مصطفى البطل: طلاقة، طلاقة، طلاقة
د.عبد الله علي إبراهيم
(مقالة لن تنشرها الراكوبة لأنها لم تنشر سابقتها بغير توضيح بقدر ما طلبت ذلك من ابننا همت. ولا ندري إن كان ذلك شفقة بالبطل أو . . . مجرد شفقة)
(يلزمني اعتذار للبطل أنني جئت باسم والده بدلاً عن اسمه لمرتين. فقد كانت مني مجرد "سقطة جلك SENIOR’S MOMENT ". وعلمت أن هناك من رتب عليها بعض المغازي مع أنها مما لا يستدل عاقل منها شئياً إلا في مقام الهفوة الفرويدية. وهو علم لا يحسنه الكثيرون منا).
د.عبد الله علي إبراهيم
(مقالة لن تنشرها الراكوبة لأنها لم تنشر سابقتها بغير توضيح بقدر ما طلبت ذلك من ابننا همت. ولا ندري إن كان ذلك شفقة بالبطل أو . . . مجرد شفقة)
(يلزمني اعتذار للبطل أنني جئت باسم والده بدلاً عن اسمه لمرتين. فقد كانت مني مجرد "سقطة جلك SENIOR’S MOMENT ". وعلمت أن هناك من رتب عليها بعض المغازي مع أنها مما لا يستدل عاقل منها شئياً إلا في مقام الهفوة الفرويدية. وهو علم لا يحسنه الكثيرون منا).
أعود لكلمة البطل الثانية في "حواري مع شيخي" (السوداني 19 مارس 2017) التي رحبت بها لأنها لم تر غضاضة في حوار وطني حول إصلاح جهازنا للأمن والمخابرات. فبسط رأيه في وجوب مثل هذا الحوار ليستوعب كل شيء "وفي الطليعة من ذلك توسيع قاعدة المشاركة في مراجعة التشريع الأمني الوطني، وتوكيد المراقبة القضائية، وتأمين الحقوق في القوانين والممارسة، وتوفير الضمانات ألا تجور السلطة على مواطنيها، وأن تحفظ كراماتهم وتصون حيواتهم".
وهكذا فتح البطل باباً مشروعاً لإصلاح الجهاز اعتقدت (أو توهمت في رأيه) أنه قد أغلقه بالضبة والمفتاح. ولا أملك مع ذلك من القول إن سماحة البطل هذه في نقاش إصلاح جهاز الأمن استجدت عليه. فقد كان قصر النقاش في مقاله الأول على “الوطنيين الأحرار” كما تقدم. ولم يتخلق البطل مع ذلك بخلق ميثاقه المستجد عن رحابة الحوار. فتجده يصف من رأي غير رأيه ورأي الجهاز ب"أفعال الضلال" مثل "سدر" و"جنح" ويصم خطابهم بوصفات علم النفس مثل "الهستيريا". ويرتاب في هذا الخطاب الناقد ويصرفه ك"حملة تولت كبرها قوي سياسية معلومة". وأسوق هنا مثلاً لسوء ظن البطل في من طلب إصلاح الجهاز. فصور نفسه وطنياً حراً "خرج" "في مواجهة تيار هستيري متصاعد للداعين إلى تجريد الجهاز من سلطاته وصلاحياته وجعله قاصراً على جمع المعلومات". وليس من شيم من دعا إلى حوار مفتوح حول أي شأن أن يستبقهم مطاعناً بوصفهم كأهل ضلالة عن الحق وجنوح إلى الهستيريا السياسية.
وأزعجني البطل في رده عليّ بمجانبته الدقة. فلا تعرف من رده إن كان خصومه قد دعوا إلى تجريد الجهاز "كلياً من سلطاته صلاحياته" أو إلى "تجريد الجهاز من سلطاته وصلاحياته وجعله قاصراً على جمع المعلومات". فصلاحيات الجهاز بحسب قانونه الأمن ثمان. وجاء جمع المعلومات في المرتبة الثانية من الأهمية لما جاء في الفقرة الأولى وهو حفظ أمن السودان بوجوهه كلها. واختصاص جمع المعلومات نصاً هو: "جمع المعلومات المتعلقة بأمن السودان الداخلي والخارجي وتحليلها وتقييمها والتوصية باتخاذ التدابير الوقائية اللازمة". وجمع المعلومات ليس متعة أكاديمية مجردة كما يوحي البطل بل يترتب عليها تحليل وتقييم وتدبير لتلافي المخاطر على الوطن. فالمعرفة قوة. ولم يدع خصوم البطل لسوى نزع سلطة الجهاز في التنفيذ التي تجسدت في المادة 24 من القانون وتوضحت إجراءاتها في المادة 50 منه. فهم لا يريدون للجهاز أن تكون له سلطة استدعاء الأشخاص، واستجوابهم، وأخذ اقوالهم. كما لا يريدون له أن تكون له سلطة الرقابة والتحري والتفتيش وحجز الأموال، وقبض وحجز الأفراد. وعليه فهم طلبوا نزع اختصاص واحد من ثمان اختصاصات للأمن لا تجريده من اختصاصاته بالكلية في قراءة شاذة للبطل.
قال البطل إن دعواي (وليست دعوتي) للكاتب أن يأرق للحرية تنضح بالرومنطيقية وقد تصلح في مجالس الشعر والشعراء (ناس شابو وكده)، ولكن لا مكان لها في إدارة الدول وسياسة البلدان. وهذا قول أجوف معروف عن البطل على أنه براق. وقد عَرِف به عن الأمن أكثر مما عرف عن الدولة. فالأرق بالحرية أصل في دستور الدولة السودانية لعام 2005. فالمادة 29 منه عن الحرية الشخصية كفلت للمواطن الحق في الحرية فلا يُفتش، ولا يُقبض، ولا يُحبس إلا لأسباب وفق القانون، والمادة 33 منه وطنت حرمة المواطن من التعذيب والقساوة والمعاملة اللإنسانية، والمادة 37 أمنت على خصوصية المواطن فلا يجوز انتهاك مسكنه ومراسلاته إلا وفق القانون. ولا أعرف من تشرب هذه الرومنطيقية وتكرفها مثل مؤتمر الحوار الوطني (الوثبة) الحكومي. فسمى في وثيقته "مخرجات الحوار الوطني والحقوق الأساسية" حق الحرية ب "حق الطلاقة". وقال إن "الحرية هبة من الله. وهي مسئولية أخلاقية ووطنية صونًا وإشاعتها حق للجميع". الله أكبر!
إن الدعوة لإصلاح لا جهاز الأمن وحده، بل الأجهزة الشرطية والقضائية جميعاً، نابعة من أرق دستورنا الحالي، والذي سيتولد عن مؤتمر حوار الوثبة، بالحرية. فقد وجد دعاة (لا المدعين) أن القوانين المنظمة لحق الطلاقة الدستورية هذا ظالمة. فالمادة 79 من قانون الجنائية (1991)، والمادة 50 من قانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني تماطلا في الالتزام بحرية المواطن المصونة متى اشتبهت فيه بتمديد حبسه جزافاً. فبحسب قانون الإجراءات يبقى المتهم بالحبس بين الشرطة والقضائية لمدة 4 شهور و19 يوم. وقد تزيد متى قرر رئيس القضاء ذلك. أما جهاز الأمن فيحق له بمنطوق المادة 50 من قانونه حبس المتهم لمدة 7 أشهر ونصف حسوما. والفرق بين المماطلتين كبير مع ذلك. فالقضاء والنيابة هما من يقف من وراء إجراءات تمديد حبس المتهم حسب المادة 79 إجراءات. وهذا باب للرحمة واسع يأذن بتدخل محاميين وإجراءات الضمان وغيرها. أما المشتبه فيه حسب المادة 50 أمن فهو بين أيدي الجهاز وحده لا سبيل للنيابة أو القضاء إليه إلا بعد انقضاء عدته هذه في الأمن، إما أطْلَق سراحه أو حوله للنيابة. بل وبوسع جهاز الأمن أن يتهم المشتبه بتقويض الدولة فيبقى في الحبس إلى زمن لا مقطوع لأنها تهمة عقوبتها الإعدام. وهي من التهم النافية للضمان.
يتعدى هذا التسويف من أجهزة الدولة بحق طلاقة المواطن إلى أكثر من مجرد تفضيل تسويف الأمن على تسويف الشرطة والقضاء مثلاً. وهذا تفضيل يجأر به سياسيون وقانونيون كثر. ولكننا نحتاج إلى نظر ينفذ إلى تطويل الحبس في كل حال النيابة والأمن كاستهانة للدولة بالمواطن. وتجد هذه الاستهانة حتى في الدوائر المدنية ومعاملاتها البسيطة مثل "أطلع من مكتبي" وصفوف طالبي الخدمة بما فيها دفع مكوس الدولة. فعلاقة الدولة والمواطن لم تخرج بعد من عوائدها الاستعمارية. فما تزال الدولة أجنبية ترى في داخل كل مواطن عدواً كامناَ يتربص بها. فأنظر يا هداك الله كيف سامت دولة الوطنيين الشيخ على بيتاي الخسف في أول أمره وأمرها لأنه رأت فيها "متمهدياً" أخراً كما رآه الإنجليز. فمتى وقع المواطن بيد الدولة فلن تطلقه إلا أن يصيح حمار الوادي في الخلاء. فقد تعلم طاقم الدولة على درج الدرس أن شعبهم متخلف وبدائي رعوي لا أمان له حتى يوم يدخلون في دين الحداثة أفواجا. فالمواطن مجرم حتى إشعار آخر. فازدانت الدولة في المباني وتكاثر نفرها وعدتها ونفوذها في الشرطة والأمن والقضاء ولكنها بقيت عقيدتها في سوء الظن بالمواطن. فمتى وقع في يدها صار حللالو فوق لو أمو داعيالو. فنفورها من إطلاق السراح بالضمان مظهر من مظاهر سوء الظن بالناس. فمن تجربة شخصية عرفت أن الشرطة لا تقبل الضمان على المحبوس لو لم يسكن الضامن مركز اختصاصها. وهذا "تمييز" سخيف بين المواطنين يجعل من أقسام الشرطة "كانتونات" مستقلة. وكله ناجم من كسل مفرط في اجهزتنا الأمنية والقضائية. فالضمانة حق واحتمالات الاخلال بها وارد حتى في بلد ذي دولة نافذة الإرادة كأمريكا. ولذا تجدها تعاظم مال الضمان حسب عظم التهمة. بل خصخصت إجراءات الضمان فيقوم عليها عنها وكلاء في القطاع الخاص. وزادت بأن خصخصت إجراء تعقب من أخل بالضمان ليقوم بها صيادو المخلين بالضمان (bounty hunters). وبوسع أجهزة الأمن والقضاء في عصرنا الرقمي هذا اتباع السبل المطروقة في تأمين المجتمع من وراء ستار بغير اضطرار إلى خرق حق المواطن في الطلاقة متى حامت الشبهات حوله.
إذا كان مؤتمر حوار الوثبة بعض خيالنا لدولة المستقبل فهو مما سيتهمه البطل برومنطيقية شابو أخوان وإلخ من الشعراء. فقد أنقصت توصياته مدة الحبس التي جاءت في المادة 79 إجراءات والمادة 50 من قانون الأمن الوطني. فمن توصياته لصون حق طلاقة المواطن ألا يجوز القبض على المواطن واحتجـازه دون حقه لأكثر من شهر و4 أيام. وقطعت بحق من تطاول تحريه ومحاكمته بتهمة قد تؤدي إلى إثبات البينة أن يتمتع بحق إطلاق السراح بضمان. وهو ما تتفاده دولة الأفنديات الكسول. فالضمان في عرفها ليس ضمان الله تجلى وعلا بل الحراسات الكأداء.
لو تأمل البطل ما يكتنفه في الولايات المتحدة من أمن لوجد أن أصله كله في رومنطيقية الآباء المؤسسين الواقفين على الإرث الغربي في طلب الطلاقة منذ ديمقراطية الإغريق القدماء إلى أعراف البرجوازية الأوربية. وحطمت الأخيرة أغلال الإقطاع وملوكه المستبدين. فمتى وقع الأمريكي في قبضة الشرطة تلت عليه Miranda لتحذيره إلا يصرح بشيء في التحقيق يقود يوماً إلى إدانته. ومتى جرى حبس مواطن بيد الشرطة أسعفه habeas corpus وتعريبها "إن هذا الجسد لك" أي أنه مصان ومعزز لا يساء إليه إلا بسبب قوي. وبموجب هذا الحق يطلب المحبوس أن يراجع القضاء أمر حبسه. والحق مشاع حتى للمسجون. فبوسعه أن يطلب أن تنظر المحكمة التي سجنته في براءته على ضوء بينات جديدة أو حتى قراءة أخرى للبينات القديمة. ويرجع الحق في جذره إلى الماقنا كارتا (Magna Carta) وهي من بواكير وثائق حقوق الإنسان انتزعها ملاك الأراضي البرجوازيين من الملك المطلق الإنجليزي جون في 1215. وجاء فيها أنه ليس في الشرع حبس بريء، أو سجنه، أو مصادرة بعض ماله، أو اعتباره في عداد الخارجين على القانون، أو نفيه إلا بحكم قضائي صادر من أنداده (نظام المحلفين) أو بحكم من قانون البلاد. وشرعت تلك البرجوازية في إقامة محاكمها الموازية لإطلاق سراح من جارت عليهم محاكم الملك.
نشأنا في شبابنا اليساري على عبارة "كان لنا أن نحلم". وكانت الطلاقة صبوة ذلك الشباب. فلم نسقط نظام عبود لأن الدولار أرخص بالجنيه. بل طلباً للطلاقة، طلباً للحرية. ولن تحصي عدداً من قال لنا إنكم تحلمون أيها الرومنطيقيون. ولن يكون مصطفي البطل آخرهم بالطبع. سنحلم حتى تظللنا "الاسامي الأجنبية" التي ينعم البطل بظلها يوم لا ظل في الملمات الأمنية إلا ظلها.
وهكذا فتح البطل باباً مشروعاً لإصلاح الجهاز اعتقدت (أو توهمت في رأيه) أنه قد أغلقه بالضبة والمفتاح. ولا أملك مع ذلك من القول إن سماحة البطل هذه في نقاش إصلاح جهاز الأمن استجدت عليه. فقد كان قصر النقاش في مقاله الأول على “الوطنيين الأحرار” كما تقدم. ولم يتخلق البطل مع ذلك بخلق ميثاقه المستجد عن رحابة الحوار. فتجده يصف من رأي غير رأيه ورأي الجهاز ب"أفعال الضلال" مثل "سدر" و"جنح" ويصم خطابهم بوصفات علم النفس مثل "الهستيريا". ويرتاب في هذا الخطاب الناقد ويصرفه ك"حملة تولت كبرها قوي سياسية معلومة". وأسوق هنا مثلاً لسوء ظن البطل في من طلب إصلاح الجهاز. فصور نفسه وطنياً حراً "خرج" "في مواجهة تيار هستيري متصاعد للداعين إلى تجريد الجهاز من سلطاته وصلاحياته وجعله قاصراً على جمع المعلومات". وليس من شيم من دعا إلى حوار مفتوح حول أي شأن أن يستبقهم مطاعناً بوصفهم كأهل ضلالة عن الحق وجنوح إلى الهستيريا السياسية.
وأزعجني البطل في رده عليّ بمجانبته الدقة. فلا تعرف من رده إن كان خصومه قد دعوا إلى تجريد الجهاز "كلياً من سلطاته صلاحياته" أو إلى "تجريد الجهاز من سلطاته وصلاحياته وجعله قاصراً على جمع المعلومات". فصلاحيات الجهاز بحسب قانونه الأمن ثمان. وجاء جمع المعلومات في المرتبة الثانية من الأهمية لما جاء في الفقرة الأولى وهو حفظ أمن السودان بوجوهه كلها. واختصاص جمع المعلومات نصاً هو: "جمع المعلومات المتعلقة بأمن السودان الداخلي والخارجي وتحليلها وتقييمها والتوصية باتخاذ التدابير الوقائية اللازمة". وجمع المعلومات ليس متعة أكاديمية مجردة كما يوحي البطل بل يترتب عليها تحليل وتقييم وتدبير لتلافي المخاطر على الوطن. فالمعرفة قوة. ولم يدع خصوم البطل لسوى نزع سلطة الجهاز في التنفيذ التي تجسدت في المادة 24 من القانون وتوضحت إجراءاتها في المادة 50 منه. فهم لا يريدون للجهاز أن تكون له سلطة استدعاء الأشخاص، واستجوابهم، وأخذ اقوالهم. كما لا يريدون له أن تكون له سلطة الرقابة والتحري والتفتيش وحجز الأموال، وقبض وحجز الأفراد. وعليه فهم طلبوا نزع اختصاص واحد من ثمان اختصاصات للأمن لا تجريده من اختصاصاته بالكلية في قراءة شاذة للبطل.
قال البطل إن دعواي (وليست دعوتي) للكاتب أن يأرق للحرية تنضح بالرومنطيقية وقد تصلح في مجالس الشعر والشعراء (ناس شابو وكده)، ولكن لا مكان لها في إدارة الدول وسياسة البلدان. وهذا قول أجوف معروف عن البطل على أنه براق. وقد عَرِف به عن الأمن أكثر مما عرف عن الدولة. فالأرق بالحرية أصل في دستور الدولة السودانية لعام 2005. فالمادة 29 منه عن الحرية الشخصية كفلت للمواطن الحق في الحرية فلا يُفتش، ولا يُقبض، ولا يُحبس إلا لأسباب وفق القانون، والمادة 33 منه وطنت حرمة المواطن من التعذيب والقساوة والمعاملة اللإنسانية، والمادة 37 أمنت على خصوصية المواطن فلا يجوز انتهاك مسكنه ومراسلاته إلا وفق القانون. ولا أعرف من تشرب هذه الرومنطيقية وتكرفها مثل مؤتمر الحوار الوطني (الوثبة) الحكومي. فسمى في وثيقته "مخرجات الحوار الوطني والحقوق الأساسية" حق الحرية ب "حق الطلاقة". وقال إن "الحرية هبة من الله. وهي مسئولية أخلاقية ووطنية صونًا وإشاعتها حق للجميع". الله أكبر!
إن الدعوة لإصلاح لا جهاز الأمن وحده، بل الأجهزة الشرطية والقضائية جميعاً، نابعة من أرق دستورنا الحالي، والذي سيتولد عن مؤتمر حوار الوثبة، بالحرية. فقد وجد دعاة (لا المدعين) أن القوانين المنظمة لحق الطلاقة الدستورية هذا ظالمة. فالمادة 79 من قانون الجنائية (1991)، والمادة 50 من قانون جهاز الأمن والمخابرات الوطني تماطلا في الالتزام بحرية المواطن المصونة متى اشتبهت فيه بتمديد حبسه جزافاً. فبحسب قانون الإجراءات يبقى المتهم بالحبس بين الشرطة والقضائية لمدة 4 شهور و19 يوم. وقد تزيد متى قرر رئيس القضاء ذلك. أما جهاز الأمن فيحق له بمنطوق المادة 50 من قانونه حبس المتهم لمدة 7 أشهر ونصف حسوما. والفرق بين المماطلتين كبير مع ذلك. فالقضاء والنيابة هما من يقف من وراء إجراءات تمديد حبس المتهم حسب المادة 79 إجراءات. وهذا باب للرحمة واسع يأذن بتدخل محاميين وإجراءات الضمان وغيرها. أما المشتبه فيه حسب المادة 50 أمن فهو بين أيدي الجهاز وحده لا سبيل للنيابة أو القضاء إليه إلا بعد انقضاء عدته هذه في الأمن، إما أطْلَق سراحه أو حوله للنيابة. بل وبوسع جهاز الأمن أن يتهم المشتبه بتقويض الدولة فيبقى في الحبس إلى زمن لا مقطوع لأنها تهمة عقوبتها الإعدام. وهي من التهم النافية للضمان.
يتعدى هذا التسويف من أجهزة الدولة بحق طلاقة المواطن إلى أكثر من مجرد تفضيل تسويف الأمن على تسويف الشرطة والقضاء مثلاً. وهذا تفضيل يجأر به سياسيون وقانونيون كثر. ولكننا نحتاج إلى نظر ينفذ إلى تطويل الحبس في كل حال النيابة والأمن كاستهانة للدولة بالمواطن. وتجد هذه الاستهانة حتى في الدوائر المدنية ومعاملاتها البسيطة مثل "أطلع من مكتبي" وصفوف طالبي الخدمة بما فيها دفع مكوس الدولة. فعلاقة الدولة والمواطن لم تخرج بعد من عوائدها الاستعمارية. فما تزال الدولة أجنبية ترى في داخل كل مواطن عدواً كامناَ يتربص بها. فأنظر يا هداك الله كيف سامت دولة الوطنيين الشيخ على بيتاي الخسف في أول أمره وأمرها لأنه رأت فيها "متمهدياً" أخراً كما رآه الإنجليز. فمتى وقع المواطن بيد الدولة فلن تطلقه إلا أن يصيح حمار الوادي في الخلاء. فقد تعلم طاقم الدولة على درج الدرس أن شعبهم متخلف وبدائي رعوي لا أمان له حتى يوم يدخلون في دين الحداثة أفواجا. فالمواطن مجرم حتى إشعار آخر. فازدانت الدولة في المباني وتكاثر نفرها وعدتها ونفوذها في الشرطة والأمن والقضاء ولكنها بقيت عقيدتها في سوء الظن بالمواطن. فمتى وقع في يدها صار حللالو فوق لو أمو داعيالو. فنفورها من إطلاق السراح بالضمان مظهر من مظاهر سوء الظن بالناس. فمن تجربة شخصية عرفت أن الشرطة لا تقبل الضمان على المحبوس لو لم يسكن الضامن مركز اختصاصها. وهذا "تمييز" سخيف بين المواطنين يجعل من أقسام الشرطة "كانتونات" مستقلة. وكله ناجم من كسل مفرط في اجهزتنا الأمنية والقضائية. فالضمانة حق واحتمالات الاخلال بها وارد حتى في بلد ذي دولة نافذة الإرادة كأمريكا. ولذا تجدها تعاظم مال الضمان حسب عظم التهمة. بل خصخصت إجراءات الضمان فيقوم عليها عنها وكلاء في القطاع الخاص. وزادت بأن خصخصت إجراء تعقب من أخل بالضمان ليقوم بها صيادو المخلين بالضمان (bounty hunters). وبوسع أجهزة الأمن والقضاء في عصرنا الرقمي هذا اتباع السبل المطروقة في تأمين المجتمع من وراء ستار بغير اضطرار إلى خرق حق المواطن في الطلاقة متى حامت الشبهات حوله.
إذا كان مؤتمر حوار الوثبة بعض خيالنا لدولة المستقبل فهو مما سيتهمه البطل برومنطيقية شابو أخوان وإلخ من الشعراء. فقد أنقصت توصياته مدة الحبس التي جاءت في المادة 79 إجراءات والمادة 50 من قانون الأمن الوطني. فمن توصياته لصون حق طلاقة المواطن ألا يجوز القبض على المواطن واحتجـازه دون حقه لأكثر من شهر و4 أيام. وقطعت بحق من تطاول تحريه ومحاكمته بتهمة قد تؤدي إلى إثبات البينة أن يتمتع بحق إطلاق السراح بضمان. وهو ما تتفاده دولة الأفنديات الكسول. فالضمان في عرفها ليس ضمان الله تجلى وعلا بل الحراسات الكأداء.
لو تأمل البطل ما يكتنفه في الولايات المتحدة من أمن لوجد أن أصله كله في رومنطيقية الآباء المؤسسين الواقفين على الإرث الغربي في طلب الطلاقة منذ ديمقراطية الإغريق القدماء إلى أعراف البرجوازية الأوربية. وحطمت الأخيرة أغلال الإقطاع وملوكه المستبدين. فمتى وقع الأمريكي في قبضة الشرطة تلت عليه Miranda لتحذيره إلا يصرح بشيء في التحقيق يقود يوماً إلى إدانته. ومتى جرى حبس مواطن بيد الشرطة أسعفه habeas corpus وتعريبها "إن هذا الجسد لك" أي أنه مصان ومعزز لا يساء إليه إلا بسبب قوي. وبموجب هذا الحق يطلب المحبوس أن يراجع القضاء أمر حبسه. والحق مشاع حتى للمسجون. فبوسعه أن يطلب أن تنظر المحكمة التي سجنته في براءته على ضوء بينات جديدة أو حتى قراءة أخرى للبينات القديمة. ويرجع الحق في جذره إلى الماقنا كارتا (Magna Carta) وهي من بواكير وثائق حقوق الإنسان انتزعها ملاك الأراضي البرجوازيين من الملك المطلق الإنجليزي جون في 1215. وجاء فيها أنه ليس في الشرع حبس بريء، أو سجنه، أو مصادرة بعض ماله، أو اعتباره في عداد الخارجين على القانون، أو نفيه إلا بحكم قضائي صادر من أنداده (نظام المحلفين) أو بحكم من قانون البلاد. وشرعت تلك البرجوازية في إقامة محاكمها الموازية لإطلاق سراح من جارت عليهم محاكم الملك.
نشأنا في شبابنا اليساري على عبارة "كان لنا أن نحلم". وكانت الطلاقة صبوة ذلك الشباب. فلم نسقط نظام عبود لأن الدولار أرخص بالجنيه. بل طلباً للطلاقة، طلباً للحرية. ولن تحصي عدداً من قال لنا إنكم تحلمون أيها الرومنطيقيون. ولن يكون مصطفي البطل آخرهم بالطبع. سنحلم حتى تظللنا "الاسامي الأجنبية" التي ينعم البطل بظلها يوم لا ظل في الملمات الأمنية إلا ظلها.
Comments
Post a Comment