Skip to main content

حيــن تعــشـق الـدوحــة ------- د. سعاد درير


لا أُنْكِر أنني إلى حدود سنوات قريبة لم أَكُنْ أَهتمّ بالشأن العربي ولم يَكُنْ يهمّني أن أعرف شيئا عن العالَم الخارجي سوى القليل جدا. بيت القصيد قطر، وكل ما كنتُ أعرفه عن قطر (التي من غريب الأمر أنني كنت أتصورها قائمة في القارة الإفريقية) ما كانت تَلْتقَطِهُ عيناي بين الفينة والأخرى من صور صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر بكامل أناقتها وذوقها الذي كان يَشغلني رغم صغر سني في ذلك الزمن نسبيا.
وأين كُنْتُ أَجِدُ تلك الصور؟!
كنتُ أَعثر عليها في مجلات عربية كنتُ أُصادِفها، لكنني أَعترف بأنني كنتُ مَهووسة بعالَم الأناقة والبحث عن الأزياء الْمُغْرِية ولو من باب الإبحار في الحُلم بأن أُصْبِحَ مبتكرةَ أزياء في الوقت الذي كانت تَتحدث فيه المجلات عن إنجازات هذه السيدة (الواثقة الخطوات الفكرية) هناك وهنالك، إنها المرأة التي أضافَت الشيءَ الكثير إلى تاء التأنيث بحكم الجهود التي بَذَلتَهْا لإنصاف المرأة والإشادة بوعيها وحكمتها وحُسن تدبيرها وتسييرها وحِرصها على أن تَكون قطر حاضرة بقوة بِناءً على مساعي تحققَتْ أهدافها في ظِلّ قيادة السيدة الأولى لهذه الإنجازات الممتدة إلى خارج قطر.
كلما تُذْكَرُ قطر تُذْكَر معها الدوحة، الدوحة التي عَلَّمَتني سهر الليالي (في بداية رحلتي العلمية الحقيقية مع مشاق البحث) أن أنتبه إلى اسمها بثقل وزنه في مجلة «الدوحة» الثقافية التي كانت قبل بداية الزمن الافتراضي من أُمَّهَات المجلات الثقافية والفكرية العربية التي شَكَّلَتْ محكّا لاختبار الْمُفَكِّر الحقيقي من شِبْهِه والْمُثَقَّف من نِصفِه أو رُبْعِه.. ومازالتْ سِراجاً وَهَّاجاً.
الدوحة اليوم في قمة فتنتها وبهائها لا يَسمح حُرَّاسها من أبنائها الأبرار بأن يَقرأَ الواحدُ منهم في عينيها نَظْرَةَ انكسار..
في هذه الورقة المضغوطة يُلْقَى بعض الضوء على مفهوم ثقافة الاعتراف، بوصفها النص الغائب عند مَنْ لا يَعرِف ما تُمثله المدينة وما يَعنيه المكان.
للمكان رائحة، وللمدينة رائحة، وأنا أعترف في كل مناسَبة بأن رائحة المدينة تُعيدُ إلى رئتي الباردة قَبَسَ الأوكسيجين الذي لا يمكنني أن أتأقلَمَ بعيدا عنه مهما أَغْرَتْنِي الْمُدُنُ الأخرى وسَحَرَتْنِي.
زرتُ عواصمَ الشمال والغرب والجنوب في مغربي الغالي، ولم أَجِدْ مثل عَروس الشرق مُحيطا تَهيم في مياهه سفينةُ قلبي لِتَنْتَقِيَ ما شاءَتْ من لؤلؤ.. مدينتي جوهرة مكنونة في قلبي ووجداني، أنا لها يَنْبُوع حُبّ، لا يَنْضُب، وهي لي الحَبّ، الحَبّ الذي به تَتَغَذَّى عصافير القلب، قلبي..
شيء ما يَحدث لي وأنا خارج مدينتي يُشْعِرُني بالنقصان مهما بَدَتْ للآخرين الأشياءُ تامَّةً. إنه هواء مدينتي، الهواء الذي بمجرد العودة إليها يَتسلل إليَّ كنسيم ربيع حالِم تَشتهيه الأنفاس وتتراقص له فراشات الحُبّ وتَتَفَتَّح له ورود الرغبة في قطف عنب المحبة..
وأنا عائدة إلى مدينتي أَشُمُّ في هوائها القادِم من بعيد رائحةَ أُمِّي.. فكأنني أرتمي في أحضانها لأعانقَها كما لم تُعانَق أُمّ من لحم ودم..
المدينة التي يَكبر فيها حُبُّكَ للأرض ليست بشيء آخر غير الرئة الثالثة التي عَبْرَها فقط يَتَسَرَّبُ الهواء النقي الذي لن تَجِدَ ذرة منه في الأماكن الأخرى مهما فَتَنَتْكَ وحاولتْ أن تُعْمي عينيكَ عن سِواها..
قد لا تُصَدِّق يا صديقي أن بينك وبين مدينتك مشاعر تَهْفُو إليها نفسُك لا تختلف عن علاقة الْمُرِيد بشيخه، أو علاقة العاشق بِمَن يَهواها.. فإمّا أن تُرَبّي الأملَ في وصلها وتجديد لقياها إذا لم تَحُلْ بينكما المقادير، وإمّا أن تَستسلم لِحَرّ المسافات لِيَمتحقَ قلبَكَ امتحاقا وفي المقابل تُرَبِّي أنتَ السُّكَّر والضَّغط..
ولأن المقام مقام الدوحة، لنحاول الاقتراب أكثر من هذا الصَّرْح.
في معاجم اللغة سنَجِد أن التسمية تختزن في رحمها من المعاني ما نَراه متحققا بالفعل على أرض الدوحة المدينة بشهادة أبنائها ومُعَمِّرِيها:
- الدَّوحة: مفرد لِـ: «دَوْح» و«أدواح» و«دَوْحات» و«دَوَحات».
- الدوحة: الشجرة الوارفة الظلال..
- الدوحة: الشجرة العظيمة المتشعبة الفروع امتدادا..
- الدوحة: الشجرة العالية المتسعة..
- الدوحة: المظلة الكبيرة.
- الدوحة: شجرة النسب ذات الكرم والحسب.
والآن، أما آنَ لكَ أن تَصدح كطيورها معلنا حُبّك لها وتَعلُّقك بالجذع والجذور إذا كانت هي الشجرة الأُمّ (الدوحة) تَستحق ذلك وهي صاحبة الفضل عليهم؟!
ما تُوفره الشجرة هو الدفء، وما تَبحث عنه العصافير هو الدفء. وكل معاني الأمان والاستقرار والحماية والإحساس بالطمأنينة تُعادل مفهومَ الدفء.
دوحتهم هي قصيدة غَزَل تَتَجَسَّدُ في صورة أنثى تَشْتَهيها العيون وتَسْكُنُها الأفئدةُ.. يَضُوع عِطرُها لِتَنحني لها الأنفاس ويَكبر بها الإحساس في الحضور والغياب..
بإحساس يترنح ثمالةً من شدة الإعجاب ستَتَلَقَّف صُداحَ العصافير التَّوَّاقة إلى شجرتها، دوحتها.. وهذه رُوحٌ شَفَّافة مُرْهَفَة لَفَحَتْنِي أنفاس حروفها التي تَبصم بعِشق خرافي للدوحة يَذبحها إذا عزّ اللقاءُ كأنها تُردد بلسان أُمّ كلثوم «واحشني وانت قصاد عيني» وتَقول ملء الشوق، ملء الهيام، ملء الوَلَه: «دوحة الخير، مدينة الشعر والحُبّ، أنا لها روح عاشقة، وقد وقعتُ في هواها ونخلها وبحرها وطيب هواها وأهلها.. لا أجد اسما رومانسيا لوصفها.. هي تُزاحم العشق الأول.. أبحث عن روحها، أنظر في وجوه أهلها وأتقصى تفاصيل شخصياتهم.. أهيم في الأزقة والأسواق، أضم إلى مقتنياتي أجزاء مما ميزها ويميزها من قديم أو جديد.. الدوحة، المدينة الصبية الجميلة، زرقاء المحيط، حنطية الصحراء، واسعة السماء، سخية الشمس، لطيفة الشتاء، عميقة الذاكرة، ذات سكينة مهما أظهَرَت الصخب.. أراها اليوم تلوح لي بخجل العذارى، تعدل خمارها بأنامل أميرة عن خصلة متمردة وتنعطف ملقية بسمة من محياها الملكي الملامح، فتلهمني قصيدةً لم ينظم مثلها شاعر من قبل..».
في مناسَبة كهذه لن أنسى ما قالته الشقراء الجميلة سمر الأشقر مُخْلِصَةً لبيتها الكبير، فإذا بكلماتها تَعبر قلبَك دون استئذان بهمس صوتها (الكلمات) الذي يَجعل منك الْمُتَيَّم النشوان بحُبّ المكان.. صوت حروف سمر يَكتب قصيدةَ عشق لا يختلف عما يَفعل بك صوتُ خلخال يُعَلِّق قلبَك، خلخال مُعَلَّق بِقَدَم حورية هاربة من بحر الشوق إلى الشوق:
«..غادرتُ دولة قطر في مستهل هذا العام، لكن قلبي ظل كهلال عالق فوق نخلها يكبر ويكتمل ثم يغيب ليعود..» (سمر، بلا ولا شيء).
شيء من الحُبّ مع كل عنقود اعتراف يَتَدَلَّى، كيف لا وسمر دالية إحساسٍ، إحساس ما أَرَقّه يَنبعث من دواخل امرأة من الزمن الجميل هاربة من الموج إلى الموج وهي سيدة شاطئ القلب التي إذا كَتَبَتْ أَجَادَتْ، وإذا قَالَتْ صَدَقَتْ. 

بقلم : د. سعاد درير

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe