شرخُ المرآةِ السَّليمة-- مامون التلب
تسنيم الغول
(1)
بلغ بي الغضب والغيظ حدَّ الارتجاف، ثم تحوَّلتُ كلِّياً إلى حالةٍ أخرى وهي الفزع؛ لأنني أدركت بصورةٍ يائسةٍ أنْ لا حول لي ولا قوَّة أمام هذا الشيطان الذي لا يُمَسّ ولا يُرَى ولا يُشَمّ ولا يترك أثراً إنسانياً واحداً!، وربما سيكون الأمر مضحكاً بالنسبة لك، لأنني قلت (شيطان)، فسيكون من الغباء أن أبحث عن آثارٍ (بشريِّة)، ولكن يمكنك أن تدقق قليلاً لتعرف ما أعني.
يا صديقي؛ على الأقل يجب أن تكون هنالك آثار خطوات على التراب، مساحات بيتي كلها ترابيِّة، الغرفة الوحيدة أرضها ترابٌ في تراب، على رفوف الدولاب التُّراب مترهِّلٌ وطويل العمر وصاحب ملكٍ لأنني، كما تعرف، أكره التنظيف والنِّساء! الطَّاولة، حيث يجد كنزه، دائماً، مستسلماً له، يغمرها التُّراب الخفيف، لا يعقل أن يقوم بكل أفعاله هذه دون أن يترك أثراً!
نعم، أنت محق، إن الأمر كما يبدو، إنه لص، حقير، ومن المؤكد أن وجهه مقطوعٌ على هيئة حدوة حصانٍ لا تعرف الرَّحمة في لحظة تسخينها ووضعها على حافر الحصان المسكين، لص غبيّ، وهذا الغباء ليس صفةً أُطلقها أنا لأجل التَّنفيس عن خجلي وهلعي والهزائم المتتالية أمامه، بل لأنه فعلاً غبيّ؛ فهو لا يسرق لا مال ولا بنون، لا يسرق الملابس ولا الأجهزة المنزلية غالية الثمن، حتى المُرتَّب الشهريّ، والذي، من شدَّة يأسي، تركته مرةً على الطاولة خصيصاً لكي يسرقه ويترفَّق قليلاً بي، وبكتبي الثمينة!.
(2)
لا أتخلى عن عادة ترك الكتاب، كما تعلم، على الطاولة الصغيرة بجانب السرير لحظة النوم، وعندما بدأ هذا الأمر فكَّرت في أنني لا بدَّ، مع حالة السُكر الشديدة في اليوم السَّابق، قد رميته في مكانٍ ما، لأنني أتذكر أن تلك الرغبة كانت تنهشني وأنا أقرأ ذلك الكتاب المتوحِّش، أيوَة المُتوحِّش، لقد كان كتاباً مُهاجماً، فتَّاكاً، يملك بين أرقام صفحاته وهوامشه مخالبَ خفيَّةً تُطلُّ بين الفينة والأخرى، ويمكنك أن تلاحظ قطرات الدم بين الجمل والسطور، لماذا تنظر إلي هكذا؟ لن أستمر في القصة إن واصلت الانفعال على هذا النحو هل تفهم؟.
أنا أعذرك، فأنا أيضاً تخيلت أنني أهذي، وأن الأمر لا يتعدَّى مجرَّد حالة سكر، وقلت ربما كان للشراب اليوميّ ارتباطٌ بهذه الهلوسات. كان ذلك اليوم، يوم دخل حياتي من أقسى أبوابها، هو آخر يوم للسّكر؛ أقلَعْت، حاولت أن أمحو من ذاكرتي كل مواضع بيوت العَرَقِي في المنطقة المحيطة بي، والقريبة من مكان عملي اليومي، لأنني (بَعِيْد عنَّك) تنتابني الرغبة في الشراب كلما تذكرت (المكان)، نعم، المكان بهذه الدقة يا صديقي. ربما نجحتُ نسبياً في هذا الأمر، ولكن لن أحكي لك التفاصيل، فلدينا هنا كارثة يجب أن تُمَنطَق يا أخي.
لا، هو لا يأتي يومياً بالتأكيد، جربت وسهرت لأيامٍ متتالية لأمسكه ولا فائدة، اللحظة التي ينهار فيها جسدي خلال النهار أو عند بداية المساء تبدأ الكتب في الاختفاء. ثم بدأت الأحداث الغريبة في الظهور، فغير الكتب، بدأ يختفي (كيس التُمباك) الخاص بي ضمن السرقة، الأمر أدهى من ذلك، فقد لاحظت أنني عندما أشتري التمباك من مكان غير المكان المعتاد فإنه لا يلمسه أبداً! حتى أنني خفت أن يصل الأمر لدرجة أن يصفعني يوماً على هذا الخطأ الفادح! وفي يومٍ من الأيام وجدت بعض القطع المنسية من ملابس نسائية!. تصور؟!. العطر الخاص بي أصبح ينقص بصورة غير طبيعية، قلت ربما أصبحتُ أُوسوسُ قهرياً، ولكن زجاجة العطر التي تبقى معي لفترة شهر أصبحت تنتهي في أسبوعين، هذا يعني أن مستخدمي العطر إثنين.
(3)
نعم، استمر الأمر لأكثر من عام، ولم أخبر أحداً، أعتذر عن ذلك، أعرف أعرف، ولكنني كنت أموت من الخجل عندما أهم بحكاية القصة على أحد، حتى لك، لقد قاومت كثيراً وضغطت أعصابي لأمتلك الشجاعة الكافية للحديث.
بعد هذا العام؟ توصَّلت لأن أتوائم معه، والجملة الأدق هي (أتَتَوْأم معه)، مثل كلِّ جلدٍ حيٍّ يغيِّر شكله وغطائه تكيُّفاً مع البيئة المحيطة، وخوفي منه أصبح كالزائدة الدوديّة، تالف ولا نفع منه، وأعتقد أنه التَهَب واستؤصل بواسطته هو، فهو الجراح العليم بمجريات جسدِ حياتي العابثة، تركتُ له الأبواب مشرعة، أصبحت أخاطبه بأكثر الطرق ابتكاراً وكان يستجيب، أترك له مذكرات رقيقة بجانب زجاجة العطر أطلب منه فيها أن لا يستخدم فرشاة أسناني، لأنني أصبحت استبدلها يومياً بسبب هذا الهاجس، أخبرته بأن راتبي قليل فخفَّض من جرعات استخدام العطر، أخبرته بأن لا يجلب الفتيات للمنزل فسمعت بيتي في الحيّ بدأت بالتدهور، فلم أجد آثاراً لملابس نسائية، وبدلاً من ذلك أصبحت أجد زجاجات خمورٍ فارغة، فقلت لنفسي هي حريته الشخصية. وصل الأمر بأن أعاد الكتب تدريجياً، ومعها الدوريات الأدبية والفنية التي كان يتابعها معي بشغف!.
(4)
نعم، أعرف، مع أنني تقبَّلت الوضع بصورةٍ رياضيَّةٍ فلماذا أشتكي بعد عام؟، في الحقيقة، فإن حالة الوجد المتبادلة بيني وبينه أصبحت فوق طاقتي، خصوصاً عندما ركَّزت على الكتب التي يسرقها، نوعها ومحتواها، أُعجبت بطريقة تفكيره، والخطوط الذكية التي يخطها تحت جملٍ محددة في الكتب والمجلات، أصبحت ملهمةً لحوارٍ مزدهرٍ بيننا، أصبحتُ عاشقاً سريِّاً لعاشقٍ سريّ، لص، ومفكِّر متميِّز!.
تنازلت عن كلّ كبريائي وكتبت له هذه الملاحظة: (لا يمكن أن تكون مرآتي ولا أراك)!. عشماً مني أن يدرك القصد، ولكن ما حدث بعد ذلك وضعني أمام الأسئلة: هل فهم الأمر بصورة سطحية؟ أم أن ما حدث كان الحقيقة؟ أم أن العالم غامضٌ لهذه الدرجة ويستحق أن يهجر؟.
ما حدث: في صباحٍ وجدت نفسي في حالة سكر، بجانبي امرأة يفوح منها عطري!.
ما حدث: كنتُ مارَّاً بسرعة من الحمام إلى السرير لأتغطى في ذلك الليل البارد، لأرى (شيئاً) في المرآة بسرعة خاطفة، عدت لتكون المرآة هي المرآة، بكلّ طبيعتها المؤلمة، بكلّ سخافتها ومباشرتها لأنام بلا زوائد دوديِّة خوفيِّة!. نعم، وجدت في المرآة شخصاً سواي.
مارس 2007م
Painting by: Guy Dinning
تسنيم الغول
(1)
بلغ بي الغضب والغيظ حدَّ الارتجاف، ثم تحوَّلتُ كلِّياً إلى حالةٍ أخرى وهي الفزع؛ لأنني أدركت بصورةٍ يائسةٍ أنْ لا حول لي ولا قوَّة أمام هذا الشيطان الذي لا يُمَسّ ولا يُرَى ولا يُشَمّ ولا يترك أثراً إنسانياً واحداً!، وربما سيكون الأمر مضحكاً بالنسبة لك، لأنني قلت (شيطان)، فسيكون من الغباء أن أبحث عن آثارٍ (بشريِّة)، ولكن يمكنك أن تدقق قليلاً لتعرف ما أعني.
يا صديقي؛ على الأقل يجب أن تكون هنالك آثار خطوات على التراب، مساحات بيتي كلها ترابيِّة، الغرفة الوحيدة أرضها ترابٌ في تراب، على رفوف الدولاب التُّراب مترهِّلٌ وطويل العمر وصاحب ملكٍ لأنني، كما تعرف، أكره التنظيف والنِّساء! الطَّاولة، حيث يجد كنزه، دائماً، مستسلماً له، يغمرها التُّراب الخفيف، لا يعقل أن يقوم بكل أفعاله هذه دون أن يترك أثراً!
نعم، أنت محق، إن الأمر كما يبدو، إنه لص، حقير، ومن المؤكد أن وجهه مقطوعٌ على هيئة حدوة حصانٍ لا تعرف الرَّحمة في لحظة تسخينها ووضعها على حافر الحصان المسكين، لص غبيّ، وهذا الغباء ليس صفةً أُطلقها أنا لأجل التَّنفيس عن خجلي وهلعي والهزائم المتتالية أمامه، بل لأنه فعلاً غبيّ؛ فهو لا يسرق لا مال ولا بنون، لا يسرق الملابس ولا الأجهزة المنزلية غالية الثمن، حتى المُرتَّب الشهريّ، والذي، من شدَّة يأسي، تركته مرةً على الطاولة خصيصاً لكي يسرقه ويترفَّق قليلاً بي، وبكتبي الثمينة!.
(2)
لا أتخلى عن عادة ترك الكتاب، كما تعلم، على الطاولة الصغيرة بجانب السرير لحظة النوم، وعندما بدأ هذا الأمر فكَّرت في أنني لا بدَّ، مع حالة السُكر الشديدة في اليوم السَّابق، قد رميته في مكانٍ ما، لأنني أتذكر أن تلك الرغبة كانت تنهشني وأنا أقرأ ذلك الكتاب المتوحِّش، أيوَة المُتوحِّش، لقد كان كتاباً مُهاجماً، فتَّاكاً، يملك بين أرقام صفحاته وهوامشه مخالبَ خفيَّةً تُطلُّ بين الفينة والأخرى، ويمكنك أن تلاحظ قطرات الدم بين الجمل والسطور، لماذا تنظر إلي هكذا؟ لن أستمر في القصة إن واصلت الانفعال على هذا النحو هل تفهم؟.
أنا أعذرك، فأنا أيضاً تخيلت أنني أهذي، وأن الأمر لا يتعدَّى مجرَّد حالة سكر، وقلت ربما كان للشراب اليوميّ ارتباطٌ بهذه الهلوسات. كان ذلك اليوم، يوم دخل حياتي من أقسى أبوابها، هو آخر يوم للسّكر؛ أقلَعْت، حاولت أن أمحو من ذاكرتي كل مواضع بيوت العَرَقِي في المنطقة المحيطة بي، والقريبة من مكان عملي اليومي، لأنني (بَعِيْد عنَّك) تنتابني الرغبة في الشراب كلما تذكرت (المكان)، نعم، المكان بهذه الدقة يا صديقي. ربما نجحتُ نسبياً في هذا الأمر، ولكن لن أحكي لك التفاصيل، فلدينا هنا كارثة يجب أن تُمَنطَق يا أخي.
لا، هو لا يأتي يومياً بالتأكيد، جربت وسهرت لأيامٍ متتالية لأمسكه ولا فائدة، اللحظة التي ينهار فيها جسدي خلال النهار أو عند بداية المساء تبدأ الكتب في الاختفاء. ثم بدأت الأحداث الغريبة في الظهور، فغير الكتب، بدأ يختفي (كيس التُمباك) الخاص بي ضمن السرقة، الأمر أدهى من ذلك، فقد لاحظت أنني عندما أشتري التمباك من مكان غير المكان المعتاد فإنه لا يلمسه أبداً! حتى أنني خفت أن يصل الأمر لدرجة أن يصفعني يوماً على هذا الخطأ الفادح! وفي يومٍ من الأيام وجدت بعض القطع المنسية من ملابس نسائية!. تصور؟!. العطر الخاص بي أصبح ينقص بصورة غير طبيعية، قلت ربما أصبحتُ أُوسوسُ قهرياً، ولكن زجاجة العطر التي تبقى معي لفترة شهر أصبحت تنتهي في أسبوعين، هذا يعني أن مستخدمي العطر إثنين.
(3)
نعم، استمر الأمر لأكثر من عام، ولم أخبر أحداً، أعتذر عن ذلك، أعرف أعرف، ولكنني كنت أموت من الخجل عندما أهم بحكاية القصة على أحد، حتى لك، لقد قاومت كثيراً وضغطت أعصابي لأمتلك الشجاعة الكافية للحديث.
بعد هذا العام؟ توصَّلت لأن أتوائم معه، والجملة الأدق هي (أتَتَوْأم معه)، مثل كلِّ جلدٍ حيٍّ يغيِّر شكله وغطائه تكيُّفاً مع البيئة المحيطة، وخوفي منه أصبح كالزائدة الدوديّة، تالف ولا نفع منه، وأعتقد أنه التَهَب واستؤصل بواسطته هو، فهو الجراح العليم بمجريات جسدِ حياتي العابثة، تركتُ له الأبواب مشرعة، أصبحت أخاطبه بأكثر الطرق ابتكاراً وكان يستجيب، أترك له مذكرات رقيقة بجانب زجاجة العطر أطلب منه فيها أن لا يستخدم فرشاة أسناني، لأنني أصبحت استبدلها يومياً بسبب هذا الهاجس، أخبرته بأن راتبي قليل فخفَّض من جرعات استخدام العطر، أخبرته بأن لا يجلب الفتيات للمنزل فسمعت بيتي في الحيّ بدأت بالتدهور، فلم أجد آثاراً لملابس نسائية، وبدلاً من ذلك أصبحت أجد زجاجات خمورٍ فارغة، فقلت لنفسي هي حريته الشخصية. وصل الأمر بأن أعاد الكتب تدريجياً، ومعها الدوريات الأدبية والفنية التي كان يتابعها معي بشغف!.
(4)
نعم، أعرف، مع أنني تقبَّلت الوضع بصورةٍ رياضيَّةٍ فلماذا أشتكي بعد عام؟، في الحقيقة، فإن حالة الوجد المتبادلة بيني وبينه أصبحت فوق طاقتي، خصوصاً عندما ركَّزت على الكتب التي يسرقها، نوعها ومحتواها، أُعجبت بطريقة تفكيره، والخطوط الذكية التي يخطها تحت جملٍ محددة في الكتب والمجلات، أصبحت ملهمةً لحوارٍ مزدهرٍ بيننا، أصبحتُ عاشقاً سريِّاً لعاشقٍ سريّ، لص، ومفكِّر متميِّز!.
تنازلت عن كلّ كبريائي وكتبت له هذه الملاحظة: (لا يمكن أن تكون مرآتي ولا أراك)!. عشماً مني أن يدرك القصد، ولكن ما حدث بعد ذلك وضعني أمام الأسئلة: هل فهم الأمر بصورة سطحية؟ أم أن ما حدث كان الحقيقة؟ أم أن العالم غامضٌ لهذه الدرجة ويستحق أن يهجر؟.
ما حدث: في صباحٍ وجدت نفسي في حالة سكر، بجانبي امرأة يفوح منها عطري!.
ما حدث: كنتُ مارَّاً بسرعة من الحمام إلى السرير لأتغطى في ذلك الليل البارد، لأرى (شيئاً) في المرآة بسرعة خاطفة، عدت لتكون المرآة هي المرآة، بكلّ طبيعتها المؤلمة، بكلّ سخافتها ومباشرتها لأنام بلا زوائد دوديِّة خوفيِّة!. نعم، وجدت في المرآة شخصاً سواي.
مارس 2007م
Painting by: Guy Dinning
Comments
Post a Comment