شلن
رواية
(1)
طرقات ثلاث، على باب "الزنكي"، تبدو كالرعد، في سكينة الليل، نامت القرية، الكلاب، الثيران، الماعز، حشرت ذيولها تحت صلبها، ضمت أرجلها لحجرها، غرقت مع أهل البلدة في سلطان النوم، حتى الملائكة المؤكلة بأهل البلدة، استرخت نعسة، جذلى، لاشئ تلحظه، أو تكتبه، تتسلى بمراقبة أحلامهم وغرابتها، استغل نقاط الزير، هذا الهدوء الفطري، أعلن عن نفسه، فارسا على مملكة الصمت، بأيقاع رتيب، مشيعا للنفس، في ذلكم السكون، سر الوقت، بين كل نقطة وأخرى، ما الوقت؟ بأي أرجل يجري، ومن أي جهة جاء، ومتى يقف، وأين؟ من يسمع وقع قدميه، حتى علت تلكم الطرقات.
عيوني مفتحة، تصنعت النوم، من يراني في الظلمة؟، كم للظلام من بركات، وإحسان، نائم وعيوني مفتحة.
عادت الطرقات الثلاث أقوى، بالعصى هذه المرة، إنسان في ورطة، صدى الصوت، موج حتى الماء في فم البرميل والزير، عجلتنا الصغيرة، أكسل من حجر، رفعت ارسها نعسة، عكس صدى الصوت، ثم غفت، اعتبرته جزء من كابوس حلم مزعج.
خالي دفع الله، رفع راسه عن العنقريب، وهو يهمهم "اللهم أجعله خير"، ثم صاح :
• بسم الله، الرحمن، الرحيم، علو مافي عوجة، ده منو البدق الباب؟
• أنا جحا ياعمي
• خير، ان شاء الله ماعندكم زول ميرود؟
• لا.. أبوي حمد داير حجارة بطارية للرادي.
سب خالي في سره الحياة، والتجارة، والدكان، وحجارة البطارية، أهذا وقت شراء حجارة بطارية للرادي؟، بعد أن نامت حتى الملائكة الموكلة بأهل القرية، رفعت أقلامها، وطوت كتابها، اتسعت عيونها الجميلة، من دوي الطرق، وهى حيرى، أتكتب خطايا الأحلام؟، سرتها أحلام بني آدم، ابتسمت لنفسها (كم ماكر بني آدم في يقظته، وحلمه)، الولي يرقص "تويستي"، وحاجة نعمة ترقص عارية بغنج عظيم، تركتهم وشأنهم، وهي تصغي إلى تسبيح النجوم الواهنة، وأغنيات ضوءها، ما أسعدها، تعرف لغات الحصى، والنجوم، والأسماك النائمة، أحسست بالصمم، حيالها، ما أسعد أذن الملائكة، تسمع كل شئ.
صاح خالي، وهو يوجه حديثه لعنقريبي، وقد رفع راسه عن مخدة سمراء، صعلته ترقش، من زيت المسوح، فوق عنقريب عار من لحاف، وأنا راقد تحت دفء الفردة الدمورية:
ياجنى قوم شيل مفتاح الدكان، أنا تعبان وولع الفانوس وأدي الجنى ده حجارة.
ثم واصل حديثه، وهو يسأل جابر.
• طلق "جرورة"، ولا حاضر؟؟.
• رد جحا من وراء الباب، صائحا: طلق ياعمي.
• دحين أبوك ما اشترى معزة أمس من السارة؟
سئل خالي مستنكرا الدين.
لم يرد جحا.
ليت الليل يخفي الصوت، ولكن صوت خالي، ركض في الظلام، كأن بيده فانوس سحري، حتى وصل أذني، فنهضت متكاسلا.
مددت يدي تحت مخدة خالي، رفع لي طرفها، وجدت علبة نيفيا قديمة، باااردة، مليئه بالصعود، أزحتها وبحثت عن مفتاح الدكان، عثرت عليه، ومعه مفتاح الحوش والخزنة، ثلاثة مفاتيح كبيرة، كأنها فرش أسنان حديدية، لا تفارق بعضها، كما لا تفارق جيب خالي، وقلبه، يحملها خالي أنى توجه، لعزاء، أو فرح، أو صلة رحم، أو عشق، أو ضريح الشيخ أبوشملة، مربوطة مع بعض بخيط دبارة، لونه كالطين من من قبضة يد خالي، والتي لا تخلو من اثر زيت، أو جاز، أو دقيق، أو غبار عالق على أكياس الشعيرية، والمكرونة، حين يتناولها، والتي ترقد في الرف، مثل الدجاج، شهور طويلة.
جيب خالي اليمين، بقعة سوداء في جلبابة الأبيض، يبدو كغرة سوداء يمين الجلابية الناصعة البياض، متسخ دوما بالزيت، والجاز، وبقايا الطحنية، والمحلبية، دخول يد خالي وخروجها المتكرر، بوعي أو دون وعي، لم يجدي غضب خالتي "سكينة"، (كل جلاليبك "شربت"، بسبب زيت دكانك السجم ده)، (الظهرة مانفعت معاها)، كأنها تحادث نفسها، وليس خالي، الصامت دوما.
لم أوقد الفانوس، كان موجودا داخل الغرفة الكبيرة، أرتعشت من خاطرة مرت بذهني كالسهم، أن تلدغني عقربا في الظلمة.
(يالنبي نوح)!!.
قلتها في سري، أعرف الدكان ورفوفه من ضوء ذاكرتي، وشمي، فتحت باب الحوش، همس لي جحا ("هنا أمدرمان" عرفنا اشترينا معزة السارة كيف؟)، كنا نسمي خالي (هنا أمدرمان)، لأنه يجلس في عرشه، لا يبرحه، إلا نادرا، ولكن الأخبار تأتيه، طواعية، وكرها، ضحكت في سري، ثم فتحت باب الدكان، ظلام دااامس، تقهره ذاكرتي، وشمي، مررت بطرق متلوية بين شوالات الأمباز، والقلنقيز، والنبق، والبامية الجافة، مددت يدي، بعد أن تسلقت شوال السكر، أحسست بخيوط عنبكوت، تحرس الحجارة؟ أم طال بها الوقت في الرف، أعطيت جابر أربعة حجارة بطارية، "فريدي"، مغلفة بكيس سميك، كل أثنين ملفوفة مع بعضهما، تحب بعضها هيام عشق، من أجل أن تبث قبلاتها المحمومة الروح في الرادي "المذياع".
أعطيته قبضة بلح في يده اليمني، كما خطف هو بسرعة قبضة نبق بيده اليسرى، لن يفوت في هذه الظلمة المباركة فرصته، بل فرصتنا.
أسمه جابر، نلقبه بجحا، أعز اصدقائي، يمكن وصفه بالزير، دون تردد، إنه عبارة عن زير ماء، كبير البطن، تحمله قنايتين، مقوستين،كأنه يضع بين رجليه طبل غير مرئي، مثل ضابط إيقاع الفرق الشعبية، دون أن ينقره، أنى سار، وأكاد أقسم، لوقف في تحت ظل السبيل، وكان يرتدي لون احمر داكن، لأخذت الكوب كي تغرف من رأسه الماء، ولن يخزلك، حتى في سخريتك هذه، فرأسه ماء زمزم، عذب كنهر الكوثر، لامحال ستغرف منه.
حوشنا كبير، تتناثر العناقريب فيه، ننام ونلتحف السماء، قبيل أن نصل باب الحوش، مررنا بعنقريب أختي الصغيرة، صحت من نقر الباب، واتعست عيونها مثل الملائكة، وهي تهمس ساخرة "جحا العوير، بطنو زي الزير"، كيسوع أسمر، مسح رأسها، ووضع تحت مخدتها قبضة نبق، ومضينا نحو الباب، في ليل كالشعر، كقلب جحا.
قرصني خالي من أذني اليسرى، وأنا نعس أمد له يدي، كي أسلمه مفتاح الدكان، "بطنك ياجنى بطق من النبق".
يا لغفلتي، نسيت أن الظلمة تحجب النبق عن عين خالي، ولكن انفه الصغير، الحاد، يشم رائحة النبق، في سابع الظلمات، ليت بمقدور الظلمة أن تخفي الرائحة أيضاً، ليتها، مثلما اخفت شاربي الأبيض، من نثار السكر المدقوق، الذي يحيط بحلاوة لكووووم.
نامت خالتي، وأختي سعدية، وخالي، والبقرة الصفراء (الجاز)، والبيضاء (عواطف)، القطط الثلاث "حسن وحسين، وحسنين"، لكل كائن نعت في بيتنا، أغمضت عيونها، وضعت كلبتنا رأسها الماكر على رجليها الأمامية، أضحك في سري، لحكايتها، كانت أنحف من مسلة "إبرة"، والآن أسمن من عجلتنا، بسبب "ربع كيلو اللحمة اليومي من السرة"، فكها يبدو برئيا، وكأنها لم تطارد عم اليسع، في طرقات الحلة، حتى أنحشر مع السرة، في حمامها الطيني، وهي عارية، هوت ملابسها، سروالها، وفستانها، خارج الحمام، من الطاقة الصغيرة، من نفث انحشاره المباغت العظيم، طار الفستان وخلفه السروال، كأنها تخجل هي الآخرى، حتى هوت فوق بعضها، قرب تجمع أهل البلدة، والسرة واليسع في بطن الحمام، والكلبة تحرس الباب، كان أعجب وأسرع زواج، زواج السرة، وهي البائرة في ربوع القرى، وحين عقد عليهما، عصر ذلك اليوم، فقد ظل حبيس الحمام ربع ساعة، حتى كف النباح، فخرجا معا، مستحم هو الآخر، بالعرق، عاري، سوى سرواله، وهي تلبس جلبابه، أقسمت السرة أن تبر بوعدها لكلبتنا، فصارت تشتري لها كل يوم ربع كيلو، وتحرسها كي تأكلها لوحدها، وهي تحمل العصى لأي كلب متطفل، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ّ..
لم أكد أضع رأسي على المخدة الباردة، حتى تعالى مذياع عمي حمد، وهو ينفث صوت إبراهيم الكاشف كبخور في ليل القرية، انتهزت رقة صوته، نوم وابور الطاحونة، والبيارة، ولغط نساء القهوة، لتنشر شذاها من حوش لآخر، فتأنس لها عيون الأبقار، وقلوب الماعز، والعذارى، فتحتل مع ضوء النجوم، ورائحة النهر، سماء القرية الهادئة، سر الموسيقى الأبدي، يبلل سره النفوس النعسة والحالمة، حتى الأحلام، تنغرس فيها الموسيقى، بلا نقر، أو طرق باب كجحا، فتغرق النفوس في سلطان النوم الغريب، وسلطان الحلم الأغرب.
عمي حمد، مولع بالفنان الكاشف، يضع على طربيزة خشبية خضراء راديو قديم، تعطل صندوق الحجارة، أفسده الدهر، كعادته، في تحطيم كل شئ بصبر عجيب، وأيدي لا مرئية، تبلي كل شئ، حبل قماش يشد حجارة البطارية إلى ظهر الرادي "المذياع"، مثل أطفال الفلاتيات السعداء، واللذين أغطبهم على المرحجة طوال الوقت، كلما تراقص جسد أمهم، حاجة عشة، حين تدق جوالات الفول السوداني، أو الويكة، بفندك خشبي كبير ، أمام فسحة دكان خالي، وهي متعبة من الدق، تنحني وتقوم، والطفل المحظوظ المربوط خلفها يحسبها تمرجحه، فتشق ضحكته الفسحة، متناغمة مع قلبها، وصوت الفندق، مليون حرفة، ولهو، في ذات الوقت، ما أثرى هذه الأم، مثل ثراء جلبابها الزاهي بألف لون ناصع.
(فقرات من الفصل الأول)
رواية
شلن
عشرة فصول
رواية
(1)
طرقات ثلاث، على باب "الزنكي"، تبدو كالرعد، في سكينة الليل، نامت القرية، الكلاب، الثيران، الماعز، حشرت ذيولها تحت صلبها، ضمت أرجلها لحجرها، غرقت مع أهل البلدة في سلطان النوم، حتى الملائكة المؤكلة بأهل البلدة، استرخت نعسة، جذلى، لاشئ تلحظه، أو تكتبه، تتسلى بمراقبة أحلامهم وغرابتها، استغل نقاط الزير، هذا الهدوء الفطري، أعلن عن نفسه، فارسا على مملكة الصمت، بأيقاع رتيب، مشيعا للنفس، في ذلكم السكون، سر الوقت، بين كل نقطة وأخرى، ما الوقت؟ بأي أرجل يجري، ومن أي جهة جاء، ومتى يقف، وأين؟ من يسمع وقع قدميه، حتى علت تلكم الطرقات.
عيوني مفتحة، تصنعت النوم، من يراني في الظلمة؟، كم للظلام من بركات، وإحسان، نائم وعيوني مفتحة.
عادت الطرقات الثلاث أقوى، بالعصى هذه المرة، إنسان في ورطة، صدى الصوت، موج حتى الماء في فم البرميل والزير، عجلتنا الصغيرة، أكسل من حجر، رفعت ارسها نعسة، عكس صدى الصوت، ثم غفت، اعتبرته جزء من كابوس حلم مزعج.
خالي دفع الله، رفع راسه عن العنقريب، وهو يهمهم "اللهم أجعله خير"، ثم صاح :
• بسم الله، الرحمن، الرحيم، علو مافي عوجة، ده منو البدق الباب؟
• أنا جحا ياعمي
• خير، ان شاء الله ماعندكم زول ميرود؟
• لا.. أبوي حمد داير حجارة بطارية للرادي.
سب خالي في سره الحياة، والتجارة، والدكان، وحجارة البطارية، أهذا وقت شراء حجارة بطارية للرادي؟، بعد أن نامت حتى الملائكة الموكلة بأهل القرية، رفعت أقلامها، وطوت كتابها، اتسعت عيونها الجميلة، من دوي الطرق، وهى حيرى، أتكتب خطايا الأحلام؟، سرتها أحلام بني آدم، ابتسمت لنفسها (كم ماكر بني آدم في يقظته، وحلمه)، الولي يرقص "تويستي"، وحاجة نعمة ترقص عارية بغنج عظيم، تركتهم وشأنهم، وهي تصغي إلى تسبيح النجوم الواهنة، وأغنيات ضوءها، ما أسعدها، تعرف لغات الحصى، والنجوم، والأسماك النائمة، أحسست بالصمم، حيالها، ما أسعد أذن الملائكة، تسمع كل شئ.
صاح خالي، وهو يوجه حديثه لعنقريبي، وقد رفع راسه عن مخدة سمراء، صعلته ترقش، من زيت المسوح، فوق عنقريب عار من لحاف، وأنا راقد تحت دفء الفردة الدمورية:
ياجنى قوم شيل مفتاح الدكان، أنا تعبان وولع الفانوس وأدي الجنى ده حجارة.
ثم واصل حديثه، وهو يسأل جابر.
• طلق "جرورة"، ولا حاضر؟؟.
• رد جحا من وراء الباب، صائحا: طلق ياعمي.
• دحين أبوك ما اشترى معزة أمس من السارة؟
سئل خالي مستنكرا الدين.
لم يرد جحا.
ليت الليل يخفي الصوت، ولكن صوت خالي، ركض في الظلام، كأن بيده فانوس سحري، حتى وصل أذني، فنهضت متكاسلا.
مددت يدي تحت مخدة خالي، رفع لي طرفها، وجدت علبة نيفيا قديمة، باااردة، مليئه بالصعود، أزحتها وبحثت عن مفتاح الدكان، عثرت عليه، ومعه مفتاح الحوش والخزنة، ثلاثة مفاتيح كبيرة، كأنها فرش أسنان حديدية، لا تفارق بعضها، كما لا تفارق جيب خالي، وقلبه، يحملها خالي أنى توجه، لعزاء، أو فرح، أو صلة رحم، أو عشق، أو ضريح الشيخ أبوشملة، مربوطة مع بعض بخيط دبارة، لونه كالطين من من قبضة يد خالي، والتي لا تخلو من اثر زيت، أو جاز، أو دقيق، أو غبار عالق على أكياس الشعيرية، والمكرونة، حين يتناولها، والتي ترقد في الرف، مثل الدجاج، شهور طويلة.
جيب خالي اليمين، بقعة سوداء في جلبابة الأبيض، يبدو كغرة سوداء يمين الجلابية الناصعة البياض، متسخ دوما بالزيت، والجاز، وبقايا الطحنية، والمحلبية، دخول يد خالي وخروجها المتكرر، بوعي أو دون وعي، لم يجدي غضب خالتي "سكينة"، (كل جلاليبك "شربت"، بسبب زيت دكانك السجم ده)، (الظهرة مانفعت معاها)، كأنها تحادث نفسها، وليس خالي، الصامت دوما.
لم أوقد الفانوس، كان موجودا داخل الغرفة الكبيرة، أرتعشت من خاطرة مرت بذهني كالسهم، أن تلدغني عقربا في الظلمة.
(يالنبي نوح)!!.
قلتها في سري، أعرف الدكان ورفوفه من ضوء ذاكرتي، وشمي، فتحت باب الحوش، همس لي جحا ("هنا أمدرمان" عرفنا اشترينا معزة السارة كيف؟)، كنا نسمي خالي (هنا أمدرمان)، لأنه يجلس في عرشه، لا يبرحه، إلا نادرا، ولكن الأخبار تأتيه، طواعية، وكرها، ضحكت في سري، ثم فتحت باب الدكان، ظلام دااامس، تقهره ذاكرتي، وشمي، مررت بطرق متلوية بين شوالات الأمباز، والقلنقيز، والنبق، والبامية الجافة، مددت يدي، بعد أن تسلقت شوال السكر، أحسست بخيوط عنبكوت، تحرس الحجارة؟ أم طال بها الوقت في الرف، أعطيت جابر أربعة حجارة بطارية، "فريدي"، مغلفة بكيس سميك، كل أثنين ملفوفة مع بعضهما، تحب بعضها هيام عشق، من أجل أن تبث قبلاتها المحمومة الروح في الرادي "المذياع".
أعطيته قبضة بلح في يده اليمني، كما خطف هو بسرعة قبضة نبق بيده اليسرى، لن يفوت في هذه الظلمة المباركة فرصته، بل فرصتنا.
أسمه جابر، نلقبه بجحا، أعز اصدقائي، يمكن وصفه بالزير، دون تردد، إنه عبارة عن زير ماء، كبير البطن، تحمله قنايتين، مقوستين،كأنه يضع بين رجليه طبل غير مرئي، مثل ضابط إيقاع الفرق الشعبية، دون أن ينقره، أنى سار، وأكاد أقسم، لوقف في تحت ظل السبيل، وكان يرتدي لون احمر داكن، لأخذت الكوب كي تغرف من رأسه الماء، ولن يخزلك، حتى في سخريتك هذه، فرأسه ماء زمزم، عذب كنهر الكوثر، لامحال ستغرف منه.
حوشنا كبير، تتناثر العناقريب فيه، ننام ونلتحف السماء، قبيل أن نصل باب الحوش، مررنا بعنقريب أختي الصغيرة، صحت من نقر الباب، واتعست عيونها مثل الملائكة، وهي تهمس ساخرة "جحا العوير، بطنو زي الزير"، كيسوع أسمر، مسح رأسها، ووضع تحت مخدتها قبضة نبق، ومضينا نحو الباب، في ليل كالشعر، كقلب جحا.
قرصني خالي من أذني اليسرى، وأنا نعس أمد له يدي، كي أسلمه مفتاح الدكان، "بطنك ياجنى بطق من النبق".
يا لغفلتي، نسيت أن الظلمة تحجب النبق عن عين خالي، ولكن انفه الصغير، الحاد، يشم رائحة النبق، في سابع الظلمات، ليت بمقدور الظلمة أن تخفي الرائحة أيضاً، ليتها، مثلما اخفت شاربي الأبيض، من نثار السكر المدقوق، الذي يحيط بحلاوة لكووووم.
نامت خالتي، وأختي سعدية، وخالي، والبقرة الصفراء (الجاز)، والبيضاء (عواطف)، القطط الثلاث "حسن وحسين، وحسنين"، لكل كائن نعت في بيتنا، أغمضت عيونها، وضعت كلبتنا رأسها الماكر على رجليها الأمامية، أضحك في سري، لحكايتها، كانت أنحف من مسلة "إبرة"، والآن أسمن من عجلتنا، بسبب "ربع كيلو اللحمة اليومي من السرة"، فكها يبدو برئيا، وكأنها لم تطارد عم اليسع، في طرقات الحلة، حتى أنحشر مع السرة، في حمامها الطيني، وهي عارية، هوت ملابسها، سروالها، وفستانها، خارج الحمام، من الطاقة الصغيرة، من نفث انحشاره المباغت العظيم، طار الفستان وخلفه السروال، كأنها تخجل هي الآخرى، حتى هوت فوق بعضها، قرب تجمع أهل البلدة، والسرة واليسع في بطن الحمام، والكلبة تحرس الباب، كان أعجب وأسرع زواج، زواج السرة، وهي البائرة في ربوع القرى، وحين عقد عليهما، عصر ذلك اليوم، فقد ظل حبيس الحمام ربع ساعة، حتى كف النباح، فخرجا معا، مستحم هو الآخر، بالعرق، عاري، سوى سرواله، وهي تلبس جلبابه، أقسمت السرة أن تبر بوعدها لكلبتنا، فصارت تشتري لها كل يوم ربع كيلو، وتحرسها كي تأكلها لوحدها، وهي تحمل العصى لأي كلب متطفل، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ّ..
لم أكد أضع رأسي على المخدة الباردة، حتى تعالى مذياع عمي حمد، وهو ينفث صوت إبراهيم الكاشف كبخور في ليل القرية، انتهزت رقة صوته، نوم وابور الطاحونة، والبيارة، ولغط نساء القهوة، لتنشر شذاها من حوش لآخر، فتأنس لها عيون الأبقار، وقلوب الماعز، والعذارى، فتحتل مع ضوء النجوم، ورائحة النهر، سماء القرية الهادئة، سر الموسيقى الأبدي، يبلل سره النفوس النعسة والحالمة، حتى الأحلام، تنغرس فيها الموسيقى، بلا نقر، أو طرق باب كجحا، فتغرق النفوس في سلطان النوم الغريب، وسلطان الحلم الأغرب.
عمي حمد، مولع بالفنان الكاشف، يضع على طربيزة خشبية خضراء راديو قديم، تعطل صندوق الحجارة، أفسده الدهر، كعادته، في تحطيم كل شئ بصبر عجيب، وأيدي لا مرئية، تبلي كل شئ، حبل قماش يشد حجارة البطارية إلى ظهر الرادي "المذياع"، مثل أطفال الفلاتيات السعداء، واللذين أغطبهم على المرحجة طوال الوقت، كلما تراقص جسد أمهم، حاجة عشة، حين تدق جوالات الفول السوداني، أو الويكة، بفندك خشبي كبير ، أمام فسحة دكان خالي، وهي متعبة من الدق، تنحني وتقوم، والطفل المحظوظ المربوط خلفها يحسبها تمرجحه، فتشق ضحكته الفسحة، متناغمة مع قلبها، وصوت الفندق، مليون حرفة، ولهو، في ذات الوقت، ما أثرى هذه الأم، مثل ثراء جلبابها الزاهي بألف لون ناصع.
(فقرات من الفصل الأول)
رواية
شلن
عشرة فصول
Comments
Post a Comment