أسئلة الطيب صالح المستعصية… ماذا لو استمع الحكام للأدباء؟
واسيني الأعرج
العظيم ليس فقط من قام بفعل حضاري مميز سجله له التاريخ، فوضعه في مصاف الخالدين. بل هو من يختزل وطنا فيه، ليس بخطابه، ولكن بقوة حضوره وتحوله إلى إيقونة يجتمع كل شيء في مداراتها. الناس يعرفون البلاد التي ينتمي لها الكاتب من خلال حضوره. أكثر من ذلك، حينما يتحول إلى رمزية عالية تخترق الحدود والحواجز وتضع الوطن بتعدديته في ميزان منجزه العالمي بحيث لا يعرف الناس بلادا إلا من خلال كاتبها الذي جسدها بقوة.
من منا لا يعرف الروائي العالمي إسماعيل كاداريه؟ فهو أشهر من وطن اسمه ألبانيا، التي نُسبت إليه كليا وكأنها ليست على الخريطة مطلقا. ومن منا أيضا لا يعرف الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح؟ الذي جمع بين هذه الخاصيات المتعددة التي رفعته إلى سدة التمثيل الرمزي لوطنه. في منتجه الثقافي قيمة متعالية تتجاوز ذاتها. فقد قطع الطيب صالح، مثل النجمة الهاربة، عصرا بكامله، كان قد اختبره وعرفه عن قرب وانخرط في مشكلاته الجوهرية. لقد طرح الطيب صالح قضايا كبرى ما تزال إلى اليوم حية. شغلته وشغلت جيله، بل الأجيال المتعاقبة لأنها أسئلة جوهرية. فقد اجتهد في مواجهة قرن شديد التعقد والصعوبة، في نزعه الأخير من التناقضات العنيفة.
أولا الاستعمار الذي ظل يشكل قوة للغطرسة والظلم وإبادة الضعيف واستعباده وحرمانه من حقوقه الإنسانية الدنيا. ودوره في تدمير البنيات الثقافية القديمة التي تصنع توازن المجتمعات التي منعها من الارتقاء نحو الحداثة. الاستعمار لم يكن عابرا لأنه غيّر البنيات التكوينية للمجتمعات المستعمَرة، وكسر خصوصيات الشعوب وحولها في ظرف وجيز نحو العبودية. المستعمر هو من أسهم في خلق الرجل الرافض له ولسلطانه. والقابل وهو الذي سينتج العربي المرتبك في ثقافته وخياراته، والحاقد أيضا ضد من أذله تاريخيا.
لا يعرف أي وجهة يتجه داخل مجتمع غربي يتطور بسرعة وعنف، ومجتمع عربي لا نظام يحكمه أبدا. يتقهقر باستمرار. حتى هويته ولغته وقيمه ضاعت أو تعقدت بحيث إما مال المستعمَر نحو الخيارات السهلة وتبني أطروحات المجتمع الغربي الذي يعتبره منتوجه التحتي، وإما غرق في أصالة جامدة قادته نحو تبني الأطروحات العرقية الضيقة أو الدينية، لأن منجز المواطنة بعد الاستقلال تخلف كثيرا بتخلف السياسات المتبعة. في هذا السياق بالضبط، طرح الطيب صالح سؤال الثقافة في سياق الصدمة مع الآخر، مع ثقافته وأمراضها ومهالكها. العلاقة بين الأنا والآخر التي إما أن تتعملق فيها الذات مكتفية بتاريخ مثالي متعال لم يبق منه اليوم الشيء الكثير، أو تتضاءل حتى تكاد تمّحي، أمام الآخر لتعيد إنتاج أطروحة القوي والضعيف الاستعمارية.
فقد أصبح العصر مرتبكا ومعقدا أيضا في ظل حداثة متغطرسة مسها الطيب صالح عن قرب في رواياته ورؤاه: ما هي حدود الأنا وما هي حدود الآخر، في ظل تماه من الصعب تفكيكه؟ بفعل التهجين المستمر، فقد أصبح في الأنا جزء من الآخر وأصبح في الآخر شيء من كيانات الأنا، الخفية والمعلنة. المسافات والذوبان. ما تزال تلك الأسئلة الكبيرة التي أثارها الطيب صالح، توجهنا اليوم في صياغات لا جديد فيها سوى عنفها الذي أصبح يلازمها. التطرفات الدينية التي وصلت إلى سقفها مع داعش وأخواتها، هي جزء من هذه الصراعات التي أصبحت اليوم شديدة التعقيد. الانتماءات الإثنية المتعددة التي أثارها الكاتب في نصوصه، من عربية وأفريقية وغيرها.
بعد أن كتب الطيب صالح روايته الكبيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» راسما تعقد العلاقة مع الغرب الاستعماري والحضاري أيضا، التفت نحو أمر جوهري. نحو استعادة ميراث ضيعه الاستعمار عن قصدية لتجهيل المجتمع. فراح يبحث عن جوهر الأشياء الغائبة أو المغيبة. عن لغة عفوية تقول اليومي وتقول الداخل بصدق خارج كل المواضعات. اللغة الشعبية المتوغلة في الكيانات الداخلية. فكتب «بندر شاه» و «مريود» و «عرس الزين» مستغلا كل الميراث اللغوي المتنوع للسودان، وهو شكل من أشكال المقاومة الثقافية، ردة فعل إبداعية خلاقة ضد عالم تم إخفاؤه. وهذه ظاهرة عربية معقدة في المجال اللغوي، وليست سودانية فقط. وجدناها في مصر عند توفيق الحكيم، وفي لبنان، عند سعيد عقل، بشيء من التطرف.
فما سُمي بلغة الأم يكاد لا ينطبق على الكاتب العربي الذي يكتب بالعربية الفصحى، لأن لغة الأم مغيبة. لا تصل إلى القارئ ولا إلى الشعب الذي يريد من الأدب القومي أن يمثله لغويا أيضا. فقد شكلت اللغة المخفية أو لغة الأم تحديا صارخا ضد يقينيات اللغة العربية التي نعرفها اليوم، ورهانا كليا أمام اليقينيات المستقرة التي جعلت من اللغة العربية الفصحى لغة الدين، وخارج المساءلات البشرية والإنسانية، ومنعتها من أي تطور أو تقارب، ونعرف سلفا أن اللغة التي لا تتطور تضمحل قبل أن تنتهي وتموت. كاتب ياسين في الجزائر فعل ما فعله الطيب صالح، لكن بطريقته الخاصة.
فبعد أن كتب رواية «نجمة» باللغة الفرنسية الراقية، متحديا المنجز الروائي الفرنسي، رجع إلى اللغة العامية، عندما عدا إل الجزائر، مستغلا المسرح كجهاز لتوصيل خياراته اللغوية والثيمية، مستفيدا من شعبية اللغة اليومية أو لغة التعامل، ليوصل رسالته وخطابه للجمهور. يتعلق الأمر هاهنا بالسؤال الخاص بالعودة إلى اللهجات وليس بمؤدياته. إذ يمكن أن نطرح السؤال العفوي: ماذا بقي اليوم من كل هذه التجارب العربية على صعيد القراءة، ولماذا ظلت هذه المحاولات معزولة كثيرا بعد أن أهملها النقد. لهذا يمكننا أن نقول اليوم، بعد كل هذه السنوات من غياب الطيب صالح، ماذا بقي من هذا كله؟ ربما بقي كل شيء. ما يزال أدب حقبة ما بعد الاستعمار يطرح بحدة والكثير من الأبحاث الأكاديمية تنجز حوله. ما يزال إشكال الهوية واللغة قائما أيضا وكأن الجهود التي مضت لم تكن إلا تدريبات لمواجهة عصرنا الذي نعيشه ويعيشنا أيضا بشرطياته القاسية. ما يزال الأنا والآخر يتناوبان على رفض بعضهما البعض وتقديس الأنا.
كلها ورشات ستظل مفتوحة زمنا طويلا، قبل أن يتم حسمها، لأن ثقافة جيل الطيب صالح الوطنية اضمحلت، أو كادت، وحلت محلها ثقافة استهلاكية، خياراتها تختلف جوهريا. لم ننشئ أية إستراتيجية باتجاه بلورة إجابات مقنعة. بل ألغينا كل الروابط التي تقربنا من الآخر.
فماذا كان يحدث لو استمع الحكام العرب إلى صوت الطيب صالح وحولوه إلى فاعلية؟ المشكلة أنهم لا يسمعون إلا أنفسهم وهذا سبب خرابهم وخراب بلدانهم. فقد منح الطيب صالح وطنه والعالم العربي والإنسانية جهودا عالية بناها على فكرة بسيطة وهي: ان الرهان الكبير لا يمكن أن يكون إلا على الإنسان مهما كان الأمر، وعلى الإبداع بوصفه ممارسة هاجسها المركزي الحرية قبل أي شيء آخر؟
من منا لا يعرف الروائي العالمي إسماعيل كاداريه؟ فهو أشهر من وطن اسمه ألبانيا، التي نُسبت إليه كليا وكأنها ليست على الخريطة مطلقا. ومن منا أيضا لا يعرف الكاتب السوداني الكبير الطيب صالح؟ الذي جمع بين هذه الخاصيات المتعددة التي رفعته إلى سدة التمثيل الرمزي لوطنه. في منتجه الثقافي قيمة متعالية تتجاوز ذاتها. فقد قطع الطيب صالح، مثل النجمة الهاربة، عصرا بكامله، كان قد اختبره وعرفه عن قرب وانخرط في مشكلاته الجوهرية. لقد طرح الطيب صالح قضايا كبرى ما تزال إلى اليوم حية. شغلته وشغلت جيله، بل الأجيال المتعاقبة لأنها أسئلة جوهرية. فقد اجتهد في مواجهة قرن شديد التعقد والصعوبة، في نزعه الأخير من التناقضات العنيفة.
أولا الاستعمار الذي ظل يشكل قوة للغطرسة والظلم وإبادة الضعيف واستعباده وحرمانه من حقوقه الإنسانية الدنيا. ودوره في تدمير البنيات الثقافية القديمة التي تصنع توازن المجتمعات التي منعها من الارتقاء نحو الحداثة. الاستعمار لم يكن عابرا لأنه غيّر البنيات التكوينية للمجتمعات المستعمَرة، وكسر خصوصيات الشعوب وحولها في ظرف وجيز نحو العبودية. المستعمر هو من أسهم في خلق الرجل الرافض له ولسلطانه. والقابل وهو الذي سينتج العربي المرتبك في ثقافته وخياراته، والحاقد أيضا ضد من أذله تاريخيا.
لا يعرف أي وجهة يتجه داخل مجتمع غربي يتطور بسرعة وعنف، ومجتمع عربي لا نظام يحكمه أبدا. يتقهقر باستمرار. حتى هويته ولغته وقيمه ضاعت أو تعقدت بحيث إما مال المستعمَر نحو الخيارات السهلة وتبني أطروحات المجتمع الغربي الذي يعتبره منتوجه التحتي، وإما غرق في أصالة جامدة قادته نحو تبني الأطروحات العرقية الضيقة أو الدينية، لأن منجز المواطنة بعد الاستقلال تخلف كثيرا بتخلف السياسات المتبعة. في هذا السياق بالضبط، طرح الطيب صالح سؤال الثقافة في سياق الصدمة مع الآخر، مع ثقافته وأمراضها ومهالكها. العلاقة بين الأنا والآخر التي إما أن تتعملق فيها الذات مكتفية بتاريخ مثالي متعال لم يبق منه اليوم الشيء الكثير، أو تتضاءل حتى تكاد تمّحي، أمام الآخر لتعيد إنتاج أطروحة القوي والضعيف الاستعمارية.
فقد أصبح العصر مرتبكا ومعقدا أيضا في ظل حداثة متغطرسة مسها الطيب صالح عن قرب في رواياته ورؤاه: ما هي حدود الأنا وما هي حدود الآخر، في ظل تماه من الصعب تفكيكه؟ بفعل التهجين المستمر، فقد أصبح في الأنا جزء من الآخر وأصبح في الآخر شيء من كيانات الأنا، الخفية والمعلنة. المسافات والذوبان. ما تزال تلك الأسئلة الكبيرة التي أثارها الطيب صالح، توجهنا اليوم في صياغات لا جديد فيها سوى عنفها الذي أصبح يلازمها. التطرفات الدينية التي وصلت إلى سقفها مع داعش وأخواتها، هي جزء من هذه الصراعات التي أصبحت اليوم شديدة التعقيد. الانتماءات الإثنية المتعددة التي أثارها الكاتب في نصوصه، من عربية وأفريقية وغيرها.
بعد أن كتب الطيب صالح روايته الكبيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» راسما تعقد العلاقة مع الغرب الاستعماري والحضاري أيضا، التفت نحو أمر جوهري. نحو استعادة ميراث ضيعه الاستعمار عن قصدية لتجهيل المجتمع. فراح يبحث عن جوهر الأشياء الغائبة أو المغيبة. عن لغة عفوية تقول اليومي وتقول الداخل بصدق خارج كل المواضعات. اللغة الشعبية المتوغلة في الكيانات الداخلية. فكتب «بندر شاه» و «مريود» و «عرس الزين» مستغلا كل الميراث اللغوي المتنوع للسودان، وهو شكل من أشكال المقاومة الثقافية، ردة فعل إبداعية خلاقة ضد عالم تم إخفاؤه. وهذه ظاهرة عربية معقدة في المجال اللغوي، وليست سودانية فقط. وجدناها في مصر عند توفيق الحكيم، وفي لبنان، عند سعيد عقل، بشيء من التطرف.
فما سُمي بلغة الأم يكاد لا ينطبق على الكاتب العربي الذي يكتب بالعربية الفصحى، لأن لغة الأم مغيبة. لا تصل إلى القارئ ولا إلى الشعب الذي يريد من الأدب القومي أن يمثله لغويا أيضا. فقد شكلت اللغة المخفية أو لغة الأم تحديا صارخا ضد يقينيات اللغة العربية التي نعرفها اليوم، ورهانا كليا أمام اليقينيات المستقرة التي جعلت من اللغة العربية الفصحى لغة الدين، وخارج المساءلات البشرية والإنسانية، ومنعتها من أي تطور أو تقارب، ونعرف سلفا أن اللغة التي لا تتطور تضمحل قبل أن تنتهي وتموت. كاتب ياسين في الجزائر فعل ما فعله الطيب صالح، لكن بطريقته الخاصة.
فبعد أن كتب رواية «نجمة» باللغة الفرنسية الراقية، متحديا المنجز الروائي الفرنسي، رجع إلى اللغة العامية، عندما عدا إل الجزائر، مستغلا المسرح كجهاز لتوصيل خياراته اللغوية والثيمية، مستفيدا من شعبية اللغة اليومية أو لغة التعامل، ليوصل رسالته وخطابه للجمهور. يتعلق الأمر هاهنا بالسؤال الخاص بالعودة إلى اللهجات وليس بمؤدياته. إذ يمكن أن نطرح السؤال العفوي: ماذا بقي اليوم من كل هذه التجارب العربية على صعيد القراءة، ولماذا ظلت هذه المحاولات معزولة كثيرا بعد أن أهملها النقد. لهذا يمكننا أن نقول اليوم، بعد كل هذه السنوات من غياب الطيب صالح، ماذا بقي من هذا كله؟ ربما بقي كل شيء. ما يزال أدب حقبة ما بعد الاستعمار يطرح بحدة والكثير من الأبحاث الأكاديمية تنجز حوله. ما يزال إشكال الهوية واللغة قائما أيضا وكأن الجهود التي مضت لم تكن إلا تدريبات لمواجهة عصرنا الذي نعيشه ويعيشنا أيضا بشرطياته القاسية. ما يزال الأنا والآخر يتناوبان على رفض بعضهما البعض وتقديس الأنا.
كلها ورشات ستظل مفتوحة زمنا طويلا، قبل أن يتم حسمها، لأن ثقافة جيل الطيب صالح الوطنية اضمحلت، أو كادت، وحلت محلها ثقافة استهلاكية، خياراتها تختلف جوهريا. لم ننشئ أية إستراتيجية باتجاه بلورة إجابات مقنعة. بل ألغينا كل الروابط التي تقربنا من الآخر.
فماذا كان يحدث لو استمع الحكام العرب إلى صوت الطيب صالح وحولوه إلى فاعلية؟ المشكلة أنهم لا يسمعون إلا أنفسهم وهذا سبب خرابهم وخراب بلدانهم. فقد منح الطيب صالح وطنه والعالم العربي والإنسانية جهودا عالية بناها على فكرة بسيطة وهي: ان الرهان الكبير لا يمكن أن يكون إلا على الإنسان مهما كان الأمر، وعلى الإبداع بوصفه ممارسة هاجسها المركزي الحرية قبل أي شيء آخر؟
واسيني الأعرج
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment