تسودانيز اون لاين
خليل جمعه جابر-السودان
مكتبتى
تمهيد مفاهيمي:
الى وقت ليس ببعيد اعتبر عنصر المكان مكملاً لعناصر العمل السردي الاخرى، وليس اساسياً، والدليل على ذلك ظهور اعمال ادبية(شعر، رواية، قصة) كثيرة في فترات مختلفة معلنة موت المكان الادبي، الذي اعتبرته نوع من التكهن التقليدي، واعتبرت العمل الادبي في المقام الاول هو فناً زمانياً خالصاً. الا ان الحال لم يستمر على ذلك الوضع، حيث كان للمكان بعد تلك الفترة حظه من التواجد في الدراسات النقدية والتحليلية للاعمال الادبية لا سيما السردية منها والرواية على وجه الخصوص في تغليب عنصر المكان على الزمان، كما عند اتباع مدرسة الرواية الجديدة ك(روب جرييه) الذي اعتبر وجود الاشياء في المكان ارسخ واوضح من وجودها في الزمان، وبالتالي اصبح العمل السردي اذا افتقد المكان يفقد خصوصيتة واصالتة. وارتبطت دراسة المكان بالتحليل الروائي لكونه هو المكان الذي تجري فيه احداث القصة، ولاعتبار القراءة تستند على المكان كمركز للرواية، نسبة لبنيتها السردية الطويلة وكثرة شخوصها وفضائها الواسع الذي تتحرك فيه وبذلك يخلق المكان علاقات انسانية اجتماعية من منظور البعد المكاني والدلالي. كما ظهر له الكثير من المنظرين والمدافعين عن تأخره في الظهور على المسرح النقدي، كمطوري النقد الظاهراتي كباشلار وجان بيير وغيرهم، الذين اعتبروه وحدة اساسية من وحدات العمل الادبي الثلاث في نظرية الرواية. وكان ذلك لاعتبارات كثيرة لم تتوقف عند دور المكان كمنطلق اساسي للحالة السردية بل ذهب لابعد من ذلك واعتباره النقطة المركزية للعمل السردي فهو الذي يخلق شخوصة، احداثة، ازمانة، بل لغتة وحواره، واخرون يشيرون الى العمل الروائي باعتباره مكان فقط لاغيره، بل ذهب البعض لحد المؤلف ايضاً الذي يخلقة المكان ويجعله المحفز والدافع الاكبر للكتابة والتأليف، يعتبر باشلار المكان" هو واحد من اهم العوامل التى تدمج افكار وذكريات الانسانية، ويضيف : ان كل اماكن لحظات عزلتنا الماضية، والاماكن التى عانينا فيها من الوحدة والتى استمتعنا بها ورغبنا فيها وتالفنا مع الوحدة فيها، تظل راسخة في دواخلنا لاننا نرغب في ان تظل كذلك، فالانسان يعلن غريزياً ان المكان الذي يرتبط بوحدتة مكان خلاق يحدث هذا حتى حين تختفي تلك الاماكن من الحاضر".(باشلار، جماليات المكان،ص40).
لكن كلمة المكان ذاتها شابها الكثير من الاختلاف، فهي كمصطلح موجود بالفرنسية(lieu-place) في الاول ومن بعد ذلك استخدم مصطلح (espace) لشموليته واعتباره العامل الاكثر تحديداً لعنصر المكان في العمل السردي، اما في الانجليزية فقد اتخذ مصطلح(place) دلالة للمكان لكن استخدمت ايضاً كلمة (location) بمعنى الموقع، اي الموقع التى تجري فيه الاحداث.
اختلف التنظير الابستمولوجي لمفهوم المكان على العموم، وفي العمل الروائي خاصة، فهنالك من يرى انه وسط غير محدود يشتمل على اشياء منها المادية الملموسة والمعنوية المحسوسة، فالمكان عند جاستون باشلار هو ماعيش فيه بالخيال ويظل مصدر جذب دائم. ويعتبره غيره نظام من العلاقات المجردة يستخرج من الاشياء المادية الملموسة، وعليه لايصبح ابعاداً هندسية واحجاماً، كما هو ليس بالطبع حيزاً جغرافياً فقط. انا الفلسفة هي الاخرى اختلف مفهومها للمكان، فارسطو مثلاً حدده بالحاوي للاشياء وليس جزء من الشيء وهو بذلك مساوي للمحوى او الشيء، فيه الاعلى والاسفل، الخاص والمشترك، في حين يذهب افلاطون الى ان وجود المكان غير متناه وليس فيه ابعاد لانه متجانس مع كل الجهات، ويرى بعدميتة. وجود شيء بهذه الخاصية لذا يعتبر المكان عدماً، اما ديكارت يراه هو ماهية الاشياء ذاتها وجوهرها المادي والمكان جوهر وليس بالكون خلاء، وهنالك من ربط مفهوم المكان بالحواس الخمس بصورة مباشرة "المكان صورة أولية ترجع إلى قوة الحساسية الظاهرة التي تشمل حواسنا الخمس".(يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة)
منظرو علم الاجتماع يرون في المكان ماهو الا الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الانسان ومجتمعه، وحصره عالم الاجتماع HILL بالفقاعة التي يعيش داخها الانسان ويحملها معه اينما ذهب. وعليه، صار المكان واحدا من القضايا التي يخترقها الإنسان بالبحث بغية التعمق في هذا المحسوس وتمام إدراكه.(مصطفى الضبع، استراتيجية المكان).
اما المكان الادبي او الروائي فاختلف هو الاخر في التعريف، من حيث هو عبارة عن عالم لا تمثله الحدود التى نعرفها من اشكال طبوغرافية او اعلام جغرافية تدور فيها احداث القصة المتخيلة وتتفاعل داخلها الشخصيات وتتصارع بما يمثل الحبكة في النص السردي، وبين المكان الروائي كبنية لفظية، اي المكان الذي صنعتة اللغة وتأسس عليها، ويكون التعامل مع وصف المكان كالاحجام والفراغات والالوان والاشكال، ومناظر واشياء ويكون كل ذلك عبارة عن رموز لغوية تحمل الكثير من الدلالات الجمالية والوظائف الفنية. كما ان اللغة الروائية تعمل على الاستفادة من المكان الواقعي وعلاقتة بالانسان، وهنا يأتى دور الاديب البارع في اختيار اللغة الجمالية لتوظيف ذلك المكان توظيفاً فنياً مدهشاً.
وعلى ذلك الاختلاف، جاءت كلمات ومصطلحات مختلفة ايضاً، مثل المكان، والحيز، الفضاء، الموقع، وغيرها من المصطلحات التى ترى بان هنالك اختلاف وان بدأ غير واضح في استخدام المصطلح من مكان وحيز وفضاء. يرى البعض ان المكان تساير مع مفهوم الزمان، فبدأ بالمكان او البناء المكاني، ثم انتقل المصطلح الى الزمكانية جامعاً بين المكان والزمان في كلمة واحدة، واخيراً الفضاء او الفضاء الروائي، والرأي الذي يفترض ان المكان الروائي, مكان بعينه تجري فيه أحداث الرواية, بينما يشير الفضاء الروائي إلى المسرح الروائي بأكمله, ويكون المكان داخله جزءا منه. وهنا كما يرى باختين ان لا فصل بين المكان والزمان في شكل العمل الفني، ويعتبر ان الزمن يحدد الوحدة الفنية للمؤلف الادبي في علاقتة مع الواقع الفعلي. بل ويصفهم باخيتين بذاتيين وهما ذات الكاتب والقارئ ولايمكن فصلهما باي شكل من الاشكال. وان "المكان هو العمود الفقري الذي يربط اجزاء الرواية بعضها البعض، وهو الذي يسم الاشخاص والاحداث الروائية في العمق، والمكان يلد السرد قبل ان تلده الاحداث الروائية وبشكل اعمق واكثر اثراً" (ياسين النصير، اشكالة المكان في النص الادبي). كان هنالك اتجاه ينحو الى ان مفهوم الفضاء النصي، واعتبار المكان ماهو الا الحيز الذي تشغله الكتابة(السواد على البياض) من حروف وعلامات ونقاط وصور ورسومات...الخ والفضاء النصي كما يراه ميشال بوتور هو الاشكال المختلفة التى تتبلور عبرها اللغة في المحيط النصي كالخطوط الافقية والمنحرفة والهوامش الرسوم والاشكال والفهارس وغيرها من الاشكال التى تتلبس المكان النصي او تتجسد عبره (ميشال بووتور، بحوث في الرواية الجديدة).
اما فيما يتعلق بمصطلح الفضاء –الفضاء الروائي- ويقسمه النقاد الى الفضاء الجغرافي، والفضاء النصي، والفضاء الدلالي. فالاول المقصود به المكان الذي يتحرك به الشخوص او يفترض ذلك، وهذا الفضاء او جميعهم تتولد من الحكي ذاته، اما الثاني-النصي- يعني به ماتشغلة الكتابة من حيز باعتبارة احرف طباعية على الورق، والفضاء الدلالي هو لغة الحكي وما يرتبط بها من دلالة مجازية.(حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي)
عموماً يمكن تعريف الفضاء الروائي بانه هو الحيز الزمكاني الذي تتمظهر فيه الشخصيات والاشياء صانعة بذلك الاحداث من خلال ادوات المؤلف التى يتم نسجها نسيجاً فنياً جمالياً. ويرى الجزائري عبدالمالك مرتاض انه" عالم بلاحدود، بحر دون ساحل، وليل دون صباح، ونهار دون مساء، انه امتداد مفتوح على جميع الاتجهات وفي كل الافاق"(عبدالمالك مرتاض في نظرية الرواية). ولذلك استخدم مرتاض مصطلح الحيز بدلاً عن مصطلح المكان او الفضاء، ويرى ان مصطلح الفضاء قاصر مقارنة بالحيز لاعتباره ان الفضاء خواء وفراغ بينما الحيز يستعمل في النوع، الثقل، الحجم. ويمكن تلخيص الاتجاهات المختلفة في اختيار المصطلح المناسب بين المكان، الفضاء، او الحيز، الى :
- اتجاه ينحو الى استخدام مصطلح المكان، ويرى انه الاجدى، وربط ظهور المصطلحات الاخرى كالفضاء وغيرها بصورة مباشرة بالعلوم، او النظرية النسبية لانشتاين بالتحديد، وهنا يرى هذا الاتجاه بانه يجب التفريق مابين قراءة وتحليل الادب ونظريات العلوم.
- اما الاتجاه الذي يفضل استخدام الحيز ويرى بافضليتة في تحليل العمل الروائي، نسبة لشكل المكان الذي لايخلوا من واقعية وان كان خيالياً، فالمؤلف في حوجة الى تقريب المكان الذي يتخيلة في سرديتة الى مكان اقرب للواقع، ليكتمل شكل المكان في مخيلة القاريء وايهامه بواقعيتة.
- اتجاه يرى ان مفهوم الفضاء هو الامثل للحديث عن الرواية وقراءتها التحليلية، نسبة لطابعها التخيلي الذي لا يفرق مابين اتجاه فوقي او تحتي واقعي او تخيلي قريب او بعيد، ضيق او واسع...الخ.
المكان في رواية الجنقو مسامير الارض:-
من خلال الفلسفة التى تقول ان المكان لوحة فسيفسائية لحياة الناس في حركتهم جاءت رواية "الجنقو مسامير الارض-مقولة لمجهولين-" لمؤلفها عبد العزيز بركة ساكن، من مواليد مدينة كسلا في العام 1963م.
جاءت الرواية في(477) صفحة من الحجم المتوسط، من دار اوراق للنشر والتوزيع بالقاهرة، الا ان المقال فى الاشارة للصفحات اعتمد على النسخة الالكترونية للرواية من موقع مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة الالكتروني، والتى جاء في (214) ورقة. وجاءت الرواية مقسمة الى فصول تحمل عناوين دلالية او مكثفة للمعنى وشارحة للمحتوى في احيان كثيرة.
العنوان كعتبة اساسية ومفتاح المكان في "الجنقو مسامير الارض":
يعتقد الشكلانيوين والبنيويون باهمية العنوان ليس لاعتباره مفتاح للنص بل لانه يمثل نص مصغر او نص موازٍ، والعنوان له وميض التعريف بما يمكن ان تنطوي عليه مجاهل النص(عبدالرحمن منيف، الباب المفتوح)، كما سماه جيرار جينيت من ضمن المتعاليات النصية التى وضعها تحت مسمى المناصصة(العنونة، التناص، الميتانص، والتعلق النصي). اما وظائف العنوان كما يراها شارل غريفل تتمثل في تسمية النص، تعيينه، ووضعة في الاعتبار، كما يراهو اخرون انه يشمل التعيينية، الاغرائية، والايدولوجية كوظائف للعنوان( هنري متران، العنونة عند كلاود دوشية).
وهناك رأيان حول دراسة كيفية عكس العنوان للنص، الاول يرى دراسة النص واثرة على العنوان، والاخر يرى العكس، حيث البداية تكون من النص وكيفية تحيقيقة لمدول العنوان، والاخير ربما يمطلق من مقولة امبيرطو ايكو بان العنوان ينبغي ان يعمد الى تشويش الافكار.
في رواية "الجنقو مسامير الارض" لايهم من اين البداية، من النص ام من العنوان لانهما يتكاملان فيما بينهما، والعنوان شكل بصورة اكبر النص المصغر لكل الرواية، واذا حاولنا تفكيك العنوان من حيث الاشارات المتواجده به، فاننا نرى ارض واحدة فالنشبهها بقطعة من الخشب يحاول الكاتب ان يشكل منها قطعة فنية، بعد تحديد ماهيتها و تثبيتها بقدر الامكان للاحتفاظ بشكل الفكرة كما هي، فالحلة ماهي الا قطعة الخشب تلك التى شكلها الراوي ويحاول تثبيتها من خلال المسامير، وتلك المسامير لم تكن سوي شخوص الرواية الذين يخلقون فرض وجودها حركة وحدثاً، وبخروجهم خارج المكان تفقد تلك الارض ثباتها، فالراوي وصديقة ، مختار علي، ود امونة، العازة، الصافية، الم قشي، كلتومة، حلوم الزغاوية، اداليا دانيال وزوجها، الفكي علي ود الزغراد، اسحق المسلاتي، العوض، عبدرامان البلالاوي، بن الملايكة، الحمريطي، بوشاي، ام جابر، وغيرهم لم يكونوا سوى جنقو ومسامير لارض "الحلة"، او هم مسامير محفورة في عمق ارض الرواية التى ان فقدتهم فقدت تماسكها، لربما الامر الذي يفسر البطولة المطلقة لكل شخوص الرواية.
الرواية تصور لنا الحياة التى تعيشها مجموعات "الجنقو"، والتى تيمثل المكان فيها بعداً اجتماعياً وانسانياً بامتياز، والجنقو كما جاء في الرواية تبياناً للمطلح "فهو كَاتَاكَوْ، في الفترة ما بين ديسمبر إلي مارس حيث يعمل في مزارع السكر بكنانة، ومصنع سُكر خشم القربة، عسلاية أو الجنيد. ويُسَمى فَحْامِي، في الفترة ما بين أبريل إلى مايو حيث يعمل أم بحتي؛ أي منظفاً للمشروعات الجديدة أو المهملة من الأشجار، ويصنع من سُوقها وفروعها الفحم النباتي. ويُسَمى جنقو أو جنقوجورا، في الفِترة ما بين يونيو وديسمبر، أي منذ هُطول الأمطار، إلى نهاية موسم حصاد السمسم. أما خلال السنة كلها فتطلق عليه النساء إسم فَدّادِي" (الرواية، ص14-15) وتصف الرواية حضورهم، حركتهم وعاداتهم التى تنصب على المكان وتبقى جزء لايتجزء منهم بان"الجنقو يتشابهون في كل شئ، يقفزون في مشيهم كغربان هرمة ترقص حول فريستها، يلبسون قمصاناً جديدةً، ياقاتها تحفل بالأوساخ التي عمل العرق وعملت الشمس وريح السموم، التُربة الطينية السوداء على جعلها شاهداً على صراع مرير مع المكان والطقس، يفضلون الجينز ذي الجيوب الكبيرة والعلامات التجارية البارزة، المكتوبة بخطوط كبيرة مثل: كونز، وانت، ديوب، لي مان، ونستون وغيرها، لا يعرفون ماذا تعني، لكنها تعجبهم ويفضلونها على غيرها، ويدفعون لأجل الحصول عليها مالاً سخياً، يحيطون خصورهم بأحزمة الجلد الصناعي، فتبدو هيئاتهم كمخلوقات غريبة لا تنتمي للمكان، لكنها تقلد كل شئ فيه بالأخص كُلّيقَةْ السمسم المحزومة جيداً، أحذيتهم التي كانت جديدة، لامعة وأنيقة في أوآخر ديسمبر الماضي، الآن هي ذكرى تلك، مزق متسخة ذات أخرام وألوان يصعب تحديدها في الغالب، لا يهتم أحد بتهذيب شعر رأسه.." (الرواية، ص14) وعليه يقفز التسأل هنا كيف لتلك الصفات ان تتآلف مع المكان وتصبح جزء منه؟ بل كيف تشكل سنفونية من التناغم قل ان تتواجد في مكان ما واقيعاً او خيالياً؟.
ومن خلال بعض الاشارات تحاول الرواية -ولو بصورة تأويلية من قبل كاتب المقال- الاخبار عن اثر التغيرات المكانية في الحالة الانسانية لمجتمعات الجنقو- شخوصاً، احداثاً- وكيفية تعاملهم مع هذا الواقع الجديد في ظل ثابت المكان، ومتغير الاحداث.
فلابد من الاشارة الى ملمحين رئيسين اتسمت بهما الرواية فيما يتعلق بعنصر المكان كمكون رئيس في السرد، الاول، هو الجمع بين المكان الواقعي والمتخيل في صورة المكان وان كان هنالك خلاف حول الرؤية الناظرة للعمل الروائي من خلال الواقع او الخيال، وكما يقول ميشال بوتور انه لايمكن وجود واقعية حقيقية اذا لم نعتبر ان الخيال جزء من الواقع واننا نرى حيزاً كبيراً من الواقع خلاله، وهذا يجعل المكان في الرواية مماثلا في مظهره الخارجي للحقيقة, نابعاً من مرجعيته الواقعية، ويظهر ذلك في الرواية من خلال بعض المسميات الواقعية للامكنة مثل خشم القربة، القضارف، تسني، همدائييت، نهر ستيت...الخ، اما المكون الثاني هو استخدام لغة المكان لتفسير الكثير من الاحداث عن طريق الحوار، وهذا ماجاء به ميخائيل باختين بان هنالك فكراً روائياً لللغة يتمظهر في الحوارية والشكل الروائي، وبوعي الكاتب الذي يعرف تاريخ اللغة والمحتوى الذي يريد ان تحمله تلك اللغة، وبذلك كانت الرواية تمتلك مزيج من اللهجات الاجتماعية لمجموعات الجنقو. فالسجن له لغتة الخاصة، والمزارع لها لغتها، والانادي ايضاً لها مكونها اللغوي واللفظي، الجنقو لهم معجمهم، ولموظفين البنك معجمهم، لود امونة والعافية والأم وامونة مكونهم المطلحي والدلالي، للراوى وصديقة معاجمهم، التى طغي عليها عنصر المكان واصبحت باهتة ولا تظهر الا من حين لاخر. وجاء ذلك نتيجة لكسر عنصر المكان للكثير من الحواجز اللغوية وماصاحبها من كسر اطر فكرية اجتماعية، بل حتى دينية وتدينية ربما كانت لتكون مرفوضة-وان كانت تخيلية- في اماكن اخرى. وعن طريق اللغة يرسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكنا.
نجد ان رواية "الجنقو مسامير الارض" استخدمت مفهومي المكان والفضاء، فالاول من خلال المكان الطبوغرافي الذي سمي دلالياً مكان واقعياً- شرق السودان- او متخيلاً هو الريف عموماً والقرية خصوصاً وبصورة اخص "الحلة" كما جاء في الرواية، اما الفضاء فقد استخدم من خلال حركة الشخوص وسير الاحداث والصراع بين المكونات الثلاث( شخوص، احداث، مكان). كما ان هنالك استخدام لنوع المكان وتضاداته من خلال المكان المفتوح (الشرق، الريف، القرية، السوق، المزرعة...الخ) والمكان المقفول(السجن، بيت الام،القطية...الخ) وفضاءته المختلفة من خلال قلق الشخوص ومسارعتها او تباطاءها في خلق الاحداث، عن طريق دخول تلك الشخوص للامكنة او الخروج منها. وذلك من خلال استخدام هامش الهامش، فالريف هامش كبير والشرق مثلاً هامش اصغر والقرية "الحلة" هامش اصغر والبيت هامش "للحلة" والبيت هامش لبيت الأم مثلاً، والعمل على هيمنة مركزية المكان الاصغر على الاكبر، اي ان بداية الحدث تبدأ وتنتهي في حيز اصغر دائماً لكنها تلف وتذهب الى امكنة بعيدة جداً، لكن لم تمارس الرواية تلك المركزية على الشخوص، فلهم مطلق الحرية وكامل البطولة، فكل موجود بالمكان بطل، الضيف بطل وصاحب الدار بطل، الرجل بطل والانثي بطلة، الصغير بطل والكبير بطل، فالمكان يحتفل بالكل ولا يفرق بين اعمارهم، اسباب تواجدهم، اجناسهم وقبائلهم، اشكالهم والوانهم، بيئاتهم القادمين منها او وجهاتهم الذاهبين اليها، لان المكان وبطبيعتة تلك يعرف ان من يدخله لايخرج منه بسهولة. ويأتي تكوين الفضاء المكاني هنا عن طريق الوصف وكيفية رؤية العناصر اكثر وضوحاً للحواس المدركة مثل الاشكال الفيزيائية والصور الطبوغرافية، كالشمس، الليل، الشوارع، البيوت، السوق، السجن...الخ، كما يمكن استخدام المعايير الرياضية كقياس المسافات والاطوال والاحجام...الخ، او يكون ذلك عن طريق الصور الفنية والتى تتيح للخيال اعادة تشكيل المرأي. من هنا نحاول استنطاق جماليات المكان في "الجنقو مسامير الارض" من خلال ثنائية المكان المفتوح والمكان المغلق.
المكان المفتوح:
القرية"الحلة"
كان اهتمام فضاء الرواية بالمكان الهامش او القرية او"الحلة" كما موجود بالرواية هو نوع من الاختلاف والخروج عن المألوف المكاني، فقد كان الريف لا يعتبر منتج للرواية باعتبار ان المدن فقط لديها القدرة على هذا الفعل، وذلك وعلى حسب مفهوم بعض منظري الرواية ان الريف لاينتج الا فلكلوراً وذلك نسبة لبنيتة التراتبية التى لاتستطيع القفذ من والى، اي لاتمكن استخدام تقنيات الكتابة في نقل الحدث تسريعاً او تأخيراً.
في الرواية وتحديداً في وصف فضاء القرية استفاد الكاتب من فن السينما الذي يعتمد على الصورة بشكل اساسي من التوليف والقص واللصق، واستخدم في ذلك تقنيات استدعاء المكان المفقود انطلاقاً من المكان الراهن، كما جاء في وصف الحلة ".. ويقصد الحِلة، لم يكن بها في الماضي سوى المرافعين، الحَلُوٌفْ، أبوالقدح والقرود والثعالب، وفي كل مكان تلقى الجنون، في الكرب وطرف البحر وحتى في باطن الحِلة ساكنة مع الناس. الحِلة كانت عبارة عن بيت واحد كبير جداً مزروب بالشوك، بيت طوله حوالى ألف متر وعرضه أكثر من ذلك بكثير، ومحروس بالكلاب وهو بيت الصافية الحبوبة، في الداخل كان مقسم لبيوت كثيرة، كلها قطاطي من القش والقصب ورواكيب كبيرة من حطب الكتر والدهاسير، وفي المنتصف توجد مطامير الذرة والدخن وخمارات الكَوَلْ، كل الجُدد القادمين إلى الحِلة، يجدون لأنفسهم براحات يبنون فيها قطاطيهم داخل هذا الحوش الكبير، أما العابرون إلى جهات أثيوبيا وإريتريا، أو الصعيد، الذين أتى بهم الطريق، فإنهم يُستضَافون في ديوان الجَدة الصافية، حيث توجد زاوية الصلاة وسبيل للمياه والمستراح؛ وهو عبارة عن حفرة معروشة بالحطب القوي والقش تستخدم كمرحاض. وقد عبر بهذا الديوان حجاج جاءوا من تشاد، نيجيريا، النيجر والكميرون، وحتى مغاربة بيض الوجوه لهم ذقون ولحى طويلة شقراء، استراحوا هنا، وهم يمضون نحو باب المندب إلى اليمن ثم إلى مكة، كان بعضهم يقيم لأكثر من عام، فيتخذ لنفسه أرضاً، يقوم بفلاحتها وزرعها بالسمسم والدخن، وقد يتزوجون وينجبون الأطفال." (الرواية، ص66)
يرسم الراوي المسافة الداخلية لاحد المنازل وبعدها او قربها عن بعضها البعض ب".. المسافة ما بين بيت أدّي ومنزل مختار علي حيث أقيم وصاحبي، قريبة جداً وبعيدة جداً، يتوقف الأمر حسب العلاقات الاجتماعية مع الجيران و الوقت: ليلاً أم نهاراً، حيث يمكن استغلال ما يسمونه بباب الجيران لاختصار مسافة كيلومتر من الهرولة عبر الأزقة والطرق الجانبية، إلي ما لا يتعدى العشرين متراً.." (الرواية، ص78) هنا استخدم المكان للتعرف على العلاقات الانسانية التى تقصر المسافات، وهنا تمثلها الحلة فقط والا لماذا هذا الصراع على الارض والابواب المغلقة والاسوار العالية؟ ولربما هنا بكائية ودمعة سخينة و استدعاء لماض جميل هو ماضي الحيشان الكبيرة والنفاجات بين البيوت. كما استخدمت الرواية ايضاً مايسمى البعد الرياضي الذي يتمثل في قياس الابعاد المكانية محاولاً ضبط المسافات وتشكيلها الى اشكال هندسية يمكن التعامل معها وتخيلها لدى القاريء.
كما ان بنيان الحلة احتاج لتعرف على ساكني المكان، وكيفية الجمع بين كل اولئك وسحريتة في جمعهم الذي لم تستطع الامكنه الاخرى-تحديداً الواقعية منها- غير "الحلة" ان تجمعهم "وشرحت لي أن تسعة وتسعين في المائة من سُكان الحِلة ليست لهم أجناس. ليست لهم قبائل، كلهم مُولدين، أمهاتهم حبشيات بازاريات، بني عامر، حماسينيات، بلالاويات، أو أي جنس، وآباؤهم في الغالب إما غرابة: مساليت، بِلالة، زغاوة، فُور، فلاتة، تاما، أو حُمران وشكرية أو شلك ونوبة ونوير، وفي قِلة من الشَوايقة والجعليين، وكضاب الزول البقول عندو قبيلة هنا، ولا جنس ولا خشم بيت.." (الرواية، ص80) وبهذا المكان المفتوح استطاعت الرواية ان تخلق فضاءها المتسع الذي يجمع الكل وكأنها تقول الذي لم يستطع ان يحتضنة الواقع خلقة الخيال، والسودان الواسع الذي لم يستطع احتضان ابناءه استطاعت الحلة او رواية "الجنقو مسامير الارض ان تفعلة في فضاءها الخيالي ومن خلال سواد الحبر على الورق.
الشوارع:
استخدام المكان المفتوح لتوضيح الشوارع والطرق التى تؤدى الي الحلة او الى الخروج منها بعد الحرب او حتى ظهور الجنقو في بداية الموسم الزراعي او لتكون ثورة لهولاء الجنقو في فترات غضبهم. وهذا المقطع من الرواية يخبرنا وصفاً عن شكل الشوارع وعدم مقدرتة بالمشي فيها كما تفعل رفيقتة التى تعرف المكان جيداً ويقول الراوى عن الام "فهي إما تتحدث، أو تسحبني خلفها بسرعة رهيبة في الظلام، هي تحفظ تضاريس الطريق و شعاب المكان و أنا كالسكران لا استطيع أن أمشي غير متعثرٍ، وكدت أن أسقط عدة مرات. مشينا مسافة قدرتها بالميل، ربما عبرنا صفين آخرين من بيوت القصب و القش و القطاطي الكبيرة، تهيأ لي أننا كنا نسير في زاوية منفرجة، حينما بلغنا ما إعتقدتُ أنه زاوية المثلث، سمعت صوته..." (الرواية، ص)
وهنا ايضاً مشهد اخر من الشوارع" كانت الشوارع تضج بالمارة القادمين من القرى القريبة في طريقهم إلى سوق الجمعة، البربارات مشحونة بالسمسم، القرويون يقتسمون ظهرها الضيق، مرّ أمامي لوري، ثمّ كارو لماء الشرب..." (الرواية، ص55)
السوق:
السوق هو مكان مفتوح للكل له ان يعرض بضاعتة او ان يبتاع منه ما يشاء، ولكنه هو ايضاً مكان لكشف المثير لاسيما الشخوص كما حدث مع شخصية الصافية، فالسوق الذي يرتاده الجنقو هو ايضاً سوق هامش السوق بضاعتة هامش البضاعة " قابلناها في سوق القَنْذي، وهو سوق للملابس المستعملة الرخيصة، يُقَامُ على هامش السوق الكبير، قرب زريبة المواشي في مكان خجول منزوٍ حتى تُضمن خصوصية الرواد، البائع والبضاعة، يرتاده الجنقو بين حين وآخر، إما لبيع ملابسهم وأحذيتهم وما تبقى من زينتهم، استبدالها، أو شراء أخرى وذلك في شهور الفلس قبل موسم الحصاد أو عندما يقبضون على ما تحصلوا عليه من نقود نتيجة للعمل في الحصاد، ولا يمنع أن يمروا عليه كذلك للبحث عن ملبوسات خاصة قد لا تتوفر في مكان آخر غيره." (الرواية، ص38) . لربما تسألنا في حالة عدم معرفة المكان بماذا تفعل الصافية في مكان كهذا اذا لم تكن من المأثرين فيه والمتأثرين به؟ لذا على طول السوق وعرضة استطاع الراوي وصديقة التعرف عليها ببساطة لانها هي مسمار لمكان او لارض واحدة هم جزء منها-على جدتهم بالمكان- الا انهم يمثلون حضورهم.
"سوق العمال في كل سبت، عند الميدان الكبير الذي يقع جنب المركز الصحي الذي شيدته منظمة عابرة تسمى (كرستيان أوت ريتش Christian Outreach)، كمقر لرعاية الأمومة والطفولة، احتلته فيما بعد مؤسسة التأمين الصحي التجارية مشردة الأمهات والأطفال، فيعرف الآن بميدان التأمين الصحي، تحت شُجَيرات النيم الخمس، يقع سُوق (على الله) يؤمه العتالة، الجنقو، البناءون، النجارون والسماسرة، كانت لاندروفرات، باربارات، بكاسي ولواري الجلابة تصطف عند الجانب الجنوبي من السُوق، قُرب موقف الشُواك، حيث سُوق الميكانيكية والحدادين، الزيوت والإسبيرات. التجار الجلابة في جلاليبهم الكبيرة، أوجههم المنعمة، يتوسطون حلقات العمال يساومون، يفاصلون، يخادعون، يحاورون، يجادلون، يتاجرون ويسترضون.." (الرواية، ص59) هاهي الشخوص التى اراد الكاتب الكتابة عنها كالتزام تجاه هذه الفئات وغيرها من الفئات التى دهستها الحياة واصبحت هنالك على هامش اللاشيء تحاول التششبث بالحياة، فالسوق هنا على انفتاحة الواسع لم يستطع المؤلف الا تدوير كاميراتة الوصفية ناحية هولاء ومنهم بالتأكيد الجنقو.
المكان المغلق:
يعتبر المكان المغلق محور تغير الاحداث في الرواية، فالكثير من الاحداث يرجع تكوينها الاول اليه كمكان مغلق –ربما هنا السجن او القطية او البيت..الخ بمعناها الدلالي او مدلولاتها- لا تتوقف تلك الاحداث حتى بعد مغادرتة، بل تظل الرابط الاساسي لها.
السجن كمكان مغلق:
ويشكل السجن من عالم الحرية الخارجي الى عالم الاقامة الاجبارية، يتميز بالاتغلاق في كل شيء لاسيما فيما يخص نزلائه.
قال عنه الراوي في اخر الرواية بانه" كان لي بمثابة العظم الذي بين حوله اللحم" (الرواية، ص213) ، وحاول الراوي ان يضعنا داخله بوصفه "عندما ينتصف نهار السجن، تسمع طقطقة الزنك كأنها فرقعة عبوات رصاص صغيرة تقدح جماح العرق النسواني التعب المتبل بفطر إبطهن وعاناتهن، رائحة البلاط وزنخ شعر الرأس المُلبّكْ بالأسطبة والجورسي القديم، وطنين الزُبابات مختلطاً بقهقهة السجانين، نداء الجاويش المسموع من حين لآخر موية يا بنات" (الرواية ص19)
هذا المكان بهذا الوصف الدقيق الذي يحمل الحواس الخمس، يجعلنا نسمع فرقعة الزنك، وشم رائحة العرق، وسماع صوت طنين الزباب وصوت الجاويش، وتذوق طعم ملوحة العرق ، ولمس شعر الرأس المجعد المتيبس المتسخ. وبذلك الوصف رسم المؤلف الصورة النفسية للشخوص التى ستتعامل مع هذا الوضع داخل السجن والذي بلاشك سيفضي الى مؤثرات لاحقة على سير الحدث، كما رسم صورة ذهنية للقاريء عن فخوى المكان وبذلك يكون كل من الشخوص والقراء تهيئوا لفحوى الاحداث القادمة داخل هذا المكان. وهنا ايضاً الحديث عن حركة احد شخوص الرواية داخل السجن"عندما نامت أمه، أخذ ما تبقى من الكيس ومضى نحو الزنزانة، كان الظلام قد بدأ يهبط ولكن الإضاءة الضعيفة عبر الممر دائماً ما تمكنه من التجول بسهولة في أنحاء السجن، كما أن الحرس قد اعتادوا عليه ولا يعترضون تجواله بل يرحبون به ويداعبونه ويرسلونه" (الرواية، ص34). والسجن كمكان مغلق في الرواية اتسم بثلاثية (الامبالاة، ظلمة المكان وعفونته وظلمة المستقبل، الوعد والوعيد) وظهر ذلك بقدرة السجن كمكان على وضع بصمته كاستمرار الكثير من اعمال السجن خلال حركة الرواية لربما لو وجد كثير من النزلاء حريتهم لما فعلوا احسن من ذلك، فود امونة لم يعمل غير ذات عمله الذي امتهنه في السجن، والسجان لايستطيع ان يكون سجاناً " وكعادة السجانين أنهم يتبعون أقصر الطرق للحصول على الحقيقة وهي الضرب المبرح والقرص بالزردية، لذا لم يستغرق الأمر طويلاً، جاء جاويش يُسمى غلبة إلي عنبر النساء، أمسك بيد عازة، أوقِفَتْ، ثم صُفِعَتْ في وجهها بكف كبير قبل أن يقول لها غلبةُ:
-أرح وراي" (الرواية، ص22)
والحلة باكملها لم تكن سوى سجن جميل مقبول من كل الاطراف، فكثير من الشخوص حارجة من السجن كود امونة الذي كان مرافقاً لوالدتة وارتبط به ارتباط وثيق بعلاقاتة بالعازة، اما الم قشي هي الاخرى ارتبطت بالسجن بصورة او اخرى، خنى الرراوي ارتبط بالسجن بحكم انه ابن سجان، وكذلك الهاربين من السجن ووجدوا في الحلة سجنهم الاختياري، الا ان حتى هذا السجن لم يدع لاولئك الجنقو للاستمتاع به والعمل بطريقتهم عليه عندما جاءتهم الحرب.
البيت:
البيت كوننا الاول وهو مكان الدفء والراحة والانس، يعتبر باشلار ان البيت رسم بياني سايكولوجي يقود الكتاب في تحليلهم للألفة، فهل كان بيت الام(بيت ادي، استافنيس) يقود كل شخوصة الى الألفة التى صاحبها باشلار للكاتب او المؤلف وليس احد شخوصه؟
تعرفنا على وصف بيت الام في الرواية بوصف ياخذنا الى العوالم التى ترتاده والاجسام التى تشكله من الداخل " سحبنا من بين قطاطي ورواكيب القش في أزقة طويلة لا تنتهي تتلوى كالثعابين، صاعدة هابطة على أرض وعرة عليها أخاديد صنعتها الوابورات واللواري وعربات الترحيل الخفيفة مثل اللاندروفرات والبربارات، تعم المكان رائحة البخور مختلطة بعبق المريسة، وبعض الخمور البلدية، على خلفية من ريح فاترة تهب جنوباً، دافئة وطيبة. دون أن نطرق باباً من الزنك على سور من القش والحطب، دخلنا بيت الأم أو كما يطلقون عليه بالتجرنة: قَذَاَ أَدَّيْ " (الرواية، ص15)
يعتبر هذا البيت محور حركة الشخوص ومركزيتها ليس فقط بتواجد الرواي وتعلقه به، اذ كما ذكرنا سابقاً لابطولة مطلقة لشخصية واحدة في الرواية، ولا بسبب كثرة الاحداث فيه، وانما يعتبر المكان اذي يبدأ فيه كل حدث وينتهي على عتباته، مثلاً لاجديد من حضور شخصين جديدين في المكان دون ذهابهما لبيت الام، وزواج الراوي من الم قشي كان ببيت الام، والاجتماعات المهمة، وتربية ودامونة...الخ كل ذلك واكثر لابد ان يكون بيت الام محوره ومشاركاً باي حدث، والام هنا صيغة دالة على الانتماء او البداية، لذا الكل يبدأ عندها، كما جاء في الحوار بين الراوي وصديقة والشاب العشريني الذي اكتشفاه لاحقاً بان اسمه كمال الدين لكن مشهور بود امونة".
. إنتوا ما مشيتوا بيت الأم، معقول؟! لازم تمشوا بيت الأم -
قلتُ. أم منو؟ - بيت الأم؟
قال :
- أم الناس كلهم . نعم، بيت الأم.
سأله صديقي:
- بيت الأم؟
قال:
- أيوه، بيت الأم.
ثم أضاف باللغة التجرنة، وكأنما نحن نعرف كل لغات الدنيا : قَذاَ أَدَّيْ" ( الرواية ص14)
كما يصف لنا الراوي الجزئية المكانية التى تخصهم-هو والم قشي- داخل بيت الام، والذي كان هدية منها بعد زواجهما " الجناح الذي خصتنا به الأم من بيتها الكبير المتسع، يقع في آخر صف من القطاطي الملحقة برواكيب صغيرة ممتدة في شريط قد يصل طوله إلى مائتي متر، وهو موقع شبه مهجور، وربما خاص..." (الرواية، ص51). وفي موقع اخر يصف الراوي كيفية تركيبة بيت الام دون ذكر كبر الحجم مباشرة اذ ترك الوصف هو الذي يتولى المشهد "مضى أمامي ومشيت خلفه، كنا نهرول هرولة، دخلنا زقاقاً ضيقاً، أفضى بنا إلى زقاق ضيق، عبر صف من الرواكيب والقطاطي، عبرنا شجرتي نيم خلف زريبة، تبيناها من رائحة روث البهائم، تفوح منها رائحة (المُشٌك) ثم يتلوى بنا زقاق آخر، ليلفظنا خارج بيت الأم" (الرواية، ص52)
القطية:
هي المكان الخاص الذي يعتبره مول ماهو عندي، اي المكان الذي يمزج بين الانا والحرية الفردية، ومن هنا جاء احتفاظها باسرارها، فمن خلال الوصف نسمع ونشتم بداخل الغرفة " عِطْرُ البَخُورِ الحَبشي يملأ القُطِيةَ، تأتي أصوات المكان مخترقة القش والأقصاب عَبْر الظُلمة للداخل" (الرواية، ص44) كما يمكن وصف ما بداخلها استعداداً لحدث قادم كما حدث في قطية الم قشي وذلك استعداداً من قبل الراوي للدخول في عالم النساء " بالغرفة سرير واحد ولكنه ضخم، يساوي سريرين كبيرين، مصنوع من السنط، له قوائم ضخمة ثقيلة، عليه مُلاءة بيضاء مطرزة بالكروشيه في شكل طاووسين كبيرين متقابلين بالفم، ويبدو النهج الحبشي واضحاً في فن الحياكة والتطريز، من حيث استخدام اللون الأصفر و الأحمر و الأخضر" (الرواية، ص45). كما ان القطية كمكان تحتفظ باسرارها تحدثت عنها الرواية في علاقة صديق الراوي بالصافية في قطيتها "استيقَظَ على إثر نداء الصافيةِ له، كان قد نام على الكُرسي الذي تركتُه عليه، دخل القُطية الكبيرة، كانت شبه خالية من الأثاث، عدا سريرين من خشب السُنط مفروشين بلحافين لم يتبين تفاصيلهما، الإضاءة، لحد ما جيدة، طلبتَ منه أن يجلس في السرير الآخر، جلسَ.." (الرواية، ص74).
استخدم الراوئي الغرائبية في وصف ما دار بين صديقة والصافية في قطيتها، الاحداث التى يعرفها الكل بان الصافية تحولت الى مرفعين ولا احد باستطاعتة ان ينفي او يؤكد ذلك، حتى صاحب الحدث نفسه لم يستطع سوى الهرب".. حدث كل ذلك في ثوانٍ معدودات. لا أدري كيف تمكنتُ من الهرب، عبر الباب المغلق، أم عبر الشُبّاكْ الصغير، أو أنني قد اخترقت السياج اختراقاً، لا أدري ولكنني وجدت نفسي خارج القُطِيّةَ، خارج بيت أدّي، خارج الحِلة كلها، حدث ذلك في لمح البصر." (الرواية، ص76). الامر هنا ان الغرائبية ارتبطت بالسرية بدرجة كبيرة حتى ان الراوي نفسه قد غابت عنه حقيقة الحدث، لاسيما لاعتبارات المكان المغلق، حيث استطاع المؤلف هنا من خلال استخدام خصوصية المكان المغلق من اخفاء حقيقة الحدث.
اذاً فالبيت لم يكن فقط من قش وطين او مجموعة من القطاطي، بل كان يمثل المكان والزمان في ان واحد فهو المكان الذي يتعرف عن طريقه على المواسم والمناخات على التاريخ والجغرافيا على الحدود ومشكلات دول الجوار، عن القضايا السياسية، يتعرف الناس فيه على ماهية الحياة "عَلَّمَنَا هذا المكان قيمة العمل" (الرواية، ص30) كما قالت الم قشي احد شخوص الرواية.
الشخوص والمكان:
جاء في الرواية ان "الجنقو يعرفون المكان كجوع بطونهم.." (الرواية، ص169) وبذلك تأكد الرواية العلاقة الاذلية التى خلقها المكان بشخوصه، اذا ان خنالك من يرى بضرورة مطابقة المكان للشخصية، واطراف اخرى تعتمد الوصف فقط للشخوص دون مطابقتها للمكان وذاك ماجاء به شارل كريفل، فى هذه الحالة يظهر المكان الحالة النفسية، والشعورية، ويسهم في الكشف عن الانفعالات والتأثير والتأثر الذي يطرأ على الشخوص، ويمكن للمكان ان يقوم بدور العاكس للشخصية او ان يقوم بدور الشخصية ايضاً كما يرى يوري لوتمان وذلك باعتباره تصوير لغوي يشكل معادل حسياً ومعنوياً للمجال الشعوري والذهني للشخصية (يوري لوتمان، مشكلة المكان الفني). ويظهر المكان هنا عبارة عن جذور من المغنطيس دائماً ما تجذب الشخص الى اسفل الى الارتباط بها- علاقة المسامير بالمغنطيس، في العنوان، او الزراعة بالارض في حالة متن النص- والتمسك بها، حيث يتضح مفهوم العلاقة التبادلية بين الانسان والمكان، او بين الشخوص والمكان.
قال صديق الراوي" المخلوقات البسيطة الصغيرة المهملة المرمية على هامش المجتمع والمكان، تجد فيها أسراراً لا حد لها، أن الله دائماً ما يستودع حكمته في نوع زي ديل" (الرواية، ص38).
فعلاقة الشخوص بالمكان تمثلت في اكثر من مكان في الراوية، لكن جانبها الاكثر حضوراً كان بعد فتح البنك والتغيرات التى تلت ذلك وتسلسل الاحداث ومانتج عنها من ثورة سميت لاحقاً بثورة الخراء، فكانت الشخوص تتحرك من احساس قوي بالمكان باحقيتهم فيه مع عدم نكرام الاخر كما فعل البنك، البنك الذي غير الكثير من اساسيات الحياة والذي كان البداية الاولى لتخلخل مسامير المكان، وتواصل ذلك الوضع حتى قيام الحرب التى طردتهم من المكان فرادى وجماعات.
النهاية والمكان: شجرة الموت، المنفى والرحيل:
ككل مكان طبيعي لم تنس الرواية ان تخلق مكان المآل او النهاية، فاذا استطاعت الشخوص العيش في ذلك المكان"الحلة"، اذاً يمكن لها ايضاً الموت فيه، ولكن اين؟ شجرة الموت!؟ وماهي؟
" دي شجرة الموت دي شجرة كبيرة في الحُمرة في فريق قرش، لمّان يكبر الجنقوجوراي خلاص ويقرّب من الموت أو يمرض مرض تاني مافي عافية بعده، يمشي وحده أو ترميه الحَبَشية صاحبة البيت في الشجرة دي حتى يموت، الأخوان ما بيقصروا منه يدوهُ الفيها النصيب كان طعام، كان قُرُوش، كان هُدُوم، كان شراب،كان تُمباك." (الرواية، ص54). شجرة الموت المكان الذي ينتهي عنده المكان، فقد ذهب مختار علي طائعاً مختاراً بعد فعلت الدنيا به الافاعيل، الي اين كان سيذهب؟ الشجرة التى يسعى اليها صديق الرواي من خلال كل مغامراتة الغريبة والتى وحسب اعتقاده لاتؤدي الى الموت، الشجرة التى ذهب اليها الجنقو عندما حملوا اسلحتهم وبدأوا بالقتال، الشجرة التى افرغت فيها الرواية كل شخوصها وان لم يظهر ذلك، فالرواية لاتترك شخوصها دون ان تهيئ لهم مقبرتهم وقبورهم.
الخلاصة:
من الملاحظ ان المكان لعب الدور الاكبر في خلق الرواية، من شخوص واحداث وتغيرات وصراعات، وسردية وحوارية ولغة، اذ ان المؤلف استفاد من العلاقة المتينة التى تجمعه بالمكان الواقعي لخلق قصتة الخيالية -ولربما كانت اكثر واقعية- فكان المكان الواقعي قد امده بكل حواجاته السردية، فجاءتة الشخوص طائعة مختارة تجد نفسها بالحكي دون تكلف ودون زحزحة شخصية لتحل محلها اخرى، فكانت الشخوص والاحداث، بل الرواية باكملها مكانية خالصة.
-وظفت الرواية المكان -كحيز جغرافي- في خلق قارئ يربط مابين الخيال والواقع بصورة محكمة، كما وظفت الفضاء- كحيز روائي- تتحرك فيه الشخوص باريحية ودون تقييد.
-عنصر المكان بشكلية المكاني والفضائي دعم سير الاحداث بسلاسة، وذلك لمقدرة المؤلف في استخدام اللغة المناسبة للمكان وعملية الوصف الدال والشارح.
-كان استخدام الرواية لنوعي المكان المفتوح والمقفو لتصل فكرة السردية متكاملة كما خطط لها، لاسيما والعمل على ربط تضاد المكانين كما حدث في السجن والمزرعة، الريف والمدينة ، او التقابل كحالة السجن والمعسكر او السجن.
-اكد عنصر المكان سطوتة من خلال احداث مهمة في الرواية، كعلاقة السجن بالقرية من خلال شخوص متعددة هربت من سجون مغلقة او سجون مفتوحة. او من خلال الاحتفاظ باسراره التى نجحت في توظيف الغرائيبية للتماهي مع تلك السطوة المكانية.
-استطاعت الرواية مستخدمة عنصر المكان من العمل على الشكل الافقي للاحداث والشخوص وعلاقاتها، فكل من بالرواية ابطال، حرفهم لاتختلف كثيراً عن بعضها هي في الغالب مسمار يرتبط ارتباط وثيقاً بالارض، كما لاتوجد علاقات فوقية مباشرة، فأول ثورة قامت ضد البنك الذي يعتبر فوقياً شكلاً ومضموناً، حتى العلاقات الدينية والتدنية، باعتبارها علاقات فوقية لم تكن ذات وجود يذكر بالرواية نسبة لاختلاف المكان والذي اثر بصورة مباشرة في العلاقات الاجتماعية الفوقية التى لم تكن ذات جدوى من حضورها في حضرة الجنقو ومساراتهم.
-كسرت الرواية مفهوم التراث الاخلاقي والرابط الاجتماعي للريف، اذ اكدت ان ثمة اختلاف من ريف الى اخر، وان عبارة التعميم هنا لافائدة منها.
- عملت الرواية من خلال المكان تخطي حاجز المكان المرسوم بالخرط او السياسة، وعملت على ازابة حاجز النوع والجنس والقبلية، فالمرأة والرجل حضور على السوا، واللغة لم تكن حاجز ابداً في التواصل داخل الرواية فقد خلق المكان لغتة التى لاتحتاج الى قواميس وقواعد ولامدرسين ومصححين.
-عملت الرواية الى اعادة النظر في الريف او القرية في العمل الروائي، فالقرية ليس التى تتكون من عنصر عرقي واحد او من اصل قبلي متقارب، بل وليس من معتقدي ديانة واحدة، فالقرية يمكن ان تتكون بالرغبة او المصلحة بالاهواء او باللامكان اخر غيرها، كلها تعتبر محفذات لتشكيل القرية كفضاء مكاني في الواقع وفضاء روائي في الخيال والسرد.
ودمتم...
Comments
Post a Comment