الأمة الرقيقة
د. ابتهال الخطيب
انتشرت قبل فترة في وسائل التواصل الاجتماعي صورة مقارنة لغلاف الناشيونال جيوغرافيك العربية والانكليزية لشهر آذار/مارس 2015. كان موضوع الغلاف هو «الحرب ضد العلم» حيث تم وضع رؤوس أقلام على الغلاف الانكليزي لخمس أكذوبات يتعرض لها العلم، فيما حمل الغلاف العربي أربع أكذوبات فقط اختلفت إحداها عن المذكورة في النسخة الانكليزية، بينما ألغيت الخامسة تماما وهي أكذوبة أن «التطور لم يحدث».
ان أحد أهم الوسائل الدفاعية الإنسانية، أمام ما قد يؤذ المشاعر أو يهز الإيمانيات أو يبث فكرا جديدا أو يحرك رتابة الحياة، هي تجاهل الحاضر الواضح وتكذيب الحقيقة البينة (مع التحفظ على كلمة «حقيقة» التي هي أحد أهم المبادئ التي لربما ليس لها وجود). فالإنسانية البدائية كانت تنحو دائما للتفاسير الغيبية لما يحدث أمامها من ظواهر لا يمكن تفسيرها، وعندما كانت تخطو باتجاه اكتشاف أو علم جديد، كان العديد من أفرادها يقاومون الفكرة الجديدة التي لربما ترفع هالة الغموض ما وراء الطبيعية وتقدم تفسيرا قد يتضارب ومعتقدات رسخها هؤلاء عبر سنوات طويلة من التفاسير الروحانية التي لم يكونوا ليمتلكوا غيرها.
اليوم، يحاول الإنسان المتحضر أن يواجه جهله ومخاوفه، فكلما كشف الغطاء عن ظاهرة كانت تبدو فوق طبيعية، فوجد لها تفسيرا علميا منطقيا احتفى بانتهاء الغموض واستخدم الضوء الجديد لإضاءة المزيد من الجوانب المظلمة في هذا الكهف المظلم العميق الرهيب الذي هو الحياة. نحن، العرب والمسلمين، لنا كذلك محاولاتنا القديمة التي من خلالها نخلق سبلا جديدة لخداع أنفسنا ولتكذيب الحقائق وتجاهلها وفي أحيان كثيرة لتحويرها لتصبح مجرد خطة وضيعة يخطها الغرب لمهاجمة الإسلام، وفي آخر الصيحات السياسية هي خطط غربية بأيادي إيرانية، فكل ما يحدث لنا، حتى ذاك الذي يتجلى ويتفشى في عقولنا هو مؤامرة غربية أو إيرانية، والتي كانت تعرف سابقا بالمؤامرة الإسرائيلية.
أتذكر قبل ما يزيد على العشرين سنة، عندما ظهرت تكنولوجيا الاستنساخ واتسع الحديث عنها، أن دار حوار ديني في العالم العربي الإسلامي حولها، قبل كل وأي حوار آخر. لا زالت كلمة لزميلة لي في عملي القديم ترن في أذني حين قالت: هذا حرام، إنه زنا. نظرت لها وقلت، الزنا يتطلب رجل وامرأة غريبين عن بعض وفعل جنسي، والاستنساخ ليس فيه أي من هذه الثلاثة! وقبلها، يستحضرني درس الأحياء للمرحلة الثانوية والذي تعلمنا من خلاله النظرية الداروينية في صفحتين ثم دحضها في خمس صفحات، وهو درس لم يعد يدرس مطلقا، لا إثباتا ولا تكذيبا، في معظم مناهجنا العربية اليوم.
وحتى بعد أن اكتشف العلماء آثار وجود إنساني، أو للفصيل ما قبل الانساني الذي تطور منه الإنسان، والتي تعود لملايين السنوات، فلدينا اليوم بقايا «لوسي» التي عاشت منذ ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنوات، وبقايا آردي التي عاشت منذ ما يزيد عن أربعة ملايين من السنوات، وحتى هذه الآثار والبقايا لمخلوقات «الهوموسيبيان» ثم ما يسبقها من «بارانثروبوس» وسابقتها من «الأسترالوبيثيكس» وغيرها من الهومونايد موجود بعضها في متحف الفن الطبيعي في واشنطن، مشيرة إشارة مثبتة إلى نظرية التطور البشري، فنحن لا نزال نرفض الفكرة ونعتقد أن الارض عمرها ستة أو عشرة آلاف سنة، بل ويصر بعضنا على أنها هي التي تدور حول الشمس، ثم يتمادى آخرون ليصروا على أنها مسطحة.
ولأن الغرب أوجع رأسه معنا، ولأن من مصلحته أن يترك العرب والمسلمين في جهلهم وطغيانهم يعمهون، فقد كيفوا لنا غلافا «علميا» على مزاجنا، غلاف يراعي مشاعرنا و»يدادي» إيمانياتنا ولا يجرحنا، ونحن الذين ننجرح من الصغيرة قبل الكبيرة. فلو أن الكرة الأرضية لفظت كل ما بداخلها من أدلة لتشير إلى عملية التطور، سنبقى نحن نرفض، وسيساعدنا الغرب الحريص على مشاعرنا والأحرص على استمرار جهلنا.
هناك من علمائنا من حاول التوفيق بين الإسلام والعلم، كما فعل المسيحيون الذين ما عادوا يشعرون بالتناقض بين الدين والعلوم الجديدة. أتذكر بعض الكتابات التي تتعامل مع نظرية التطور حيث تفسر الآية التي تقول «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» أنها دلالة على أن الملائكة قد شهدت بشرا قبل آدم عاش على الأرض وعاث فيها فسادا، فاستخدم هذا التفسير لاثبات نظرية التطور، وفي محاولة لإزالة الخلاف بينها وبين التوجه الديني. إلا أن مثل هذا الفكر دوما ما يختبئ تحت الطاولات المليئة بالكتب الدينية التراثية، فكر يظهر على استحياء ويختفي سريعا حفاظا على مشاعر الأمة الإسلامية وعلى أمن أصحابه والأهم، حفاظا على جهلنا المطبق.
عموما، أهم شيء في هذه الدنيا مشاعرنا، فنحن أمة تفجر في الآخرين وتشيع العنف في شوارعهم وتسير في مظاهرات كراهية في عقر دارهم وتدخل بطائراتها في مبانيهم بسبب مشاعرنا الجريحة، فإذا ما تطببت تلك وحفظت من الجراح يبقى العالم بخير، وها هي الدنيا كلها تحاول الحفاظ على مشاعرنا الرقيقة، حتى الناشيونال جيوغرافيك، فهنيئا لنا.
ان أحد أهم الوسائل الدفاعية الإنسانية، أمام ما قد يؤذ المشاعر أو يهز الإيمانيات أو يبث فكرا جديدا أو يحرك رتابة الحياة، هي تجاهل الحاضر الواضح وتكذيب الحقيقة البينة (مع التحفظ على كلمة «حقيقة» التي هي أحد أهم المبادئ التي لربما ليس لها وجود). فالإنسانية البدائية كانت تنحو دائما للتفاسير الغيبية لما يحدث أمامها من ظواهر لا يمكن تفسيرها، وعندما كانت تخطو باتجاه اكتشاف أو علم جديد، كان العديد من أفرادها يقاومون الفكرة الجديدة التي لربما ترفع هالة الغموض ما وراء الطبيعية وتقدم تفسيرا قد يتضارب ومعتقدات رسخها هؤلاء عبر سنوات طويلة من التفاسير الروحانية التي لم يكونوا ليمتلكوا غيرها.
اليوم، يحاول الإنسان المتحضر أن يواجه جهله ومخاوفه، فكلما كشف الغطاء عن ظاهرة كانت تبدو فوق طبيعية، فوجد لها تفسيرا علميا منطقيا احتفى بانتهاء الغموض واستخدم الضوء الجديد لإضاءة المزيد من الجوانب المظلمة في هذا الكهف المظلم العميق الرهيب الذي هو الحياة. نحن، العرب والمسلمين، لنا كذلك محاولاتنا القديمة التي من خلالها نخلق سبلا جديدة لخداع أنفسنا ولتكذيب الحقائق وتجاهلها وفي أحيان كثيرة لتحويرها لتصبح مجرد خطة وضيعة يخطها الغرب لمهاجمة الإسلام، وفي آخر الصيحات السياسية هي خطط غربية بأيادي إيرانية، فكل ما يحدث لنا، حتى ذاك الذي يتجلى ويتفشى في عقولنا هو مؤامرة غربية أو إيرانية، والتي كانت تعرف سابقا بالمؤامرة الإسرائيلية.
أتذكر قبل ما يزيد على العشرين سنة، عندما ظهرت تكنولوجيا الاستنساخ واتسع الحديث عنها، أن دار حوار ديني في العالم العربي الإسلامي حولها، قبل كل وأي حوار آخر. لا زالت كلمة لزميلة لي في عملي القديم ترن في أذني حين قالت: هذا حرام، إنه زنا. نظرت لها وقلت، الزنا يتطلب رجل وامرأة غريبين عن بعض وفعل جنسي، والاستنساخ ليس فيه أي من هذه الثلاثة! وقبلها، يستحضرني درس الأحياء للمرحلة الثانوية والذي تعلمنا من خلاله النظرية الداروينية في صفحتين ثم دحضها في خمس صفحات، وهو درس لم يعد يدرس مطلقا، لا إثباتا ولا تكذيبا، في معظم مناهجنا العربية اليوم.
وحتى بعد أن اكتشف العلماء آثار وجود إنساني، أو للفصيل ما قبل الانساني الذي تطور منه الإنسان، والتي تعود لملايين السنوات، فلدينا اليوم بقايا «لوسي» التي عاشت منذ ما يزيد عن ثلاثة ملايين من السنوات، وبقايا آردي التي عاشت منذ ما يزيد عن أربعة ملايين من السنوات، وحتى هذه الآثار والبقايا لمخلوقات «الهوموسيبيان» ثم ما يسبقها من «بارانثروبوس» وسابقتها من «الأسترالوبيثيكس» وغيرها من الهومونايد موجود بعضها في متحف الفن الطبيعي في واشنطن، مشيرة إشارة مثبتة إلى نظرية التطور البشري، فنحن لا نزال نرفض الفكرة ونعتقد أن الارض عمرها ستة أو عشرة آلاف سنة، بل ويصر بعضنا على أنها هي التي تدور حول الشمس، ثم يتمادى آخرون ليصروا على أنها مسطحة.
ولأن الغرب أوجع رأسه معنا، ولأن من مصلحته أن يترك العرب والمسلمين في جهلهم وطغيانهم يعمهون، فقد كيفوا لنا غلافا «علميا» على مزاجنا، غلاف يراعي مشاعرنا و»يدادي» إيمانياتنا ولا يجرحنا، ونحن الذين ننجرح من الصغيرة قبل الكبيرة. فلو أن الكرة الأرضية لفظت كل ما بداخلها من أدلة لتشير إلى عملية التطور، سنبقى نحن نرفض، وسيساعدنا الغرب الحريص على مشاعرنا والأحرص على استمرار جهلنا.
هناك من علمائنا من حاول التوفيق بين الإسلام والعلم، كما فعل المسيحيون الذين ما عادوا يشعرون بالتناقض بين الدين والعلوم الجديدة. أتذكر بعض الكتابات التي تتعامل مع نظرية التطور حيث تفسر الآية التي تقول «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» أنها دلالة على أن الملائكة قد شهدت بشرا قبل آدم عاش على الأرض وعاث فيها فسادا، فاستخدم هذا التفسير لاثبات نظرية التطور، وفي محاولة لإزالة الخلاف بينها وبين التوجه الديني. إلا أن مثل هذا الفكر دوما ما يختبئ تحت الطاولات المليئة بالكتب الدينية التراثية، فكر يظهر على استحياء ويختفي سريعا حفاظا على مشاعر الأمة الإسلامية وعلى أمن أصحابه والأهم، حفاظا على جهلنا المطبق.
عموما، أهم شيء في هذه الدنيا مشاعرنا، فنحن أمة تفجر في الآخرين وتشيع العنف في شوارعهم وتسير في مظاهرات كراهية في عقر دارهم وتدخل بطائراتها في مبانيهم بسبب مشاعرنا الجريحة، فإذا ما تطببت تلك وحفظت من الجراح يبقى العالم بخير، وها هي الدنيا كلها تحاول الحفاظ على مشاعرنا الرقيقة، حتى الناشيونال جيوغرافيك، فهنيئا لنا.
د. ابتهال الخطيب
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment