Skip to main content

صحافة العهود البائدة المصدر: صلاح عيسى*

لا يزال الجدل حول ثورة 23 يوليو 1952، مستمراً بين خصومها الذين ينتهزون فرصة الاحتفال بهذا العيد، لكى يكرروا مزاعمهم بأنها كانت سلسلة من النكسات والهزائم والانكسارات، وبين أنصارها الذين يؤكدون أنها - في الحساب الختامي وبصرف النظر عما وقعت فيه من أخطاء - كانت ظاهرة تاريخية إيجابية، لا تقتصر إنجازاتها على أنها شاركت في تحرير أقطار الأمة العربية من التخلف الاقتصادي والاجتماعي، بل وساهمت - كذلك - في صياغة الملامح التاريخية للنصف الثاني من القرن العشرين، وكان أثرها بارزاً في تحرير شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية من الاحتلال الأجنبي ومن القواعد والأحلاف العسكرية، وفي بناء حركة التحرر الوطني على الصعيد العالمي.
لكن ذلك الحساب الختامي الإيجابي، لا ينفي أن «كتاب يوليو» ينطوى على صفحات تحفل بالمتناقضات بين رؤى الأبطال الذين صنعوا تاريخها، وبين مسارها العام وبعض ما كانت قياداتها تضطر إليه أحياناً من تراجعات أو مهادنات فيما تتخذه من سياسات، أو تبرمه من تحالفات، أو تخضع له أحياناً.
كانت قيادة ثورة 23 يوليو على سبيل المثال، تنطلق - في الأغلب الأعم - من تحليل علمي للظواهر الاجتماعية والسياسية المعقدة التي ورثتها عن الأنظمة التي سبقتها يعتمد على الأرقام والإحصاءات والدراسات.
في 27 يوليو 1954، وقع المفاوضون المصريون والبريطانيون بالحروف الأولى، على اتفاقية الجلاء التي نصت على رحيل قوات الاحتلال عن قاعدة قناة السويس بعد 74 عاماً من الاحتلال، ولأن الظروف السياسية التي كانت ثورة يوليو تمر بها آنذاك كانت بالغة التعقيد، في أعقاب الصراع على السلطة بين أعضاء مجلس قيادة الثورة، وبين الرئيس محمد نجيب من جانب، وبينهم وبين القوى السياسية التي تنتمي للنظام السابق من جانب آخر، فقد تعرضت الاتفاقية لانتقادات واسعة وعنيفة، رد عليها مجلس قيادة الثورة بحملة دعائية لمواجهة المنتقدين، وفي حمى هذه الحملة، عثر «سامي داود» - أحد المحررين البارزين في صحيفة «الجمهورية» التي تنطلق بلمسات مجلس قيادة الثورة - أثناء بحثه في أوراق قديمة كان والده الراحل يحتفظ بها في صوان خشبي، على نسخة من جريدة «العلم» يعود تاريخها إلى عام 1914، يتصدرها خبر بارز يقول إن منجماً هندياً، قد تنبأ بأن بريطانيا سوف ترحل عن مصر في يوليو 1954.
وأسرع «سامي داود» بالجريدة التي تحمل النبوءة إلى «أنور السادات» - الذي كان يتولى آنذاك - الإشراف على إدارة «الجمهورية» - وانتقل الاثنان إلى مكتب رئيس الوزراء «جمال عبد الناصر»، واتفق الثلاثة على أن نشر النبوءة على أوسع نطاق هو الرد البليغ على انتقادات المنتقدين للاتفاقية، إذ كانت جريدة «العلم» لسان حال «الحزب الوطني» الذي أسسه مصطفى كامل، وكان يدير سياستها آنذاك الزعيم محمد فريد، وكان من رأي «عبد الناصر» أن تنشر هذه النبوءة على صفحات «أخبار اليوم» لأنها الأوسع انتشاراً بين كل الصحف المصرية، ولأن صاحبيها - الأخوين علي ومصطفي أمين - بحكم خبرتهما الصحافية، وطابعهما أقدر على إبرازها وإثارة اهتمام الجماهير بها، من محرري «الجمهورية» التي كانت آنذاك حديثة الظهور ومحدودة التوزيع، لكن «السادات» و«سامي داود» تمسكا بحق «الجمهورية» في احتكار نشر الانفراد الصحافي التاريخي الذي يعود إليها الفضل في الحصول عليه، فضلاً عن أن خبراً مهماً مثل هذا لا يجوز أن ينشر في جريدة تنتمي إلى «العهد البائد» مثل «أخبار اليوم».
وبعد مناقشة طويلة بينهم سلم «جمال عبد الناصر» بالمنطق الذي ساقه الاثنان، وأسرع «سامي داود» يكتب الخبر، وحرصاً على ألا يتسرب للصحف المنافسة، فقد أشرف بنفسه على رسم - وتنفيذ - ماكيت لصفحة أولى بديلة من «الجمهورية»، تحمل الانفراد الصحافي العالمي الذي حصلت عليه من العراف الهندي، وفي بداية المساء، غادر الجريدة بعد انتهاء نوبة العمل المحددة له، وترك رسالة لزميله الذي يحل محله بأن يعتمد الصفحة البديلة التي أعدها، وقبل أن تدور ماكينات الطباعة، فكر هذا الزميل - الذي لا يعرف شيئاً عن الموضوع - في أن يلقي نظرة على آخر البرقيات التي حملتها وكالات الأنباء، فوجد من بينها أخباراً رأى أنها أكثر أهمية من خبر نبوءة العراف الهندي، الذي كان من رأيه أنه خبر قديم يعود تاريخه إلى 40 عاماً، فأخذ يغير ويبدل من ترتيب أخبار الصفحة الأولى، ليتراجع هذا الخبر - بعد اختصاره - من المانشيت الرئيسي إلى المانشيت الثاني، ومن صدر الصفحة الأولى إلى ذيلها، ومن ذيلها إلى صفحة داخلية، ليستقر أخيراً - بعد تعدد الاختصارات - في مربع صغير داخل الصفحة قبل الأخيرة من الجريدة، التي تضم عادة بواقي الأخبار، وإعلانات الوفيات.
في صباح اليوم التالي استيقظ «سامي داود» - الذي روى لي هذه الواقعة بعد عشرين عاماً من حدوثها - وأخذ يبحث - بين صفحات «الجمهورية»، عن الانفراد الصحافي الثوري الذي حققه، فوجده - بصعوبة - ملقى بإهمال ضمن البواقي وإعلانات الوفيات.. وقال له «عبد الناصر» ضاحكاً:
- مش قلت لك إن ده مش شغل صحافة الثورة، ده شغل صحافة العهود البائدة.

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe