«هُناك افتراضٌ أن مشكلة السرطان يمكن حلها بالمال. أو أن إنفاق الأموال سيخلق طريقًا إلى الحل. لكنني أظن أن علينا التفكير من أجل الوصول إلى طريق الحل».
قائل هذه العبارة ليس عالمًا بالأساس بمرض السرطان، وإنما هو دخيلٌ على المجال. هو بول ديفيز، عالم الفيزياء النظرية بجامعة ولاية أريزونا بالولايات المتحدة، ولم يكن يفكِّر في إجراء الأبحاث على مرض السرطان قبل تلقيه اتصالًا من أنَّا باركر، نائبة مدير معهد السرطان الوطني الأمريكي، تخبره فيها عن مبادرة تسعى إلى جلب معارف العلوم الفيزيائية –مثل الكيمياء والجيولوجيا والفيزياء– إلى مجال أبحاث السرطان.
وعلى مدار بضعة أعوام من تأمل السرطان ودراسته، خرج ديفيز بنهجٍ ثوري في فهم السرطان: ربما السرطان هو انتكاس تطوري للخلايا، تعود فيه من حالتها المعقدة الحالية إلى شكلٍ أشبه بأشكال الحياة أحادية الخلية التي سادت الأرض قبل مليار سنة. نظريته التي يشرحها تقريرٌ بمجلة «نيوزويك» – إن صحَّت – ربما تعني أن الطرق المستخدمة حاليًا في علاج السرطان خاطئة تمامًا.
اقرأ أيضًا: مُترجم: الموت بالسرطان هو الطريقة المُثلى للموت
كيف بدأ السرطان؟
لأن ديفيز عالم فيزياء نظرية، فقد اعتاد على البدء بأسئلة بسيطة: كيف بدأ الكون؟ وكيف بدأت الحياة؟… إلخ. قرر ديفيز أن يسأل أسئلة مماثلة عن السرطان، واختار سؤالين بعينهما: ما هو مرض السرطان؟ ولماذا وُجِد؟ هذان اللغزان الأساسيان لم تفلح عقودٌ من الأبحاث وأكثر من مليون ورقة علمية عن السرطان في التوصل إلى حلولٍ لهما.
بدأ ديفيز من حقيقة أن مرض السرطان منتشر في أشكال الحياة متعددة الخلايا: أي كائنٍ حيٍ مكون من عدة خلايا، وليس خلية واحدة مثل البكتيريا. في عام 2014، نجح فريقٌ بحثي ألماني بقيادة عالم الأحياء التطورية ديفيد بوش في اكتشاف إصابة نوعين من الهيدرا بمرض السرطان. الهيدرا من أوائل الكائنات الحية متعددة الخلايا المتطورة عن الأنواع البدائية أحادية الخلية. استنتج بوش أن «السرطان قديمٌ قِدَم أشكال الحياة متعددة الخلايا على كوكب الأرض».
ربما السرطان هو انتكاس تطوري للخلايا، تعود فيه من حالتها المعقدة الحالية
إلى شكلٍ أشبه بأشكال الحياة أحادية الخلية التي سادت الأرض قبل مليار
سنة.
أضِف إلى ذلك أن الخلايا السرطانية تتصرف مثل العضيات أحادية الخلايا. خلايا السرطان ينقصها الموت الخلوي المبرمج الذي يميِّز خلايا الثدييات، ما يمنحها الخلود فعليًا، لتتكاثر إلى ما لا نهاية. وأيضًا يُمكن للأورام السرطانية أن تعيش في بيئة ينخفض فيها تركيز الأكسجين جدًا، وهو ما يدعم نظرية أن السرطان نشأ قبل مليار إلى مليار ونصف عامٍ مضت، حين كان تركيز الأكسجين في الغلاف الجوي منخفضًا للغاية.
وهُناك أيضًا اختلاف عملية الأيض في خلايا السرطان عن الخلايا السليمة. تعمل الخلايا السرطانية على تحويل السكر إلى طاقة بسرعة هائلة، وينتج عن العملية حمض اللاكتيك الذي ينشأ عادة من عمليات الأيض في غياب الأكسجين المعروفة بالتخمر. هذه الظاهرة، التي تظهر في 80% من الأورام السرطانية، معروفة بتأثير ووربرج، نسبةً إلى عالم الكيمياء الحيوية أوتو ووربرج الحاصل على جائزة نوبل في عام 1931. ويمضي التقرير إلى سرد مزيدٍ من الأدلة الداعمة للنظرية الارتدادية Atavistic Theory التي خرج بها ديفيز.
لماذا؟
إن كان السرطان انتكاسًا تطوريًا من أشكال الحياة الحالية إلى السابقة، فما العوامل التي تؤدي إلى هذا؟
يرى ديفيس أن الأمر يبدأ بضررٍ أو ضغطٍ يتعرض له الجسد، ما يؤدي بالخلايا إلى العمل في «وضع أمان» يضمن لها فرصًا أفضل في البقاء. ويشرح ديفيد جود من مركز بيتر ماكالوم لأبحاث السرطان في أستراليا إن عودة الخلايا إلى حالة العضيات أحادية الخلية «ليست مجرد نتيجة عرضية لتغيراتٍ عشوائية»، مضيفًا أن «العودة إلى حالة أكثر بدائية تساعد الخلية السرطانية ليس فقط على الانقسام أسرع بل على التكيف مع الضغوطات البيئية المستمرة التي تواجهها».
تختلف هذه المُقاربة كثيرًا عن التصنيف الحالي للسرطان على أنه مرض جيني، تؤدي فيه الاضطرابات المتوارثة أو التغيرات الجينية غير المتوقعة إلى إنتاج نسخٍ من الجينات تسبب انحرافًا في سير العمليات الحيوية داخل الخلايا. في بعض الأحيان يعمل البروتين المسؤول عن إرسال إشارات الانقسام دون توقف، وفي أحيان أخرى لا تصل إشارة الموت المبرمج.
الأورام السرطانية تتميز بقدرة هائلة على الالتفاف حول العقاقير الجديدة وتطوير اضطرابات جينية جديدة تحفظ لها قدرتها على الانقسام.
على مدار الأعوام اكتشف العلماء عشرات المسارات الحيوية المنحرفة نتيجة للتغيرات الجينية، وركزت جهود تطوير العقاقير مؤخرًا على استهداف هذه المسارات من أجل إيقاف انقسام الخلايا، أو إجبارها على الموت أو تعطيل نمو الورم. إلا أن الاستفادة من هذه العلاجات الموجهة ما زالت هزيلة، وما زالت أعداد مصابي السرطان والوفيات في الولايات المتحدة وفي أنحاء العالم صادمة. هذا إلى جانب ارتفاع تكلفة الرعاية الصحية لمرضى السرطان، والتي قد تتجاوز 65 ألف دولارٍ في العام للمريض الواحد، من أجل علاجٍ يمنح المريض بضعة أشهر إضافية.
يرى ديفيز أن العقاقير الموجهة الجديدة تركز على مهاجمة نقاط القوة في الخلايا السرطانية وليس استغلال نقاط الضعف. يُمكن أن يستهدف العلاج إيقاف البروتين الشاذ الذي يسمح للخلايا بالانقسام دون توقف. لكن أشكال الحياة، وفقًا لديفيز، حظت بمليارات الأعوام لتطوير ردود أفعالها على التهديدات المحتملة لقدرتها على التكاثر والانقسام. والأورام السرطانية تتميز بقدرة هائلة على الالتفاف حول العقاقير الجديدة وتطوير اضطرابات جينية جديدة تحفظ لها قدرتها على الانقسام. هي حقيقةٌ يعرفها مرضى السرطان جيدًا، إذ أن العديد من العلاجات الناجعة في السابق توقف تأثيرها بعد أن طوَّرت الخلايا السرطانية مقاومتها لها بمرور الزمن.
كسر الحواجز
بغض النظر عن مدى صحة النظرية الارتدادية، وما إن كانت ستحقق تحسنًا
ملموسًا في حياة المصابين بمرض السرطان، يرى كثيرٌ من الخبراء قيمة حقيقية
في كسر الحواجز الفكرية المتعلقة بمرض السرطان.
تفتح النظرية الارتدادية الباب أمام طرقٍ علاجية جديدة. منها تقليل جرعات العقاقير إلى أقصى حدٍ ممكن تجنبًا لتطور المسارات الحيوية. ومنها استغلال تأثير ووربرج واستهداف الإنزيمات المسؤولة عن عمليات الأيض في خلال السرطان، والتي تختلف كثيرًا عن عمليات الأيض في الخلايا العادية. لكن النظرية الارتدادية ما زالت جديدة، وما زال من المبكر ترجمتها إلى تقدماتٍ ملموسة في مجال الرعاية الصحية.
لكن العديد من علماء السرطان يشككون في إمكانية حدوث هذا من الأصل. تعرض ديفيز كثيرًا لسخرية مجتمع علماء الأحياء من أعماله البحثية، ونعت بعضهم النظرية الارتدادية بـ«الموقف المتطرف». وأجرى عالم الأحياء الصيني شونغ لي هي وزملاؤه دراسة تحليلية جينية وجدت أن انتشار السرطان في الجسد يحدث عندما تفقد الجينات متعددة الخلايا وظيفتها وتعقيدها البنائي، لكن الفريق شدد على أن خلايا السرطان لا تتحول إلى «أسلافٍ أولية»، وأن فكرة «التطور العكسي» ما هي إلا إطار عام، وعملية من عملياتٍ عديدة متراكمة تؤدي إلى تطور السرطان ونموه.
لكن ديفيز لم ينزعج إزاء تلك الاعتراضات. «من يهتم؟ كانت الفكرة أن يأتي أحدهم من خارج المجال ويقدم منظورًا جديدًا». ويرى أن «السرطان صناعة قائمة منذ عقود يبلغ حجمها مليارات الدولارات. وهناك الكثير من المصالح الشخصية فيها».
بغض النظر عن مدى صحة النظرية الارتدادية، وما إن كانت ستحقق تحسنًا ملموسًا في حياة المصابين بمرض السرطان، يرى كثيرٌ من الخبراء قيمة حقيقية في كسر الحواجز الفكرية المتعلقة بمرض السرطان. يقول ديفيد أجوس، مدير معهد لورنس جاي إيليسون للطب التحويلي والذي شارك مع ديفيز في كتابة ورقة بحثية «لقد فشل علماء السرطان أمثالي. لم نترك أثرًا كبيرًا في مواجهة هذا المرض الفظيع».ممترجم عنA NEW THEORY ON CANCER: WHAT WE KNOW ABOUT HOW IT STARTS COULD ALL BE WRONGللكاتب JESSICA WAPNER
ترجم عنA NEW THEORY ON CANCER: WHAT WE KNOW ABOUT HOW IT STARTS COULD ALL BE WRONGللكاتب JESSICA WAPNER
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست» والفجر الجديد.
Comments
Post a Comment