كنوز مخفية ومكتشفة... حينما يعبر التاريخ إلى الحاضر
مابين باشلار وكوكو تأملات في جدلية الاتصال والانقطاع
الهادي الشواف
على أضواء صالة المركز الثقافي الفرنسي وفي الفترة من الخامس من فبراير إلى الثامن من مارس، التقى عبق التاريخ مع سحر الحاضر، في كنوز مخفية ومكتشفة، معرض مشترك بين عالم الآثار السويسري شارل بوني صاحب الكنوز المكتشفة، التي سلط عبرها ضوء كاشف على لحظات مهمة من التاريخ، حين قضى أكثر من أربعين عاما في التنقيب عن آثار الحضارة النوبية وبالأخص آثار كرمة، وقدم خلال تلك الفترة الكثير من المعلومات المهمة عن بعض المعالم المجهولة، بل عمل على تصحيح الكثير من المعلومات غير الصحيح عن تلك الفترة من التاريخ، والفنان التشكيلي حاتم بابكر كوكو صاحب الكنوز المخفية ومكتشفة، والذي عبر من خلال عدد من اللوحات التشكيلية من التاريخ إلى الحاضر، من خلال استلهام أحدى الروايات الاسطورية لحكاوي السلطان كسفروك والتيتل التي تعكس خبرة وحكمة الحبوبة ودورها المحوري في الاسرة والمجتمع، حين وظف تلك الحكاية في بعض لوحاته التي تمتاز بالتركيب والبناء المتداخل والمميز، وحين تتأمل اللوحة تكتشف فيها عوالم مخفية تحيلك إلى علامات ودلالات جديدة، تعبر بك من التاريخ إلى الحاضر في حوارية جدلية عميقة.
كما ان عنوان المعرض قد يحيلك إلى الماضي، وقد يعبر بك إلى الحاضر، هذا يتوقف على زاوية النظر التي تتموضع حولها طريقة تفكيرك، وتصوراتك حول الماضي الذي ظل على الدوام يلقي بظلاله على الحاضر على الاقل في بنية التفكير الماضوية، وتظل الحوارية ما بين الماضي والحاضر مستمرة، والجدال مهتدم، ونظل في حالات كثيرة مشدودين للماضي بطريقة تجعل منه المنفذ الوحيد للحاضر وللانطلاق إلى المستقبل، وتظل المعضلة الاساسية هي ما يمثله الماضي من ثقل معرفي قد يعيق الانطلاق والتقدم خاصة اذا لم نحسن التعامل مع معطياته، لذا ظلت الاختلافات ما بين دعات الاتصال والانقطاع مع الماضي قائمة.
وهذا يجعلنا نستعين بغاستون باشلار ومفهومه حول الاتصال والانقطاع لتعضيد هذا الحوار، حيث ان مفهوم باشلار عن الاتصال أو الانقطاع في الزمان قد ترجم في سياق فلسفة العلم عنده إلى فكرة القطيعة الابستمولوجية التي تجسد نظرية باشلار الثورية الفلسفية الجذرية، مما دفع باشلار إلى أن يعرب عن أسفه لأن القرن الثامن عشر لا يزال يحيا فينا، ويستند مفهوم القطيعة الابستمولوجية على ما يسميه باشلار بالتاريخ التراجعي، وهو المفهوم الذي على اساسه يقيم ويعيد النظر في المعارف القديمة، فضلاً عن أنه يتيح له دراسة تاريخ العلم من نهايته وليس من بدايته، أي من الحالة الراهنة للعلم، ثم يبدأ مراجعاته وتصحيحاته لكل تاريخ العلم السابق انطلاقاً من الحاضر أو الوضع الراهن للعلم... غاستون باشلار، جماليات الصورة، دكتورة غادة الإمام.
وحاتم كوكو في مساهماته المتعددة حول التشكيل في السودان، وفي حدود اعادة انتاج الماضي، أو جعل الماضي هو المرجعية الوحيدة للتشكيل الاصيل، اشار إلى ان الحس التأصيلي ومسوغاته الوطنية لا ينتبه لتحول شكل الدولة الحديثة وطبيعة ارتباطها بمحيطها والذي يستند لشبكة مصالح ومحيط للتفاعل واضح ومعلوم، بما يناقض ميل الآثاري ورؤيته للمتحف كقاعدة مطلقة للبيانات التشكيلية في السودان، الزخرفة الافريقية، الخط العربي... وسمات الرسم المروي والنوبي... ألخ، والرموز الحية في الثقافة السودانية... في معية المشكلين الأصلاء كمصادر مطلقة للفن السوداني، حدا ان تعلق لوحات استاذة كمالا ابراهيم اسحاق ودكتور موسي الخليفة فى استقبال المتحف القومي حين تلتزم هذا التصور وتغيب لوحة كمالا الكرستالية المغايرة لموصفات قاعدة البينات ومتعلقات الأصالة كما بدا أنفا...
على أن رأي باشلار أن الجدلية تجعل القطيعة المعرفية مركباً من الانفصال والاتصال، إلا أنه جنح كثيراً ورفض فكرة الاتصال تماماً، وركز على الانفصال في حركية العلم وتقدمه، وكان تركيزاً يخل بجدلية باشلار التي تجمع بين الطرفين، الاتصال والانفصال، ما دام جعل القطيعة انفصالات متوالية في تقدم العلم.
وحاتم بابكر كوكو نجده يعيد رسم العلاقة ما بين الماضي والحاضر بقوله: ان مؤسسة الآثار التي عززت موقفها مع تعاظم دور اليونسكو بعد الحرب العالمية الثانية، وفوق الأداء العام صارت مرجع لصحة نسب الفن التشكيلي وفق صبغة المشروعية من الأقدم للأحدث علي طريقه دمج المروي فى النوبي، داخل الزمن الثقافي والشواهد الأثارية... أو في مستوي اخر بتداخل العربي مع المروي والنوبى، حين استعان استاذنا أحمد الطيب لتفسير رمز النخلة (المستضاف) بالحديث النبوي الشريف... (اكرموا عماتكم النخل) فوقع الحافر على الحافر (موتيفة النخلة) فحس العربي المزارع المضمر يستثنى من البدوي المطلق كضيف ثقيل على مزارع وادي النيل المتمدن وراث الانتظام الحضاري الشاخص فى (الرموز الحية - والقديمة) وبالاستنتاج ذاته يتضح (ان شرق بحر القلزم وغربه هو دائرة حضارية واحدة.
وبالعودة للقطيعة الابستمولوجية عند غاستون باشلار نجد أن التقدم العلمي عنده مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، وشق طريق جديد لم يتراء للقدامى ولم يرد لهم بحال بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، وبالتالي الاضيق والأكثر قصوراً، وليس هذا بمعنى نفي الماضي وإنكاره والتنكر له، فذلك غير وارد في التقدم العلمي، وبالتالي، وفقاً لمفهوم القطيعة، إن التقدم هو شق طريق جديد كل الجدة، فهو خلق وإبداع جديد تماما، والجدة العلمية هي بؤرة التقدم والانفصال عن ماضي العلم والإضافة الحقيقية الحاضره.
وبهذا المعنى فان شالي بونيه وحاتم كوكو من خلال الحوارية الموفقة ما بين الماضي المكتشف حديثا، والحديث المعبر عنه من خلال تجليات الماضي، استطاعا ان يعيدا اسئلة القطيعة والانفصال إلى طاولة الحوار مرة أخرى، وعليه يظل السجال ما بين انصار القطيعة والاتصال حاضرا، وهو بالضرورة سجال منتج لمعارفه، ويصب في مصلحة التجديد، كما انه يعيد اكتشاف الماضي بوجهات نظر جديدة، هذا اذا ما تم التعامل مع الماضي في سياقاته الموضوعية، كما انه وبالضرورة نظل نحن ابناء الحاضر ومنه يجب ان ننطلق إلى المستقبل، من خلال شق طريق جديد منطلقين من منصات متعددة يمثل الماضي واحد منها، ولكن يجب ان لا يوثر في قدرتنا على استبصار طريقنا نحو التقدم إلى الامام.
مابين باشلار وكوكو تأملات في جدلية الاتصال والانقطاع
الهادي الشواف
على أضواء صالة المركز الثقافي الفرنسي وفي الفترة من الخامس من فبراير إلى الثامن من مارس، التقى عبق التاريخ مع سحر الحاضر، في كنوز مخفية ومكتشفة، معرض مشترك بين عالم الآثار السويسري شارل بوني صاحب الكنوز المكتشفة، التي سلط عبرها ضوء كاشف على لحظات مهمة من التاريخ، حين قضى أكثر من أربعين عاما في التنقيب عن آثار الحضارة النوبية وبالأخص آثار كرمة، وقدم خلال تلك الفترة الكثير من المعلومات المهمة عن بعض المعالم المجهولة، بل عمل على تصحيح الكثير من المعلومات غير الصحيح عن تلك الفترة من التاريخ، والفنان التشكيلي حاتم بابكر كوكو صاحب الكنوز المخفية ومكتشفة، والذي عبر من خلال عدد من اللوحات التشكيلية من التاريخ إلى الحاضر، من خلال استلهام أحدى الروايات الاسطورية لحكاوي السلطان كسفروك والتيتل التي تعكس خبرة وحكمة الحبوبة ودورها المحوري في الاسرة والمجتمع، حين وظف تلك الحكاية في بعض لوحاته التي تمتاز بالتركيب والبناء المتداخل والمميز، وحين تتأمل اللوحة تكتشف فيها عوالم مخفية تحيلك إلى علامات ودلالات جديدة، تعبر بك من التاريخ إلى الحاضر في حوارية جدلية عميقة.
كما ان عنوان المعرض قد يحيلك إلى الماضي، وقد يعبر بك إلى الحاضر، هذا يتوقف على زاوية النظر التي تتموضع حولها طريقة تفكيرك، وتصوراتك حول الماضي الذي ظل على الدوام يلقي بظلاله على الحاضر على الاقل في بنية التفكير الماضوية، وتظل الحوارية ما بين الماضي والحاضر مستمرة، والجدال مهتدم، ونظل في حالات كثيرة مشدودين للماضي بطريقة تجعل منه المنفذ الوحيد للحاضر وللانطلاق إلى المستقبل، وتظل المعضلة الاساسية هي ما يمثله الماضي من ثقل معرفي قد يعيق الانطلاق والتقدم خاصة اذا لم نحسن التعامل مع معطياته، لذا ظلت الاختلافات ما بين دعات الاتصال والانقطاع مع الماضي قائمة.
وهذا يجعلنا نستعين بغاستون باشلار ومفهومه حول الاتصال والانقطاع لتعضيد هذا الحوار، حيث ان مفهوم باشلار عن الاتصال أو الانقطاع في الزمان قد ترجم في سياق فلسفة العلم عنده إلى فكرة القطيعة الابستمولوجية التي تجسد نظرية باشلار الثورية الفلسفية الجذرية، مما دفع باشلار إلى أن يعرب عن أسفه لأن القرن الثامن عشر لا يزال يحيا فينا، ويستند مفهوم القطيعة الابستمولوجية على ما يسميه باشلار بالتاريخ التراجعي، وهو المفهوم الذي على اساسه يقيم ويعيد النظر في المعارف القديمة، فضلاً عن أنه يتيح له دراسة تاريخ العلم من نهايته وليس من بدايته، أي من الحالة الراهنة للعلم، ثم يبدأ مراجعاته وتصحيحاته لكل تاريخ العلم السابق انطلاقاً من الحاضر أو الوضع الراهن للعلم... غاستون باشلار، جماليات الصورة، دكتورة غادة الإمام.
وحاتم كوكو في مساهماته المتعددة حول التشكيل في السودان، وفي حدود اعادة انتاج الماضي، أو جعل الماضي هو المرجعية الوحيدة للتشكيل الاصيل، اشار إلى ان الحس التأصيلي ومسوغاته الوطنية لا ينتبه لتحول شكل الدولة الحديثة وطبيعة ارتباطها بمحيطها والذي يستند لشبكة مصالح ومحيط للتفاعل واضح ومعلوم، بما يناقض ميل الآثاري ورؤيته للمتحف كقاعدة مطلقة للبيانات التشكيلية في السودان، الزخرفة الافريقية، الخط العربي... وسمات الرسم المروي والنوبي... ألخ، والرموز الحية في الثقافة السودانية... في معية المشكلين الأصلاء كمصادر مطلقة للفن السوداني، حدا ان تعلق لوحات استاذة كمالا ابراهيم اسحاق ودكتور موسي الخليفة فى استقبال المتحف القومي حين تلتزم هذا التصور وتغيب لوحة كمالا الكرستالية المغايرة لموصفات قاعدة البينات ومتعلقات الأصالة كما بدا أنفا...
على أن رأي باشلار أن الجدلية تجعل القطيعة المعرفية مركباً من الانفصال والاتصال، إلا أنه جنح كثيراً ورفض فكرة الاتصال تماماً، وركز على الانفصال في حركية العلم وتقدمه، وكان تركيزاً يخل بجدلية باشلار التي تجمع بين الطرفين، الاتصال والانفصال، ما دام جعل القطيعة انفصالات متوالية في تقدم العلم.
وحاتم بابكر كوكو نجده يعيد رسم العلاقة ما بين الماضي والحاضر بقوله: ان مؤسسة الآثار التي عززت موقفها مع تعاظم دور اليونسكو بعد الحرب العالمية الثانية، وفوق الأداء العام صارت مرجع لصحة نسب الفن التشكيلي وفق صبغة المشروعية من الأقدم للأحدث علي طريقه دمج المروي فى النوبي، داخل الزمن الثقافي والشواهد الأثارية... أو في مستوي اخر بتداخل العربي مع المروي والنوبى، حين استعان استاذنا أحمد الطيب لتفسير رمز النخلة (المستضاف) بالحديث النبوي الشريف... (اكرموا عماتكم النخل) فوقع الحافر على الحافر (موتيفة النخلة) فحس العربي المزارع المضمر يستثنى من البدوي المطلق كضيف ثقيل على مزارع وادي النيل المتمدن وراث الانتظام الحضاري الشاخص فى (الرموز الحية - والقديمة) وبالاستنتاج ذاته يتضح (ان شرق بحر القلزم وغربه هو دائرة حضارية واحدة.
وبالعودة للقطيعة الابستمولوجية عند غاستون باشلار نجد أن التقدم العلمي عنده مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، وشق طريق جديد لم يتراء للقدامى ولم يرد لهم بحال بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، وبالتالي الاضيق والأكثر قصوراً، وليس هذا بمعنى نفي الماضي وإنكاره والتنكر له، فذلك غير وارد في التقدم العلمي، وبالتالي، وفقاً لمفهوم القطيعة، إن التقدم هو شق طريق جديد كل الجدة، فهو خلق وإبداع جديد تماما، والجدة العلمية هي بؤرة التقدم والانفصال عن ماضي العلم والإضافة الحقيقية الحاضره.
وبهذا المعنى فان شالي بونيه وحاتم كوكو من خلال الحوارية الموفقة ما بين الماضي المكتشف حديثا، والحديث المعبر عنه من خلال تجليات الماضي، استطاعا ان يعيدا اسئلة القطيعة والانفصال إلى طاولة الحوار مرة أخرى، وعليه يظل السجال ما بين انصار القطيعة والاتصال حاضرا، وهو بالضرورة سجال منتج لمعارفه، ويصب في مصلحة التجديد، كما انه يعيد اكتشاف الماضي بوجهات نظر جديدة، هذا اذا ما تم التعامل مع الماضي في سياقاته الموضوعية، كما انه وبالضرورة نظل نحن ابناء الحاضر ومنه يجب ان ننطلق إلى المستقبل، من خلال شق طريق جديد منطلقين من منصات متعددة يمثل الماضي واحد منها، ولكن يجب ان لا يوثر في قدرتنا على استبصار طريقنا نحو التقدم إلى الامام.
Comments
Post a Comment