( الموتى لا يكذبون ) - قصة من الأدب الفرنسي
------ بقلم جي دي موباسان ------- ( منقول
---------------------------------------------------------------------------
أحببتها حتى كدتُ أجن بها ! .. ولستُ أدري لماذا يُحب الناس ويجنون! لماذا؟ أليس عجيبا ألا يحلو في عين المحب إلا حبيبه ، ولا تشتعل في جوانحه رغبة إلا فيه ؟ أليس عجيبا ألا يخطر على البال إلا اسمه ! ..أجل ، اسم واحد في هذا الوجود يساوره بلا انقطاع متدفقا كالنبع من أغوار النفس إلى الشفتين ..اسم يردده اللسان فلا يمل ويهمس به كالدعاء في الصلاة كل لحظة !
هذه قصتي أسردها عليك ..أجل قصتي أنا وحدي ، وإن كان الحب قصة واحدة لا تتغير ..قصة واحدة في كل زمان ومكان ..لقاء فحب ..هذه قصتي ..قضيت سنة كاملة يلامسني حنانها وينعشني تدليلها ..سنة كاملة قضيتها بين ذراعيها ، أستاف عبير ثيابها وألتصق بها حتى يصبح كل منا جزءا من حبيبه !
ثمّ …ثمَّ ماتت! لا أدري كيف ماتت ، فقد عادت ذات مساء وقد بللها المطر ثم اعتراها سعال شديد ألزمها الفراش اسبوعا كاملا.ولست الآن بذاكر ما حدث سوى أن الأطباء حضروا وكتبوا وانصرفوا،وأن العقاقير استحضرت واستعملت ..وكانت يداها ساخنتين وكانت الحرارة تشع من جبهتها ، أما عيناها فكانتا تلمعان تحت ظلال الوجوم والأسى ! ثم غاب عن ذاكرتي كل شيء..كل شيء لقد انتهت !
ولم أذكر شيئا بعد ذلك .رأيت الكاهن يقول لي"خليلتك" فشعرت أنه أهانها بهذه الكلمة فطردته من بيتي ، وجاء بعده كاهن رقيق الحاشية عزاني وتحدث لي عنها ..ثم شيعت إلى مدينة الموتى ودفنت..أجل دُفنت ..هي..هي في تلك الحفرة ولم أطق البقاء هناك فأسرعت إلى المنزل لاهثا من التعب وفي اليوم التالي رحلت عن باريس!
عدتُ أمس إلى باريس وما أبصرتُ حجرتي حجرتنا وفراشنا وأثاثنا كل ما يبقى من حياة الإنسان بعد الموت..حتى كتم الحزن أنفاسي ومزق قلبي فكدتُ أقذف بنفسي من النافذة..
إنه لا طاقة لي على البقاء في مكان كان يضم نفسين متحابتين،ولا قدرة لي على الحياة بين جدران تحتفظ بألوف من ذكرياتها وأنفاسها!
وفي لحظة واحدة حملت قبعتي واتجهت إلى الباب هربا من ذلك المكان فإذا بمرآة في حجم الإنسان تعترضني ..في هذه المرآة كانت حبيبتي ترى صورتها الفاتنة ..دعني أقبّل هذه المرآة..ولكن وا أسفاه إنها باردة كالموت..يالها من ذكرى ! إنها مرآة حزينة مؤلمة مزعجة..ما أسعد العاشق الذي يستطيع أن ينسى الذكريات ويدفن الماضي!
وفي الحال اندفعتُ إلى حيث لا أدري و إلى حيث لا أريد ..إنني في المقبرة..أمام قبرها المتواضع ..نظرت إليه..فإذا شاهد من المرمر يعلوه وقد نقشت عليه ثلاث كلمات لا غير " أحبَّتْ، وأحبَّتْ، وماتت"!
هنا رقدت وهنا تبلى عظامها ..ما أفظع الحياة! لقد بللت القبر بدموعي وركعتُ إلى جواره حتى جنَّ الليل ، فأخذتُ أتجول بين القبور ..في مدينة الأموات هائما على وجهي ..ما أصغرها إذا قيست بمدينة الأحياء! ولكن ما أكثر عدد الموتى إذا قيس بعدد الأحياء.
لم يكن ثمة أحد سواي فقبعت تحت شجرة كثيفة الأغصان متعلقا بجذعها ثم أخذتُ أجوب المكان بتؤدة وهدوء حتى لا يسمع وقع قدمي أحد ولكني ضللتُ السبيل ولم أستطع العودة إلى قبرها ..وكنتُ أتعثّر في الأحجار والأشجار وتصطدم يداي وقدماي وركبتاي بلوحات الرخام ويتخبط رأسي وصدري بالقبور ..كان الظلام حالكا فتملكني الخوف..ونال مني الجهد فجلستُ على أحد القبور التي تملأ المكان بيد أني سمعتُ شيئا..ماذا؟ انها ضوضاء ، أم لعلها مجرد أصوات تدوي في رأسي المضطرب؟
وفجأة شعرتُ كأن لوحة الرخام التي كنتُ جالسا عليها تتحرك تحتي ..فوثبتُ من مكاني وانتقلتُ إلى القبر المجاور فإذا بالحجر الذي كنتُ جالسا عليه يتحرك ..يرتفع..ظهر الميت ..كان هيكلا عاريا ..لقد رأيته بوضوح رغم الظلام الحالك ..وعلى الشاهد فوق القبر كُتبت هذه العبارة " هنا يرقد جاك أولفيان..مات في الحادية والخمسين من عمره وكان محبا لأسرته عطوفا نبيلا كريم الخلق ..وقد عاش ومات في حمى ربه ونعمته"..أخذ الميت يحملق في بمحجرته في ما كتبه الأحياء على قبره ثم تناول قطعة من الصوان وأزال الكتابة ..وشرع في نقش عبارة أخرى في مكانها برأس العظمة الباقية من اصبعه وما كاد يفرغ حتى ظهرت حروفها أمام عيني كالنار،فقرأتُ هذه العبارة"هنا يستريح جاك أولفيان..فارق الحياة في الواحد والخمسين من عمره بعد أن عجّل بموت والده ليرثه وعذب زوجته وقسا على أطفاله وخدع جيرانه ونهب كل ما استطاع نهبه ومات تعيسا"..
ثم وقف صامتا كالحجر يتأمل ما كتب ..وتلفتُ حولي فإذا القبور كلها قد فتحت وخرج منها أصحابها يمحون الأكاذيب ويثبتون الحقائق فتبين لي أن بين هؤلاء الموتى لصوصا وقطاع طرق ومجرمين وخبثاء ومنافقين ..ولكن أهليهم خلعوا عليهم صفات الملائكة فكنتُ أقرأ ان هذا كان أبا رحيما وهذه كانت زوجة وفية وتلك عذراء طاهرة وهذا خدم الانسانية أجل لقد استيقظ الموتى جميعا وأخذوا يكتبون في آن واحد على ألواح الرخام الحقائق المرة التي كان يجهلها الجميع أو يتجاهلونها!
وهنا تذكرتُ شيئا فأطلقتُ ساقي للريح ..نعم لعلها هي أيضا ..حبيبتي كسائر الموتى كتبت عبارة جديدة على قبرها ..وطفقتُ أعدو وسط الأكفان والهياكل العظيمة ، حتى وجدتها ..هاهي وهذا وجهها ..أما العبارة الأولى " أحبَّتْ وأحبَّتْ وماتتْ " فقد قرأتُ مكانها العبارة التالية "خرجت وخانت وماتت "
"خرجت ذات ليلة ممطرة وخانت حبيبها فأصيبت ببرد شديد وماتت"..!
هذه قصتي أسردها عليك ..أجل قصتي أنا وحدي ، وإن كان الحب قصة واحدة لا تتغير ..قصة واحدة في كل زمان ومكان ..لقاء فحب ..هذه قصتي ..قضيت سنة كاملة يلامسني حنانها وينعشني تدليلها ..سنة كاملة قضيتها بين ذراعيها ، أستاف عبير ثيابها وألتصق بها حتى يصبح كل منا جزءا من حبيبه !
ثمّ …ثمَّ ماتت! لا أدري كيف ماتت ، فقد عادت ذات مساء وقد بللها المطر ثم اعتراها سعال شديد ألزمها الفراش اسبوعا كاملا.ولست الآن بذاكر ما حدث سوى أن الأطباء حضروا وكتبوا وانصرفوا،وأن العقاقير استحضرت واستعملت ..وكانت يداها ساخنتين وكانت الحرارة تشع من جبهتها ، أما عيناها فكانتا تلمعان تحت ظلال الوجوم والأسى ! ثم غاب عن ذاكرتي كل شيء..كل شيء لقد انتهت !
ولم أذكر شيئا بعد ذلك .رأيت الكاهن يقول لي"خليلتك" فشعرت أنه أهانها بهذه الكلمة فطردته من بيتي ، وجاء بعده كاهن رقيق الحاشية عزاني وتحدث لي عنها ..ثم شيعت إلى مدينة الموتى ودفنت..أجل دُفنت ..هي..هي في تلك الحفرة ولم أطق البقاء هناك فأسرعت إلى المنزل لاهثا من التعب وفي اليوم التالي رحلت عن باريس!
عدتُ أمس إلى باريس وما أبصرتُ حجرتي حجرتنا وفراشنا وأثاثنا كل ما يبقى من حياة الإنسان بعد الموت..حتى كتم الحزن أنفاسي ومزق قلبي فكدتُ أقذف بنفسي من النافذة..
إنه لا طاقة لي على البقاء في مكان كان يضم نفسين متحابتين،ولا قدرة لي على الحياة بين جدران تحتفظ بألوف من ذكرياتها وأنفاسها!
وفي لحظة واحدة حملت قبعتي واتجهت إلى الباب هربا من ذلك المكان فإذا بمرآة في حجم الإنسان تعترضني ..في هذه المرآة كانت حبيبتي ترى صورتها الفاتنة ..دعني أقبّل هذه المرآة..ولكن وا أسفاه إنها باردة كالموت..يالها من ذكرى ! إنها مرآة حزينة مؤلمة مزعجة..ما أسعد العاشق الذي يستطيع أن ينسى الذكريات ويدفن الماضي!
وفي الحال اندفعتُ إلى حيث لا أدري و إلى حيث لا أريد ..إنني في المقبرة..أمام قبرها المتواضع ..نظرت إليه..فإذا شاهد من المرمر يعلوه وقد نقشت عليه ثلاث كلمات لا غير " أحبَّتْ، وأحبَّتْ، وماتت"!
هنا رقدت وهنا تبلى عظامها ..ما أفظع الحياة! لقد بللت القبر بدموعي وركعتُ إلى جواره حتى جنَّ الليل ، فأخذتُ أتجول بين القبور ..في مدينة الأموات هائما على وجهي ..ما أصغرها إذا قيست بمدينة الأحياء! ولكن ما أكثر عدد الموتى إذا قيس بعدد الأحياء.
لم يكن ثمة أحد سواي فقبعت تحت شجرة كثيفة الأغصان متعلقا بجذعها ثم أخذتُ أجوب المكان بتؤدة وهدوء حتى لا يسمع وقع قدمي أحد ولكني ضللتُ السبيل ولم أستطع العودة إلى قبرها ..وكنتُ أتعثّر في الأحجار والأشجار وتصطدم يداي وقدماي وركبتاي بلوحات الرخام ويتخبط رأسي وصدري بالقبور ..كان الظلام حالكا فتملكني الخوف..ونال مني الجهد فجلستُ على أحد القبور التي تملأ المكان بيد أني سمعتُ شيئا..ماذا؟ انها ضوضاء ، أم لعلها مجرد أصوات تدوي في رأسي المضطرب؟
وفجأة شعرتُ كأن لوحة الرخام التي كنتُ جالسا عليها تتحرك تحتي ..فوثبتُ من مكاني وانتقلتُ إلى القبر المجاور فإذا بالحجر الذي كنتُ جالسا عليه يتحرك ..يرتفع..ظهر الميت ..كان هيكلا عاريا ..لقد رأيته بوضوح رغم الظلام الحالك ..وعلى الشاهد فوق القبر كُتبت هذه العبارة " هنا يرقد جاك أولفيان..مات في الحادية والخمسين من عمره وكان محبا لأسرته عطوفا نبيلا كريم الخلق ..وقد عاش ومات في حمى ربه ونعمته"..أخذ الميت يحملق في بمحجرته في ما كتبه الأحياء على قبره ثم تناول قطعة من الصوان وأزال الكتابة ..وشرع في نقش عبارة أخرى في مكانها برأس العظمة الباقية من اصبعه وما كاد يفرغ حتى ظهرت حروفها أمام عيني كالنار،فقرأتُ هذه العبارة"هنا يستريح جاك أولفيان..فارق الحياة في الواحد والخمسين من عمره بعد أن عجّل بموت والده ليرثه وعذب زوجته وقسا على أطفاله وخدع جيرانه ونهب كل ما استطاع نهبه ومات تعيسا"..
ثم وقف صامتا كالحجر يتأمل ما كتب ..وتلفتُ حولي فإذا القبور كلها قد فتحت وخرج منها أصحابها يمحون الأكاذيب ويثبتون الحقائق فتبين لي أن بين هؤلاء الموتى لصوصا وقطاع طرق ومجرمين وخبثاء ومنافقين ..ولكن أهليهم خلعوا عليهم صفات الملائكة فكنتُ أقرأ ان هذا كان أبا رحيما وهذه كانت زوجة وفية وتلك عذراء طاهرة وهذا خدم الانسانية أجل لقد استيقظ الموتى جميعا وأخذوا يكتبون في آن واحد على ألواح الرخام الحقائق المرة التي كان يجهلها الجميع أو يتجاهلونها!
وهنا تذكرتُ شيئا فأطلقتُ ساقي للريح ..نعم لعلها هي أيضا ..حبيبتي كسائر الموتى كتبت عبارة جديدة على قبرها ..وطفقتُ أعدو وسط الأكفان والهياكل العظيمة ، حتى وجدتها ..هاهي وهذا وجهها ..أما العبارة الأولى " أحبَّتْ وأحبَّتْ وماتتْ " فقد قرأتُ مكانها العبارة التالية "خرجت وخانت وماتت "
"خرجت ذات ليلة ممطرة وخانت حبيبها فأصيبت ببرد شديد وماتت"..!
Comments
Post a Comment