ربما يجيء ذلك لأن الشعر فعل وجداني يقرب الإنسان من ذاته ويحقق له نوعاً من الصفاء النفسي؛ أن يجد معادلاً لعالم خارجي متأزم. أو لأن الشعر هو الغايات البعيدة التي نحلم بها ولم نصلها.
مرةً، قال الشاعر والأديب الفرنسي، جان كوكتو، عبارته الشهيرة: “الشعر ضرورة وآه لو أعرف لماذا”، وهو يطرح بدرجة ملموسة سؤال الشعر: لماذا نحن في حاجة إليه؟ وهذا السؤال قطعاً يجر وراءه أسئلة تقبع في تلافيف الذهن البعيدة. هل الشعر هو الهواء الذي نتنفسه كنوع آخر من الأوكسجين الذي يغذي العقل بطريقة ما، فيعدل المزاج الإنساني وينقله إلى مساحة أخرى مفقودة أو غائبة من الزمن؟
إن كوكتو كان عاجزاً عن ابتكار الإجابة على ضرورة الشعر، لكنه كان من خلال ذلك السؤال يفتح الأشرعة لكي نصنع ونبتكر المزيد من الاستعارات والأخيلة لنثبت الضرورة المستمرة للشعر، علّنا من خلال ذلك نستطيع أن نصل إلى ماهية ذلك الساحر الغريب الذي تارة يأتي بإيقاعية فيخفف الألم ويطفئ الجراح وتارة يأتي بتجريد عجيب غير مرئي أو محسوس ليرسم بهجة أخرى في الروح.
وإذا كان الشعر ضرورة، فهل هو متعلق بالضروريات ومرتبط بها، مثل أشياء كثيرة لابد أن نفعلها لأنها ضرورية، أم أن شأنه يتعلق بحيثيات أخرى غير مكتشفة لأننا لم نتعرف عليها بعد، ربما أحس بها البعض، وتعايشوا معها، ربما فسروها لأنفسهم أو عجزوا؟ لكن المحصلات تبقى احتمالات مفتوحة لمعنى أن نفهم الشعر، حقيقته إن وجدت.
في مدخل القرن الجديد، خفت صوت الشعر في السودان، خفتت تلك الضرورة التي تحدث عنها كوكتو، صرنا أكثر تماهياً مع الواقع بدل التعلق بالشعرية في الحياة. لماذا بهت اللون وخفت الصوت القديم؟ الأنهار التي جرت لعقود طويلة، التوريات الغارقة في الإمعان تخييلاً ومجازاً وروحاً، تضع الذات في مصاف ملائكي، كيف انتفى كل ذلك وصار الشعر نسياً منسياً، لتزيحه من موقعه مماحكات الحياة ومباشرتها الجافة.
هل تلاشي الشعر أو ترهله، بهتانه وتسطح رؤاه، تعود إلى مسألة متعلقة بالعالم خارج الشعر، بالذات في المحيط المتقلب وما تغير في المجتمعات والأنوات من ظنون وأشكال جديدة للحياة، فرضت قيماً أكثر مباشرة بحيث انجذب الإنسان نحو الحقائق المتمثلة في الواقع الفظ ونسي الواقع البديل؟ عليه أولاً أن يعالج معتركات اليومي، ومن هذه أُنتجت الشاعرية البديلة؛ نتاجاً لهذه القسوة والصراع والجنون.
يرى الرسام الهولندي “بيت موندريان” صاحب الطابع التجريدي في فنه، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، أن الفن يمكن أن يختفي، بما في ذلك الشعر طبعاً. ويقول إن الواقع سوف يحل بالتدريج محل الفن إذا لم يكن الفن في جوهره إلا تعويضاً عن انعدام التوازن في الراهن.
يعني ذلك ببساطة، أن حقيقة الفن هي واقع بديل يضفي على الحياة بعداً آخر من خلال الترقي الذي تصنعه الفنون في الذهن، ومن خلال العصف المستمر للأنا لكي تكون مستمرة في توليد الأفكار وانتهاك سكون اللحظة، برغبة أن يفهم الكائن وأن يخلد هذه اللحظة وأن يكون هو ذاته لا شيء آخر.
لكن الفن عندما يحل محله الواقع، فهذا يشير إلى أن الواقع اكتسب الصيغة الأكثر جمالية لإبقاء التوازن وجعل الإنسان يشعر بكل ما يكسبه له فعل الفن أو الشعر بغض النظر عن قسوة هذا الوقع. ففي الشعر كما في الفنون والأدب عموماً فإن القسوة والكراهية وكل الأمور السلبية تتلاشى في النصوص واللوحات لتحال إلى استعارات خالدة كل يراها بوجهته، وفي الواقع البديل صاحب الأثر القوي الذي يزيح الشعرية ويحتل مكانها، يكون للواقع أن يصنع فانتازيا وظنون وقهريات تجعل الكائن جزءاً من الخيال، ففي أحيان كثيرة يقف المرء ليسأل نفسه: أين هو بالضبط؟ هل هو داخل هذا المجاز الواقعي أم خارجه؟ هل هو حقيقة ابن الأزمة أم الأزمة نفسها؟ وأين تعيش حدود الاستعارة ويبدأ المرئي والمحسوس؟
إن القدرة على إعادة ابتكار العالم أو الحياة في الشعر أو الفن، عموماً، تكتسب طاقتها الجوهرية من الابتعاد عن الواقع بالمسافة الكافية، من السياسي واليومي والمعاش، ومن الارتهان للأيديولوجي والعقائدي، والارتهان للمصلحة. فالفن السليم لا ينمو في بيئة راكدة ليس فيها إلا الإغراءات الجوفاء، والاحتمالات التي تقود إلى الخيانة، خيانة الشعر وخيانة الأخلاق والأعراف الإنسانية في الفنون والأشعار والأدب عموماً. إن الخيانة جائزة، بحسب كونديرا، ولكن بعد أن تتأسس الذات تماماً على وعي تام بكيفية الخروج من حصار الأصيل والتقليدي، فلفظ الأمس لا يكون بالرغبات فقط بل بالوعي العميق والمعرفة التي تجعل الذات تتعالى على الواقع، ليس كبرياء أو كراهية، أو كنوع من الهروب، بل بإدراك أن هذا الواقع ليس هو المكان الذي يليق بالذات أن تبقى جزءاً منه، فالذات العارفة لا تسجن نفسها أسيرة جُدر الخيال السطحي، وتراجيديات مكررة، وأنسنة ليس فيها أي بعد ثالث، أو رابع.
لم ينته عصر الشعر، ولم تمت القصيدة. كلا، ولكن هناك أزمة افتراق بين الواقع والشعر، بين الخيال بوصفه إرادة والخيال بوصفه صناعة، بين التعالي وظنية التعالي، وكل ذلك ليس إلا مسرحاً يمهد لمرحلة جديدة نقترب فيها من تحرير خيالنا نحو ما هو أكثر رسوخاً واقتراباً من حقائقنا، بعيداً عن الغنائية والافتعال والإيقاعية، لأن أي مسار مموسق ما هو إلا تفكير في انتظام العالم ونمذجة الواقع، في حين أن ما هو خارج القصيدة سمته الفوضى والتضليل ولا يخضع للنظام ولا يجذبه سوى مغنطيس الرغبة في التشكيل المستمر، فليس ثمة صور نهائية ولا غايات تنتهي عندها المطافات.
بمثلما هناك أسئلة معقدة على مستويات الحياة المختلفة، فإن سؤال الشعر والفن وظنونهما وعلاقة ذلك بالواقع في تجليه الملموس، يظل من الاستفهامات التي تتطلب الإجابة عليها إنتاج المزيد من النصوص، والمضي في المغامرة بعيدا عن الافتعال والأثر اللحظي، بمعنى تحرير الذات من الزمن والتاريخ والقفز إلى برزخية العالم، إلى ذلك الفضاء الذي يشبه الحلم. إنه فضاء يستمد قوته وجدارته من الواقع، لكنه ليس هو أبداً، إنه فضاء الله والإنسان والملاك والشيطان، فضاء الخلود، وفضاء الذات المغيبة التي لن تظهر أبداً، حيث تعيش إطلاقها وصيرورتها المجهولة.
*كاتب وروائي من السودان

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe