لا يصبح هذا الشعب المنكوب إلا على مشهد لقتلى أو تسريح الأسرى، وكلهم من جهة جغرافية محددة كادت العصابة الحاكمة أن تتهم إله الكون "بالانحياز الغبي" إذا استخدمنا عبارة Dick Cheney الذي قال بكل صفاقة هو ينوي غزو العراق إثر حوادث سبتمبر 2001، أن الإله قد أخطأ خطأً جسيماً (سبحانه وتعالي عمَّا يقولون علواً كبيرا)، إذ وضع الموارد في موطن لا يحسن أهله إدارة أنفسهم أو ضبط سلوكهم، حال التعامل مع الآخرين. وهو إنمّا يقصد المستثمرين دون أن يمتلك الجرأة لوصفهم بالمستعمرين أو المستوطنين. وقد كانت تلك من اللحظات النادرة التي أشاحت فيها الإمبريالية عن وجهها، ولم تعد مذ ذاك الوقت الي مثل هذه الحماقات التي تشيح فيها الجهة المهيمنة (Hegemon) عن وجهها فتفقد فاعليتها، إذ تستدرج الشعوب بوعي أو دون وعي لمقاومتها.
إن من يقرأ (الإله والذهب) للكاتب ولتر رسل ميد (Mead, 2007)، يعلم أنه، متما رفعت راية دينية إيديولوجية فهناك مصلحة دنيوية تتمثل محضاً في وجود كنز أو كنوز من الذهب. وإذ إن الدعاوي الدينية قد تبخرت متأثرة بنشوى الطمع، فقد استخدمت مؤخراً حجة مكافحة تهريب البشر كغطاء يمكن أن يتم من خلاله تجريد المواطنين في دارفور من سلاح يمكن ان يستخدمونه للمطالبة بحقوقهم حال إقدام المستوطنين الجدد وأعوانهم للتنقيب عن الذهب في جبل عامر ومناطق كثيرة أخرى.
أود ان أذكر القارئ أنّ شخصية إنقاذيه نافذة، مغرمة بالتجارة ومجيدة لها، سجلت شركة قبل عام أو عامين للتنقيب عن الذهب، مما أثار حفيظة المواطنين وجعل قائد عسكري قَبَلي يعلن رفضه، ويتوعد كل من تُسَوِّل له نفسه التقدم نحو جبل عامر. لم تجاريه السلطة السياسية أو الإعلامية حينها، ولم تساءله السلطات المحلية وهي تعلم أنّ لكل مواطن حق الاستثمار في اي موطن في السودان اذا ما أستوفي الشروط والتزم بالنظم الإدارية، أمّا اذا كان المنطق قبلي، فالأرض أرض الفور بالمعني السيادي وحاكورة الدارفوريين بالمعني الانتفاعي. لكنّها، أي هذه الجهة، بذلت له حبل المهلة، ريثما تتوفر الفرصة للتخلص منه ومن غيره، لأنها لا تملك منطق إداري ولا تعترف بإرث قبلي، إنمّا تعتمد منهج استيطاني تسنده بالقوة التي تفتقر إلي وازع أخلاقي، ديني أو وطني. إّذن، لا بد من تقصي العلاقة بين سوتشي ومستريحة (ففيها تفاصيل غير مريحة)، وعدم الاكتفاء فقط برواية أرسين لوبين البوليسية.
دأبت السلطة المركزية علي تمرير أجندتها الاستيطانية عبر قنواتها الرسمية وغير الرسمية، فكان أن سمحت لبعض إعلاميها ببث برنامج ركز علي الجزئيات التفصيلية لحادث الاقتحام لقرية مستريحة، كي تخفي طبيعة الصراع الاستثماري والذي تقف من ورائه شخصيات إنقاذيه نافذة وعائلات خرطومية نابهة. وإذ حاولت هذه النخبة التائهة أن تسترسل مُعَوِّلة علي طبيعة المكون القبلي، ومُعْلِية من شأن التداعيات الخشم-بيتية ، فقد صدَّها المتحدث الذي رفض أيضاً أن يعترف بطبيعة الصراع السياسي، لكنه أقر بعظم المسؤولية الأمنية الملقاة علي عاتقه أو عاتق قوات الدعم السريع.
رغم إقراره بأن ثمة مؤامرة سياسية تحاك ضد السودان متهماً فيها مصر، إلا إنّ الاستاذ/إسحاق أحمد فضل الله عجز أنّ يحدد لنا الجهة التي كانت مصر، تاريخياً وتقليدياً، تعمل عبرها وتحقق أطماعها ومخططاتها من خلالها. كان عبد المحمود نور الدائم الكرنكي أكثر شجاعة وذكاءً إذ القي نظرة فاحصة للتاريخ، لكنها ناقصة، في مقالة بعنوان "القائد الزاكي طمل والشيخ موسى هلال" (سودان نيوز 28 نوفمبر 2017). يقول الكرنكي: "جمع السلاح من حركات التمرد ومن القبائل متزامناً، ضرورة وطنية كبرى. ويجب أن يكون تنفيذه بحنكةٍ وجدولٍ زمني. ليس من مصلحة السودان اليوم أو أمس أو غداً الصدام الدَّامي. ليس من مصلحة السودان إعادة إنتاج تجربة «نزيف القيادات» التي تسبق عادة سقوط الدُّول. كما ليس من مصلحة السودان أن تنهمر القبائل المسلحة من دارفور وكردفان إلى الخرطوم . «نعم» لانهمار الجيوش القبلية بقيادة الإمام المهدي لتحرير الخرطوم وقتل «غردون». لكن «لا» وألف «لا» للانهمار القبائل المسلحة من دارفور وكردفان لتقاتل الجيش الوطني حامي الذمار حامي الحمى وحارس الوطن والشعب وصمام الأمان الوطني. ليس من مصلحة السودان أن يتقاتل السودانيون تجري من تحتهم أنهار الدماء. من مصلحة السودان أن يتكامل دور الجيش والقبائل. وليس العكس."
إنّ العبارة الأخيرة هي عبارة خطيرة، وهي محطة فاصلة اذا أردنا أن نخرج من حالة الاستقطاب الماثلة. لكن للإسلاميين مصلحة في المناجزة بين الجيش والدعم السريع، خاصة بعد أن عادوا للقصر ورأوا أنّهم باتوا يمثلون النقطة الثالثة في مثلث الحكم. علماً بأن مشروعهم قد أثبت فشله من الناحية المفاهيمية وعجزه من الناحية التطبيقية، فمحاولة الرئيس البشير مغازلتهم هي محاولة للامساك بدبر ميت. كل ما يحتاجه هو الأن، أن يقوي موقف الجيش بتوفيق أوضاع الدعم السريع بحيث لا يكون هناك خلاف مستقبلي بينهما، وأن يحدد وقت لاستقالته بعد أن يكون قد أخذ ضماناً له ولأسرته بعدم المسألة. أي حركة غير هذه هي عبارة عن "فنجطة" لا تجدي في الوقت الضائع، الأدهى أنها تضع هذا البلد العتيق في مهب الرياح.
لأول مرة أجد نفسي براغمتياً وقد رأيت مأساة مسجد الروضة في سينا وتذكرت العشرية السوداء في الجزائر. وتذكرت مقدرة الإسلاميين للاستثمار في الموت. إنّ صاحب المصلحة الوحيد في إعطاء عمليات سفك الدماء في بلادنا طابعا قبلياً وطائفياً –يقنن له بعض المتعاطفين والمتحمسين بوعي وبدون وعي– هو كيان "المستعمر" الذي ظل منذ عام 1913 يعمل عبر شبكة معقدة من العملاء القبليين، ضباط الجيش والأمن المفسدين، الممولين والرأسماليين المركزيين، السياسيين المنحلين والطائفيين المتواطئين، الي أخره. إنّ الغرض من ترويع الأهالي في سيناء، مثلاً، هو إخلاء المنطقة كي تكون موطناً بديلاً لأهل غزة، أمّا إطالة أمد الحرب الأهلية في الجزائر فكان الغرض منه استنزافها كي تفي بشروط خمسة وضعتها جلياً المخابرات المركزية الأمريكية كان من ضمنها إيداع أموال البترول في أمريكا، وأموال الغاز في فرنسا، ووقف دعم المقاومة الفلسطينية (العربي الجديد، خرافة في سيناء بقلم حلمي الأسمر، ص:14، 30 نوفمبر 2017).
إنّ الغرض من كل الترتيبات التي اتخذت مؤخراً في دارفور هو إخلاء الأرض كي يتمكن المستثمر من التحرك فيها بيسر وجمع سلاح الأهالي حتي لا تتكرر مأساة شفرون ويصاب لا سمح الله أحد الروس العاملين في المناجم وحقول البترول بعيار قد ينطلق من بندقية أحد "المتفلتين." وهل هناك تفلت أسوأ من الاستجابة لدعاوي الإنقاذين الفاجرة والكاذبة والطامعة؟ إن النخب الإنقاذية لا ترى شعباً يمكن ترويضه بإعطائه الحد الأدنى، أو منحه حد الكفاف، لكنها ترى أرضاً يجب ان تستباح، فالكرتة فقط (كرتة الذهب) إن أدخرت يمكن أن توفر للشعب رعاية صحية أولية، تعليم ابتدائي، وتخلق بعض الفرص للشباب للاسترزاق، حتماً ليس للاستثمار لكنهم يريدون أن يتعاملوا مع ذهب دارفور، مثلما تعاملوا مع بترول الجنوب أو بترول كردفان. إذ لم يدخروا جهداً في توفير كل فرص الاستثمار لأبناء التنظيم، ولم يتركوا فرص الخدمات ولا حتى المأكولات لأبناء تلك المناطق فأصبح جلهم ما بين غفير وسائق. أما الراعي فقد دمرت بيئته بعد أن ازيح الغطاء النباتي من أرضه، وصعب عليه التنقل بعد أن فقد الأمن من جراء التقسيمات الإدارية المُغْرِضة التي تعمَّدت تدمير التكامل الأيكولوجي بين أبناء القبلية الواحدة وأبناء الشعب الواحد.
إن ذات العصابة المتكونة من أقطاب الدولة العميقة وأبدال الجبهة الإسلامية القومية والمُقَدَمِية الأمنجية، والتي أرادت بيع مشروع الجزيرة إلى صينيين، هي التي تريد الآن الاستثمار في جبل عامر والحقل (9) للبترول. وهم إذ واجهوا مقاومة في المرة الأولى، فقد عاودا الكرة متحججين بضرورة ضبط المتفلتين ومقاومة "اللصوص" و "النهابين". مرة واحدة اللصوص والنهابين!
من المعلوم بأن هناك تعاون وثيق جاري منذ فترة بين العسكريين السودانيين والعسكريين الروس لتقوية الدفاعات الجوية بعد أن تعرض السودان لاختراقات متعددة، كما أن ملف التعاون الاقتصادي قد عهد به إلي نائب الرئيس الثاني السيد/ حسبو محمد عبد الرحمن وقد ظل الأخير متابعاً له بهمة، خاصة بعد زيارته لموسكو في عام 2015. السؤال: لماذا لم يعهد لرئيس هيئة الاركان سعادة الفريق/عماد عدوي ونائب الرئيس الثاني مواصلة الجهود؟ ولماذا يصطحب رئيس الدولة معه في مهمة من المفترض أن تكون عسكرية أمنية، أناس غير مختصين وغير معنين بهذه الملفات؟ لماذا الزيارة المفاجأة وكيف تم إقحام أبو الجاز؟ صحيح إنه شخصية لها "قدرة تنظيمية" وقد عُرِف عنها "الدقة الإدارية"، لكن للأخير "حمل ثقيل"؛ يكفه الملف الصيني والملفات الأمنية والسياسية الأخرى. لكن يبدو أنّ للرئيس ثقة في أبو الجاز لا تتوفر في غيره، حاجة أشبه بمقولة "الشريف مبسوط مني"! هل كان عوض الجاز منشغلاً بترتيب الأوضاع مع شركات التنقيب الروسية، حالما ينتهي الرئيس من هضربته؟ أطَمَعٌ حتى أخر لحظة، وخوفٌ في منصة تستوجب الكبرياء والشمم؟ يا إلاهي، اي بلية هذه التي نحن فيها؟
إنها الإنقاذ، التي تحس بقرب زوالها، فتستخدم القوة المُفْرطة، وللمرة الألف، في مواجهة مواطنين عزل، كان يمكن مشاورتهم في أمر الاستثمار في منطقتهم. لماذا لا توضع الأمور فوق الطاولة؟ إن من يعي مأساة الوضع الإقليمي والعالمي، يجب أن يكون واقعيا، ويدرك أن السياسيين في قبضة الاستخبارات (أو المخابرات)، والأخيرة في قبضة الدولة العميقة. والناظر إلى مجريات الأمور، والمتبع لأخبار "الإرهاب" يعلم أن هناك جهة تصمم وتنفذ كل تلك الحيثيات بدقة متناهية وعزيمة غير متوانيه.
لم نكد نسمع بأخبار الشاب المغربي الذي فجّر مقهاً في فرنسا، حتى كانت هناك مسودة معدة من مئات الصفحات، مرفقة معها ميزانيات تقدر ب 4 مليار دولار ، قدمت للبرلمان، الذي أجازها في أقل من ثلاث ساعات، ذهبت جلها للدولة العميقة متمثلة في تجار الأسلحة وصانعي أحدثة التجسس الحديثة. هنالك تنسيق إقليمي ودولي بين المفسدين في العالم كله، الذين أصبحوا نافذين ومتحكمين، بيد أن مكرهم لا يفوق مكر الله الذي لا يفلته ظالم ولا يضره ناقم. كان يمكن للإنقاذين أن يصلوا إلى صيغة مرضية في جميع الاستثمارات تهيئ لهم الاستحواذ على الثروة جلها (وقد فعلوا) وإيلاء بعضها للمواطنين، الذي لا يريد أغلبهم أن يغتني، لكنه يود أن يعتني، بنفسه وزوجه وولده. إنّ جل من صنعوا مثل هذه الثروات الطائلة صنعوها في ظروف مماثلة، لكنهم عرفوا كيف ينسحبوا ومتي؟ هناك أسُر دعمت الحرب العالمية الثانية وهي اليوم أكثر نفوذا في أمريكا والعالم، لكنها حافظت علي مكتسباتها بالانسحاب في اللحظة المناسبة. أما إنهم لو انتظروا لكان مصيرهم الي زوال وثروتهم الي بدار.
امسى الشعب حزيناً ليلة اقتحام مستريحة، ليس تعاطفاً مع القبيلة الباسلة أو انحيازاً لقيادتها العسكرية الناشزة، لكنه أحس بالمحنة (محنته هو شخصياً)، إذ رأي الدولة تستخدم السلاح، مرة تلو الأخرى، دون أي غطاء فكري أو أخلاقي. ما هو الهدف الاستراتيجي الأعلى لمثل هذه الهجمات على الفرقان؟ محاربة الإتجار بالبشر أو تهريبيهم. لا يمكن أن يكون هذا هدف استراتيجي أعلى، هذا مشروع يرجى من خلاله تحقيق الأمن الاجتماعي والسلام الشعبي كنتيجة وسيطة، تتبع لهدف استراتيجي أعلى هو تشييد وطن في سلم مع ذاته والأخرين. إن نجاح المشروع أو فشله مرهون بتحقق أقيسة علمية وعملية تتمثل في توفر فرص العمل، تسجيل الأراضي، رصد عدد البلاغات، إلى أخره.
تخطئ المفوضية الأوروبية، بل تُجْرِم، إذ ترصد مبالغ طائلة لإجراء بوليسي، يفتقر إلى المؤسسية وتنئ بنفسها عن معالجة الإشكالات البنيوية. ولنسأل أنفسا لماذا هجر المواطن الطورية وقنع بالبندقية، بل من وفر له البندقية؟ الم يطبق النظام موجهات منظمة التجارة العالمية بحذافيرها، إذ طلبت فتح استيراد الزيوت، فكان أن ضربت محصول الفول السوداني وحرمت منتجيه من النقد الأجنبي؟ الم يشترط البنك الدولي للحصول علي القروض سياسة الاصلاح الهيكلي التي حرمت المواطنين من الخدمات الاجتماعية، فأفتقد المواطن منعته التي كان يستغلها لاكتساب قوته؟ الم يحدث هذا كله تحت نظر الإمبريالية الإسلامية، التي أوكل الترابي أمر تدبير اقتصادها لتاجر عملة ومضارب أسمه حمدي؟ ومن عجب أن الأخير يستشار في شأن حياتي معاشي لمواطنين أصيلين في بلد يذخر بعلماء أجلاء في الاقتصاد، هو يتكلم دونما حرج، ويتبجح منتقداً سياسات الإنقاذ. كثر خير الإنقاذ التي أعطته منبراً يتكلم منه، وقد كان مجرد محاسب درجة ثالثة، بالتحديد حتة مرابي يعمل في شركة مغمورة بلندن، التي جاءها فقير معدم وصار يملك فيها مصارفا وعقارات.
دعنا ندلف الي موضوع جمع السلاح والتعرض بالنقد الي أساليب الأوروبيين الذين لا يريدون حتي اليوم الاعتراف بحجم التفاوت المريع في الدخل بين دول الشمال (شمال القطب) ودول الجنوب (جنوب القطب)، والذي له صلة بالإجراءات المجحفة في شأن الصادرات (صادرات دول العالم الثالث)، شروط التمويل، الي أخره من العوامل المتسببة في خلق إشكالات بنيوية كان من نتيجتها الفقر، والجهل والعطالة لشريحة الشباب التي تمثل 60% من مواطني العالم. نحن لا نملك أن نفاوض أو نتكلم عن ضرورة وضع شروط أفضل للانتماء للقرية العالمية لأن قيادتنا تمثل غيابا تاماً عن الساحة الدولية. ها هم القادة يتواجدون هذا الأسبوع في أبيدجان لحضور القمة الإفريقية الأوروبية التي تعقد جلستها يوم الخميس (الموافق 30 نوفمبر 2107)، وقادتنا لا يكادون يطفئون حريقاً حتي يعلنون عن أخر. بهكذا أسلوب تضيع علي السودان كل يوم وكل ساعة، بل كل دقيقة وكل ثانية، فرص للتنمية، الاستثمار، والاندماج في المنظومة الإقليمية والدولية.
وإذ إن الدولة لا تستطيع معالجة الاشكالات البنيوية والمؤسسية، فكان من باب أولي لها أن تركز علي الجانب السلوكي الذي يستلزم التعويل علي المجتمع. باستهدافها رجالات الإدارة الأهلية، ناشطي المجمع المدني، الشباب، الطلاب، إلى آخره، تحرم نفسها من ترياق أساسي كان يمكن أن يوظف لغرس ثقافة السلام وغسل أدران الحرب المعنوية. لأن نزع فتيل العداوة بين مكونات المجتمع أمر ضروري لاستتباب الأمن، وتوفر السلام الذي لا يمكن أن يستدام إلا إذا احس المواطن بأن للدولة هدف تنموي ومشروعية أخلاقية للبناء.
إن تناقض المواقف وتعارض الحجج يطعن في شرعية الدولة، ويجعل المواطن يتوجس من التعامل معها. حينها تصبح "الهانم" من غير حقيقة اجتماعية وتفقد فاعليتها، فتضطر لاستخدام القوة ومزيد منها حتى تكتمل الدورة ويصحب المُسْتَهْدِف مُسْتَهْدَفاً. هذه هي دينامية الإفلاس ومنطق القوة الهابط. وإذا شئت فأقرأ "الدم والغضب: التاريخ الثقافي للإهاب للكاتب (Burleigh, 2008).
حزنت إذ رأيت القوم صرعى، بكيت إذ رأيت الأطفال بلا مأوى، تضرعت إلى المولى إذ رأيت المحارم ثكلى. لم أحسب أنني أعيش حتى أرى زماناً يقتتل فيه ربعي، وأنا أعلم حَمِيتَّهم وحِنِّيَتهن، بل حصافتهم وتريثهم في أحلك الظروف. من أمثالهم، "أخوك لو قتلك بجرك للضل"، والشدرة بتنتكي في أختها و"الرجال بجو عشية." كان الرزيقات إذا غضبوا تكوا السلاح، وتقاتلوا بالعصى، وهم اليوم يرمي بعضهم بالذخيرة، بل ويصوبونها لدى الشيبة المسلم، وحامل القرآن والإمام المقسط، فإنا لله وإنا إليه راجعون. إنها الفتنة التي تنبأ بها المعصوم.
لو أنّها معركة وطنية لما استكثرت فيها الموتى، ولقلت ما قاله صديقي وعمي الفارس عمدة المحاميد كبور شقرة يوم أن أبلغ باستشهاد ثلاثة من بنيه في دوسة (قتال) مع جنقي (دينكا)، "الرزيقيات بِلْدَنهم عشية." كانت القبيلة تأتي بالمئة الفارس، والمئة والخمسين، والمائتين وخمسين، فأتى الأمير مادبو قدير بعشرة الأف، كانوا على قلب رجل واحد، يرمون الشمَّات بغبار خيلهم، يغيظون عدوهم، ويرجون ثواب ربهم. فكان أن استقبله المهدي العظيم، قائدهم بقوله، يا صباح الخير، يا ناس القبيل. افتدى الرزيقات هذا البلد بالدم والمال بكل نفيس وما زالوا. لكنهم اليوم اصبحوا اليوم ضحية لمؤامرات الأمنجية وأطماع الأرزقية؟
تقول الرواية أن موترجية استهدفوا القائد العميد/عبدالرحيم جمعة وهو يخاطب شيخ موسى هلال. بإمرة من ولمصلحة من تٌصَوَّب طلقة قاتلة لشخص مفاوض؟ تريد أجهزة الأمن أن تُغَبِّن قائد قوات الدعم السريع، تعيقه وتضعفه في آن واحد. هكذا يعملون وذاك هو دأبهم. ومن يتلقون الأخبار لا يتريثون، ولا يلبثوا يتبادلونها عبر المنشورات والرسائل الصوتية، بل ويبذل بعضهم الوعد والوعيد. وهم بذلك إنما يخدمون غرض الأجهزة الأمنية التي تريدها حرب عدمية. أتمني ألا تتخذ دارفور مرة ثانية حديقة خلفية لتصفية خلافات الإنقاذيين، لا سيما الإسلاميين منهم، الذين لا يواجهون مأزقاً حتي يتخذون القتال مهرباً.
إنني أهيب بالرزيقات خاصة، وبأبناء الشعب السوداني عاما تفويت الفرصة على العصابة وأفرادها. يجب أن لا نعطيهم أي مبرر لاستخدام العنف، إنما مواجهتهم بالقوة، فالأولى محض إفلاس والثانية بسالة فكرية وروحية. وإذ يتداعى الفريقان للمواجهة، فإنهم ينسون أنّ القاتل والمقتول من الرزيقات؛ القاتل والمقتول من دارفور كما صدع بها الناظر سعيد مادبو (رحمه الله) في وجه المستوطنين الجدد الذين سعوا لدق اسفين بين الزرقة والعرب، بل القاتل والمقتول من السودانيين الذين يجب أن لا تضيع أرواحهم سدى. فهذه المعارك معارك غير وطنية. هي تصفية لحسابات شخصية على أسوأ الأمور، ومحافظة على نفوذ سلطوي وذاتي على أحسنها. سيبحث الأمنجية عن معركة وإذا لم يجدوا فسيحرقون طرمبة بنزين في الخرطوم، كما فعلوا في سبتمبر الأسود عند مقتل قرنق، ويتهمون بها منى أو عبد الواحد أو يغتالون شخص ويتهمون به الحلو أو غير من رجال الهامش. كلما ضبطنا أعصابنا وتحلينا بالصبر والحكمة، كلما ضيق بهم الخناق. أود أن أطمن الشعب السوداني إلى أن محنته كادت أن تزول بيد أن محنة الإنقاذيين والإسلاميين، المجرمين منهم، قد أوشكت على الابتداء. لا نملك أن نفعل شيء غير التفرج، والتحصين بقول موسى وهارون (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).
إن لم يكن فعل الإسلاميين هذا كفر، فلا ادر ما أكفر؟ مررنا كشعب، وقبائل، وأفراد بلحظات كانت فيها خيبات عظمي، جرائم واغتيالات، بل انكسارات، ، لكننا كنا نلتف في لحظة ما حول قيادة روحية/ فكرية تضئ لنا معالم الطريق وتخرجنا من الظلمات إلى النور. فالمهدية رغم بؤسها وإفكها لم تستمر فترة كافية، تُمَكِّنها من ضرب المكون الوجداني للشعب، والخليفة رغم عسفه وظلمه، فقد وقف هو وقومه وقفات ماثلة وماتوا ميتة باسلة، أورثتنا هزيمة ميدانية ولم تورثنا هزيمة معنوية. أمّا اليوم فالكينونة في اضمحلال والكيان لا سمح الله إلى زوال.
أذكر أنني قبل أربعة عقود زرت شيخاً (بمعني رجل مسن) من شيوخ الرزيقات اسمه قبة ولد التلب. وهو كبقية أهل السودان كان رجل بسيط، أخرج له العيال عنقريب من الكوزي (القطية) فجلسنا في فناء ليس له سور. دار بيننا حوار طويل قال لي في آخره. "يا وليدي، أهلك قالوا في أخر الزمن، الدار بِخَرْبوها اثنين: عب خايس أو غريب كايس الدار ." خربوها الأثنين؟ وهلبت يجوها الأحرار المستنيرين فتعمر بخبرتهم ودربتهم وتزدهر بحكمتهم ورحمتهم.
كيف لا تخرب الدار، ونحن نفقد في كل يوم رجال نحتاجهم للمرابطة على الثغور ونُهَجِّر عقول نحتاجها للتعمق في جليل الأمور. لو أن لي شجعان مثل السافنا لوضعتهم على الجبهات، ولو أن لي مفكرا مثل حيدر إبراهيم لوضعته في أعلى المقامات. ما لكم كيف تحكمون؟ الفارس لا يهان، فهو إن اختلف معك يرفع عنك. وهذه حكمة أهلنا الموروثة: إنَّك إن أهنت الفرسان لم تجد بداً من التعامل مع الخصيان. أنظر حولك. هل تجد من رجل أو امرأة الآن له أو لها قيمة في الفضاء العمومي، ذاك الذي عج بالارزقية والمتملقين والمخنسين والعاجزين، الأدهى المتربصين؟ هذه هي نتيجة الاستبداد.
إن للحكومة دور في توريط قبيلة الرزيقات من خلال الاستدراج لبعضهم وتكوين مليشيا منهم ومن غيرهم من أهالي دارفور، خاصة الابّالة. لقد استعانت ببعض كوادرهم في حربها ضد الزرقة، وهي إذ أحست بالحرج فقد الحقت بهم صفة الرسمية إلحاقاً، بمعنى أنّها أدرجت تلك القوات تحت طائلة القوات النظامية، بيد أنّ الإجراء يظل ناقصاً لم يتكمل، لأن قوات الدعم السريع حاليا تابعة للرئيس مباشرة، وغير تابعة للقوات المسلحة أو جهاز الأمن. ممّا يعني أنها ستواجه ذات الحرج القانوني، حال موت الرئيس أو تنحيه، مما يعني الرجوع إلى مربع واحد، الذي لم تعترف فيه مؤسسة المركز يوماً بتضحية الهامش أو تقيم وزنا لاستشهاده. لا يمكن أن نتكلم عن الخلاف بين حرس الحدود وقوات الدعم السريع، دون أن يشير ذلك حساسية خشم بيتية، لكنها حساسية سرعان ما يزول آمرها ويبطل ضررها عندما يعرف سببها. هذه كلها قوات حكومية وللدولة الحق في إعادة ترتيبها وبالكيفية التي تراها. والدولة إذ اختارت يوما ترفيع شخص، غير مراعية الأهلية، إنما فقط الاستلطاف الشخصي، فهي تملك أن تزيح ذات الشخص وتضع مكانه آخر وليس في ذلك مزية، فالرافعة غير أخلاقية ولا تستوجب وجود دعامة فكرية أو صرامة مهنية.
هذا من باب انشغالي بالشأن القبلي. أمر الشأن القومي فسيلتزم عدم الاكتراث بهذه التفاصيل أو صدع الرأس بسيناريو التغيير، إنّما الاعتكاف على تصميم منصة للسياسات يمكن أن ترفد قيادة السودان القادمة بدائل واستراتيجيات تنموية ناجعة.
إن دحض المؤامرات والأطماع الخارجية، لا يكون إلا بالتعويل، بل مزيد من التعويل، على الجبهة الداخلية. فتصدع الجبهة الداخلية له أسبابه معلومة ويمكن معالجتها إذ لن يجدى مطلقاً تعطيل البناء الوطني بحجة صد المتربصين والطامعين، فهؤلاء لن يجدوا فرصة أفضل من التفاوض مع قيادة أسيرة، مرتهنة، والأخطر خائفة. إذا علمنا بأن دولاً مثل روسيا والصين، والتي يعتبرها القادة الأفارق والعرب، دولاً عظمي وينبهرون ببهرجها، هي دول أشبه بدول العالم الثالث منها إلى العالم الأول كما بَيَّن جورج فريدمان في كتابه "المائة العام القادمة"(Friedman, 2010). روسيا دولة تفتقر إلى المؤسسية والشفافية، وليس لها مصدر ثراء غير الطاقة، إذ لم تستطع حتى الآن تنويع مصادر دخلها، ولم يسعفها حتى الآن غير وراثتها لترسانة نووية والاعتماد على أمجاد ماضوية -- تلك التي أفلت مع انهيار الاتحاد السوفيتي.
أمّا الصين فدولة فاسدة تستحوذ على اقتصاداتها عشرة أو خمسة عشر أسرة، تعاني من تصدع اجتماعي نتيجة التفاوت الاقتصادي المريع. وإذ لا يملك أن يشتري منتجاتها غير 300 مليون من عدد مليار وثلاثمائة مليون من مواطنيها، فهي مضطرة الي خلق طبقة وسطي قد تسبب لها أرقاً بسبب توجهها غير الديمقراطي. هذا من الناحية الرأسية أما من الناحية الأفقية فهي دول تتركز الثروة فيها على الساحل على حساب المناطق الداخلية، وتنتظر سهولها وأنهارها كارثة بيئية وإنسانية. يراهن جورن فريدما على تفوق أمريكا، المكسيك، تركيا واليابان ( أو ألمانيا)، لا أذكر جيداً.
لا يمكن لدولة تحترم نفسها وشعبها أن تتخذ مواقفاً سياسية كهذه دون الاسترشاد بسياسات ودون الاعتماد على أسس ومنهجية علمية. حتى يحدث ذلك لا بد من تغيير العقلية الأمنية ولابد من الاعتماد على مراكز أبحاث غير حزبية (أو دينية). زرت واشنطن مؤخراً، فوجدت نخبة من الشباب السودانيين يُحَضِّرون في كافة أقسام العلوم السياسية، وجلهم غير مسيس وغير مؤدلج، والأعظم أنهم يريدون خدمة بلدهم. لماذا لا تستعين بهم الدولة؟ لماذا لا تسهل السفارات للقاءات نوعية بين الخبراء الذين يقيمون في كآفة البقاع؟ فمتخذو القرار يحتاجون مستقبلاً التبصر بقضايا مثل التكامل الايكولوجي، الأمن الاستراتيجي، الاستراتيجية التنموية، المقدرة المؤسسية، التنوع الاقتصادي، التكامل البيئي، إلى أخره فالحكم لم يعد تحكماً إنما إحكام لدورة اتخاذ القرار التي تستلزم الاسترشاد بأسس منطقية وعلمية.
ختاماً، لا نحتاج في هذه اللحظات إلى اجترار المرارات وتصفية الحسابات، قدر ما نحتاج إلى وقفات تستوجب التأمل في المألات الأتية:
ضغطت المعارضة الفاشلة على الحكومة الحانقة، قبل عقدين؛ فتنازلت الأخيرة عن جنوب السودان. سعى الترابي لإفشاء حنقه من العسكريين فأحرقوا دارفور؛ سعى على عثمان توريط البشير في ملف الجنائية، فأوزع الأخير لقوش بتسليمهم ملف الإسلاميين، من كان منهم منافقا ومن كان مجاهداً أو مستضعفا حقاً؛ ناورت المعارضة بملف حقوق الإنسان (إنسان الوسط)، فطالت محنة الفور والمساليت، إذ ما زالوا قابعين في معسكرات ونال غيرهم حق اللجوء السياسي؛ ارتمت المعارضة في أحضان النظام المصري فطمع الأخير في مياه السودان وأرضه.
إذن هناك معارضة من أجل المعارضة، وسياسة من أجل البقاء في الحكم. وفي كل وقت هناك ردود أفعال، وأقوال لا يحكمها ضابط أخلاقي أو ديني أو وطني. لن نتخلص من هذا الليغ السياسي الفاشل بين عشية وضحاها، ولا يمكن اقتلاع هذه الدولة بسهولة، فتكوينها قد اتخذ عقوداً إذ لم نقل قرون وتحالفاتها قد أبرمت بدهاء وحيل تجاوزت حدود الدولة الجغرافية ومنطق التاريخ. وهم لن يرعوا إن نحن دفعناهم نحو الحائط على تدمير ما بقى من البلاد. عليه فلابد من التفكير في توفير معادلة تهيئ لهم ملاذا وتجعل للشعب خلاصاً. أرجوكم، هذا البلد غني وعضمو قوي، وما سرقوه لا يمكن استعادته، فكل ما يلزمنا فعله إيقاف النزيف والتحضير لفترة انتقالية مُطَوَّله لا تستبعد منها جهة، إنما يكون فيها التدقيق على أهلية من تنتدبه تلك الجهة.
لبناء الوطن الجميل الذي يسع الجميع نحتاج إلى قضايا أساسية، منها ما يلي: رؤية أخلاقية (وطن في سلام مع ذاته والأخرين)، استراتيجية تنموية (يكون فيها التعويل على التنمية الريفية الشاملة)، ومقدرة مؤسسية (يكون فيها استقطاب لكافة الكفاءات الوطنية). نحتاج إلى جهاز إداري صغير جدا وفاعل، نحتاج إلى دستور علماني يأخذ مسافة متساوية من الكل، نحتاج إلى سياسة خارجية تكون أولى أولياتها تنموية (بمعنى أخر مصلحية)، نحتاج إلى رجل (أو امرأة) مُشَرِّف يتولي تمثيلنا في المنتديات الإقليمية والدولية. وهذا سيكون سهلا، إذا ما تخلصنا من الأوهام الأيديولوجية. لا نحتاج أن نستجدى شخص، كل ما نحتاجه تقنين سبل الشفافية والمحاسبة، الأهم الاتساق مع ذاتنا الحضارية، التي تستلزم إعطاء الأولية لشخصيتنا الزنجية والأفريقية النوبية والإسلامية الصوفية، والتعاطف مع كافة قضايا الإنسانية، دونما اندفاع أو حماس يجعلنا كاثوليك أكثر من الملك.
إن موقعنا الجغرافي وعمقنا التاريخي سيهدينا إلى نوع الخطة الاستراتيجية والتنموية التي يمكن تصميمها. الموضوع لا يحتاج الي عبقرية، فقط يحتاج الي فراسة روحية. إن مدرس الجغرافيا في الأولية قد أخبرنا عن درب الأربعين، وببصرنا بأهمية التعرف على رحلة الحجيج. هل نحتاج بعد ذلك إلى ضجيج؟ لن يسعني تقديم دروس خصوصية في كل مقالة مفاهيمية للمبتدئين، كل ما أود فعله هو إقناع "الديك" بأنه طائر جميل وأن الحبة قد ادخرت له أكلاً ولم تفتعل له قنصاً. وإذ قد فشل الكتاب والمفكرين في هذه المهمة، أي إقناع "الديك" بضرورة الذهاب إلى بيته والاستمتاع مع أسرته بمزرعته، فقد أضاع من عمرنا الكثير وازهق من أرواحنا ما هو غير قليل، فلعل الفقراء (بتاعين السفلى)، والذين اتخذوهم الوزراء مستشارين وخبراء يمكنهم أن يسقوه محاية تكون له دواية وللشعب وقاية. لن يعد هناك مجالاً للمناورة، فأرجو أن لا تعدموا البصارة!
Comments
Post a Comment