المستعمرون و«البقرة الحمراء»
الياس خوري
أقيم في إسرائيل متحف بتمويل حكومي من أجل «مهجري غوش قطيف»، وأربع مستعمرات صغيرة ومعزولة بالقرب من جنين. متحف للذاكرة ونوستالجيا «العودة» نشأ بتمويل حكومي وسوف يفتتحه رئيس دولة إسرائيل ريفلين، وتقام فيه حلقة دراسية سيكون إسحق هرتزوغ رئيس حزب العمل أحد المتحدثين فيها إلى جانب نفتالي بنيت ويوري إرييـــل من حزب البيت اليهودي.
قبل أن ندخل في التفاصيل السريالية لهذا المتحف، يجدر بنا التوقف عند مسألة لغوية تبدو هامشية، لكنها تختزن في رأيي جوهر المشكلة مع مجتمع المستعمرين colons في فلسطين المحتلة. فلقد سادت كلمة خاطئة في قاموسنا اليومي هي كلمة المستوطنات للإشارة إلى المستعمرات الصهيونية، وكلمة مستوطنين للإشارة إلى المستعمرين اليهود. في القاموس الفلاحي الفلسطيني كان الناس يستخدمون كلمة كوبانية (وهي تعريب لكلمة compagniaالإيطالية) للإشارة إلى المستعمرات. وكلمة كوبانية، على علاتها، أكثر دقة لتوصيف الواقع الاستعماري الصهيوني، من كلمة مستوطنة، لأنها تحيل إلى شركة أجنبية لا علاقة لها بالبلاد.
استعادة المعنى في كلمات ملائمة هو شرط أي نقاش، من هنا ضرورة تصويب لغتنا، كي نضع النقاش في اطاره الصحيح. فالمستعمرات أو الكوبانيات اليهودية في فلسطين قبل 1948 وبعدها، وقبل 1967 وبعدها، لا تختلف في شيء عن المستعمرات الفرنسية التي أقامها أصحاب «الأقدام السوداء» في الجزائر. طبعا، يجب أن لا يحجب هذا الوصف إمكانية اختلاف المصائر بين المستعمرين الفرنسيين والمستعمرين الإسرائيليين، نتيجة كون المشروع الصهيوني يحمل طبيعتين متكاملتين هما الطبيعة الكولونيالية والمشروع القومي، لكن الحديث عن المصائر لا يزال مبكرا، فالمشروع الكولونيالي الإسرائيلي لا يزال في طور صناعة النكبة الفلسطينية المستمرة، ولن يبدأ الحديث الجدي عن المصائر إلا حين تنكسر شوكته.
المستوطنات كلمة مضللة، لأنها توحي بأنها قرى أو مدن يجري بناؤها، وهذا غير صحيح، انها مستعمرات تُنتزع أراضيها من أصحابها بالقوة كي يقيم فيها مهاجرون قرروا استعمار البلاد والاستيلاء عليها.
يستخدم المشرفون على المتحف كلمات من نوع «اقتلاع» و»طرد» للحديث عن تفكيك مستعمرات غزة، ولا يشيرون إلى كلمات مثل انفصال أو فك اشتباك، ثم تبلغ بهم الوقاحة إلى حد الحديث عن النوستالجيا إلى شواطئ غزة ورمالها، محولين تجربة المستعمرات إلى عصر ذهبي، وجاعلين من الجلاد الإسرائيلي ضحية عملية اقتلاع، وحنين «عودة»، إلى أرضـ(ه)!
لم يسبق أن وصلت الوقاحة إلى هذا الحد، وهي وقاحة يختص بها الاسرئيليون، وهذا يذكّرنا بممارسة «حقوق» عودتهم إلى أحيائهم في القدس الشرقية التي غادروها عام 1948. عام النكبة ليست حدا فاصلا الا بالنسبة للفلسطينيين.»الغائبون» الفلسطينيون لا حقوق لهم لأنهم فقدوها بقوة الاحتلال عام 1948، أما «الحاضرون» الإسرائيليون فيستطيعون الاحتفاظ ليس فقط بحقوقهم التي فقدوها عام 1948، بل ايضا بحقوق الأسطورة التي جعلتهم أصحاب الأرض منذ ألفي عام!
يشاهد زوار المتحف، المقام على مدخل نيتزان، الواقعة بين أسدود والمجدل (عسقلان)، فيلما يقودهم إلى الحكاية. بطل الفيلم طفل يدعى أفيخاي كان آخر طفل ولد في غوش قطيف ليلة الرحيل، وهو يريد أن يتعرف إلى «جذوره» من خلال الحوار مع شقيقه الضابط في سلاح المشاة. مزيج من البراءة المخادعة والحنين الكاذب إلى غزة التي تبدو كخريطة مستعمرات، حيث يجري تهميش مدنها وقراها ومخيماتها أمام جماليات المستعمرات الصهيونية!
الطفل «البريء» لا يعرف مثلا أن عدد المستعمرين اليهود الصهاينة كان ثمانية آلاف في قطاع غزة الذي يقيم فيه مليون ونصف مليون فلسطيني، كما لا يعرف أن غوش قطيف أقيمت على أراض فلسطينية احتلت عام 1967، ولا يريد ان يعرف ان تفكيك شارون لمستعمرات غزة كان لأن إسرائيل عاجزة عن الاحتفاظ بها لأنها تريد الاستيلاء على الضفة الغربية.
ليس المهم ان تعرف بل المهم ان تعيد انتاج الأسطورة في أشكال لا متناهية، هذه هي لعبة الذاكرة الإسرائيلية. انهم يخترعون لأنفسهم ذاكرة من الأوهام كي يكونوا الضحية في أعين أنفسهم. ضحايا مدججون بالسلاح، يرقصون على إيقاع قنابلهم النووية المكدّسة، ويستغيثون ويبكون. احتلال يصير حنينا وهمجية تتحول حنانا، يا للمفارقة، يكذبون ويدعون الصدق! حفلة تنكرية تحوّل الذاكرة إلى مهزلة، والتاريخ إلى مسخرة.
وبعد المتحف يعدّ لنا الإسرائيليون مفاجأة البقرة الحمراء. هنا تصل كوميديا الأسطورة إلى ذروتها، فهم يبحثون عن بقرة «مقدسة»، يقول تراثهم الأسطوري إنها شرط بناء هيكل سليمان. بقرة توراتية حمراء لا يتخلل جلدها أي لون آخر، ويبدو أنهم وجدوا ثورا يمتلك هذه المواصفات في مكان ما من أميركا، وسيلقحون بقرات إسرائيلية بسائله المنوي، وصولا إلى البقرة المنتظرة التي سيسمح لهم رمادها بالتطهر من دنس الموتى. هذا التطهر هو الشرط اليهودي الديني للصعود إلى جبل الهيكل، تمهيدا لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه. وعندما سيحين موعد هذه الكارثة سوف نجدهم وقد امتلأت أعينهم بالدموع، وهم يستعيدون ذاكرة أساطيرهم على أشلاء الحاضر الفلسطيني!
توقفت عند هذا المتحف ليس من أجل أن أبدي تقززي من مهزلة البقرة الحمراء وغيرها من مظاهر الثقافة العنصرية التي افترست المجتمع الإسرائيلي منذ تأسيس الدولة على أنقاض الحق والحقيقة، بل من أجل أن اتساءل متى يستفيق الوعي العربي من إغماءة الطوائف والمذاهب والنحل، وينظر إلى المصير الفلسطيني بصفته مؤشرا إلى المصير العربي.
بين أبو بكر البغدادي وأبو حافظ القرداحي يتم تدمير أرض العرب وتشريد الناس وإبادة الحاضر والذاكرة.
سفهاء العنصرية الإسرائيلية يبيعون العالم الوحشية بصفتها أحد أشكال الحنين إلى ذاكرة استعمارية في مستعمرات تافهة ومعزولة ولا يمكن الدفاع عنها في غزة، بينما يقوم سفهاء الانحطاط العربي بتدمير المدن والقرى بالأسلحة الكيماوية والبراميل، وتحطيم الحضارة بالمطارق وسبي النساء وتنفيذ إعدامات همجية اتقنوا فنون تصويرها.
هذه هي المفارقة، نحن ندمر حاضرنا وذاكرتنا بأيدي سفهائنا من المتسلطين علينا، بينما يقوم المستعمرون الصهانية بتدمير فلسطين كي يقيموا فوقها تاريخ الأسطورة وذاكرة الجريمة.
كنت أتمنى أن يكون في مقدوري السخرية من ذاكرة الحنين إلى غوش قطيف، لأنها نموذج على العهر والنفاق، لكنني عاجز عن السخرية. فلقد نزع الخليفة البغدادي والمملوك الذي يحكم دمشق البسمة عن شفاهنا وقدرتنا على السخرية من حماقة الزمن الذي ارتضى بأن تتحول الأسطورة إلى تاريخ أعمى.
كيف نسخر وشوارع بيروت صارت مزبلة الانحطاط العربي، والغريب أن رائحة النفايات التي تحتل بيروت تستعيد رائحة الحرب الأهلية الطائفية. فالطوائف وحروبها لها رائحة واحدة هي رائحة الزبالة.
قبل أن ندخل في التفاصيل السريالية لهذا المتحف، يجدر بنا التوقف عند مسألة لغوية تبدو هامشية، لكنها تختزن في رأيي جوهر المشكلة مع مجتمع المستعمرين colons في فلسطين المحتلة. فلقد سادت كلمة خاطئة في قاموسنا اليومي هي كلمة المستوطنات للإشارة إلى المستعمرات الصهيونية، وكلمة مستوطنين للإشارة إلى المستعمرين اليهود. في القاموس الفلاحي الفلسطيني كان الناس يستخدمون كلمة كوبانية (وهي تعريب لكلمة compagniaالإيطالية) للإشارة إلى المستعمرات. وكلمة كوبانية، على علاتها، أكثر دقة لتوصيف الواقع الاستعماري الصهيوني، من كلمة مستوطنة، لأنها تحيل إلى شركة أجنبية لا علاقة لها بالبلاد.
استعادة المعنى في كلمات ملائمة هو شرط أي نقاش، من هنا ضرورة تصويب لغتنا، كي نضع النقاش في اطاره الصحيح. فالمستعمرات أو الكوبانيات اليهودية في فلسطين قبل 1948 وبعدها، وقبل 1967 وبعدها، لا تختلف في شيء عن المستعمرات الفرنسية التي أقامها أصحاب «الأقدام السوداء» في الجزائر. طبعا، يجب أن لا يحجب هذا الوصف إمكانية اختلاف المصائر بين المستعمرين الفرنسيين والمستعمرين الإسرائيليين، نتيجة كون المشروع الصهيوني يحمل طبيعتين متكاملتين هما الطبيعة الكولونيالية والمشروع القومي، لكن الحديث عن المصائر لا يزال مبكرا، فالمشروع الكولونيالي الإسرائيلي لا يزال في طور صناعة النكبة الفلسطينية المستمرة، ولن يبدأ الحديث الجدي عن المصائر إلا حين تنكسر شوكته.
المستوطنات كلمة مضللة، لأنها توحي بأنها قرى أو مدن يجري بناؤها، وهذا غير صحيح، انها مستعمرات تُنتزع أراضيها من أصحابها بالقوة كي يقيم فيها مهاجرون قرروا استعمار البلاد والاستيلاء عليها.
يستخدم المشرفون على المتحف كلمات من نوع «اقتلاع» و»طرد» للحديث عن تفكيك مستعمرات غزة، ولا يشيرون إلى كلمات مثل انفصال أو فك اشتباك، ثم تبلغ بهم الوقاحة إلى حد الحديث عن النوستالجيا إلى شواطئ غزة ورمالها، محولين تجربة المستعمرات إلى عصر ذهبي، وجاعلين من الجلاد الإسرائيلي ضحية عملية اقتلاع، وحنين «عودة»، إلى أرضـ(ه)!
لم يسبق أن وصلت الوقاحة إلى هذا الحد، وهي وقاحة يختص بها الاسرئيليون، وهذا يذكّرنا بممارسة «حقوق» عودتهم إلى أحيائهم في القدس الشرقية التي غادروها عام 1948. عام النكبة ليست حدا فاصلا الا بالنسبة للفلسطينيين.»الغائبون» الفلسطينيون لا حقوق لهم لأنهم فقدوها بقوة الاحتلال عام 1948، أما «الحاضرون» الإسرائيليون فيستطيعون الاحتفاظ ليس فقط بحقوقهم التي فقدوها عام 1948، بل ايضا بحقوق الأسطورة التي جعلتهم أصحاب الأرض منذ ألفي عام!
يشاهد زوار المتحف، المقام على مدخل نيتزان، الواقعة بين أسدود والمجدل (عسقلان)، فيلما يقودهم إلى الحكاية. بطل الفيلم طفل يدعى أفيخاي كان آخر طفل ولد في غوش قطيف ليلة الرحيل، وهو يريد أن يتعرف إلى «جذوره» من خلال الحوار مع شقيقه الضابط في سلاح المشاة. مزيج من البراءة المخادعة والحنين الكاذب إلى غزة التي تبدو كخريطة مستعمرات، حيث يجري تهميش مدنها وقراها ومخيماتها أمام جماليات المستعمرات الصهيونية!
الطفل «البريء» لا يعرف مثلا أن عدد المستعمرين اليهود الصهاينة كان ثمانية آلاف في قطاع غزة الذي يقيم فيه مليون ونصف مليون فلسطيني، كما لا يعرف أن غوش قطيف أقيمت على أراض فلسطينية احتلت عام 1967، ولا يريد ان يعرف ان تفكيك شارون لمستعمرات غزة كان لأن إسرائيل عاجزة عن الاحتفاظ بها لأنها تريد الاستيلاء على الضفة الغربية.
ليس المهم ان تعرف بل المهم ان تعيد انتاج الأسطورة في أشكال لا متناهية، هذه هي لعبة الذاكرة الإسرائيلية. انهم يخترعون لأنفسهم ذاكرة من الأوهام كي يكونوا الضحية في أعين أنفسهم. ضحايا مدججون بالسلاح، يرقصون على إيقاع قنابلهم النووية المكدّسة، ويستغيثون ويبكون. احتلال يصير حنينا وهمجية تتحول حنانا، يا للمفارقة، يكذبون ويدعون الصدق! حفلة تنكرية تحوّل الذاكرة إلى مهزلة، والتاريخ إلى مسخرة.
وبعد المتحف يعدّ لنا الإسرائيليون مفاجأة البقرة الحمراء. هنا تصل كوميديا الأسطورة إلى ذروتها، فهم يبحثون عن بقرة «مقدسة»، يقول تراثهم الأسطوري إنها شرط بناء هيكل سليمان. بقرة توراتية حمراء لا يتخلل جلدها أي لون آخر، ويبدو أنهم وجدوا ثورا يمتلك هذه المواصفات في مكان ما من أميركا، وسيلقحون بقرات إسرائيلية بسائله المنوي، وصولا إلى البقرة المنتظرة التي سيسمح لهم رمادها بالتطهر من دنس الموتى. هذا التطهر هو الشرط اليهودي الديني للصعود إلى جبل الهيكل، تمهيدا لهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه. وعندما سيحين موعد هذه الكارثة سوف نجدهم وقد امتلأت أعينهم بالدموع، وهم يستعيدون ذاكرة أساطيرهم على أشلاء الحاضر الفلسطيني!
توقفت عند هذا المتحف ليس من أجل أن أبدي تقززي من مهزلة البقرة الحمراء وغيرها من مظاهر الثقافة العنصرية التي افترست المجتمع الإسرائيلي منذ تأسيس الدولة على أنقاض الحق والحقيقة، بل من أجل أن اتساءل متى يستفيق الوعي العربي من إغماءة الطوائف والمذاهب والنحل، وينظر إلى المصير الفلسطيني بصفته مؤشرا إلى المصير العربي.
بين أبو بكر البغدادي وأبو حافظ القرداحي يتم تدمير أرض العرب وتشريد الناس وإبادة الحاضر والذاكرة.
سفهاء العنصرية الإسرائيلية يبيعون العالم الوحشية بصفتها أحد أشكال الحنين إلى ذاكرة استعمارية في مستعمرات تافهة ومعزولة ولا يمكن الدفاع عنها في غزة، بينما يقوم سفهاء الانحطاط العربي بتدمير المدن والقرى بالأسلحة الكيماوية والبراميل، وتحطيم الحضارة بالمطارق وسبي النساء وتنفيذ إعدامات همجية اتقنوا فنون تصويرها.
هذه هي المفارقة، نحن ندمر حاضرنا وذاكرتنا بأيدي سفهائنا من المتسلطين علينا، بينما يقوم المستعمرون الصهانية بتدمير فلسطين كي يقيموا فوقها تاريخ الأسطورة وذاكرة الجريمة.
كنت أتمنى أن يكون في مقدوري السخرية من ذاكرة الحنين إلى غوش قطيف، لأنها نموذج على العهر والنفاق، لكنني عاجز عن السخرية. فلقد نزع الخليفة البغدادي والمملوك الذي يحكم دمشق البسمة عن شفاهنا وقدرتنا على السخرية من حماقة الزمن الذي ارتضى بأن تتحول الأسطورة إلى تاريخ أعمى.
كيف نسخر وشوارع بيروت صارت مزبلة الانحطاط العربي، والغريب أن رائحة النفايات التي تحتل بيروت تستعيد رائحة الحرب الأهلية الطائفية. فالطوائف وحروبها لها رائحة واحدة هي رائحة الزبالة.
الياس خوري
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment