" تسهي " ذات الدماء الزرقاء ..
أوشواء على أنغام " كونشيرتو" الكوخ الفرنسي ..
“ ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى.
فرجينيا وولف
أوشواء على أنغام " كونشيرتو" الكوخ الفرنسي ..
“ ما دام يوجد خطأ فلا بد أن يوجد صواب. وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى.
فرجينيا وولف
-1-
الفتاة الحوراء ذات العشرين ربيعاً ، الممشوقة القد والقوام ، تسكن وسط "أديس اببا " , وفى وأحدة من تلك القصور والفلل العريقة الفخيمة والمطلة على المدينة من هضاب وأودية جبال "أنتوتو " الساحرة الخلابة الجميلة .. , بلا تحفظ أجزم لكم صادقا بأن هذة الفتاة بالذات ومن دون كل جميلات أحياء بياسا ومركاتو ومكسيكو .. , هى وحدها التى كان يعنيها تماما فنان أثيوبيا الكبير والأول "المايو أجيتي ", وفى أغنيتة الشهيرة والخالدة " أديس أببا.. بيتي " , والتى تشنف الان بجنون أسماع كل "الرستا " فى " جمايكا " وأوروبا والأمريكيتين وحول العالم .
هذة الفتاة ذات العشرين ربيعا , تتصل بنسب أمهرى رفيع تدعية دائما يربطها مباشرة بسبط "أسد يهوذا " ملك ملوك " شوا " العظام , وبجمال ساحر أخاذ أذهب بعقول الكثيرين ، فمثلا العمة " منن " أو " أم بزونيش " تفاخر دائما ببنت أخيها الوحيد " منقستو غمجوا ", وتمجدها وتدللها وفى كل مناسبة وأخرى , وتقول دائما وبأعلى صوتها :
ـ " دى يا ناس البنت الجمالها .. ماقشروبة دا وأرثاة يا ناس .. من حبوبة لحبوبة .. اا" , بل تجزم وتفاخر على رؤوس الاشهاد بأن أحدى أولئك الحبوبات الجميلات , تسببت فى ذاك الزمان الغابر من تاريخ أثيوبيا البعيد , فى أشعال فتن وحروب مروعة عديدة لا تزر ولا تبقى بين , " الراس منقشا " حاكم الامهرا " والراس " كاسا " حاكم تقراي ، ولأنها تنتسب مباشرة لارومة بنات أثيوبيا الماجدات ، فقد أحببتها وتشبثت بها من أول نظرة وهى لا تدرى .. , كان من الصعب عليك أذا عرفتها أن تتخطاها بسهولة , لأسباب عديدة لأحصر لها مرئية وأخرى وكما يقولون غير مرئية على ألاطلاق , أما هى فقد كانت مهيأة وبتركيبتها الحركية الحربائية , ذاك الوقت بالذات أن تجعل من الالتقاء بك , ثم فراقك مرتاحة البال والى غير رجعة أمرا سهلا وميسورا .. وممكنا .
هذة الفتاة الحوراء الممشوقة القوام , كانت ومع كل ذلك رقما صعبا عند أبناء جلدتها ، تعرفت عليها فى موطنها الاصلى , وأنا مكلف من الرئاسة للعمل كخبير أمن ذاتي وتكتيك مضاد دائم بجبهة " تقراي " , للحماية وتقديم النصح والمشورة للقادة الميدانين الكبار المستهدفين , للافلات من القتل والتصفيات الغامضة أنئذاك ، فكان عملنا المشترك يمتد سويا ولساعات طوال نهاراً أو ليلاً , ولانفترق الا نادرا وأذا حدث ولو لسويعات معدودة .. , تقع الكوارث الوخيمة وبهذا الوضع أو الواقع الماثل كانت هى تكملني وأنا أكملها وفى كل شيء تقريبا ..
أذا ما أصبنا كتبت لنا الحياة وإذ أخطانا كتب علينا الموت , وكما هو واضح أصبح قدرنا وحتى مصيرنا وأحد .. , ولان أيامنا معدودة وأفق القادة الصغار على زواجنا , وكشيء طبيعي فنحن نسكن الأهوال والاحراش والغابات , وحتى فى عداد المفقودين ولن نكلفهم الشىء الكثير فى ذلك , ولن يضار حتى مناخ العالم بتاتا من أرتباطنا ببعض ، مع كامل الضمانات بالطبع الكافية والتأكيدات دوماً وعلى حفظ الرتب والمقامات ..
وهذا ليس بجديد يا صحبي ويحدث دائماً وفى أرق غابات وأحراش العالم المتمدين , هكذا كنا نظن أنا وهى .. , ولا ندرى بأن الايام والأحداث حباله دائما بالمزيد والموجع لنا حقا.. .
-2-
كانت هى بالطبع المفوضة والرتبة الأعلي , ولم يكن لمثلى وفى مثل تلك الظروف والأيام أو أى أحد كان , أن يجرؤ أو يفكر على تجاوزها أو تخطيها , ألا أنا فبطبعي المشاكس كنت كثيراً ما أشذ بتجاوزها ومعاندتها , رغم أنها كانت صندوق أسود للاسرارنا جميعا , فقد كانت بحق متنفذة وسلطاتها مطلقة , تحكم حتى بالاعدام ولم تستخدمه فى الواقع , الا ضدي أنا وحدي زوجها فيما بعد .. , كانت بارة بوطنها أولا ودائما , وفى أحلك الظروف وما أستطاعت لذلك سبيلا , ثم منحازة بكلياتها لبيتها كزوجة لايشق لها غبار أبدا , ولاننى تنازلت عن رغبتها طوعاً ً بعدم الانجاب , وملكتها عصمتها بيدها وأنا مكرة ومجبر , وأمام جبروت جمالها الطاغى وسطوتها ، لكل ذلك أجد نفسى وهى حلالي وفى آحايين كثيرة , أتسولها الانجاب مجبر وعاطفة الأبوة الجياشة تغالبنى وفى عقر دارى, لتثور ثأئرتها فى وجهي ذات يوم وتصدني بعنف , ولتختار بعدها وأنا غير مصدق الفراق بعيداً عنى , وفى صمت محير وهدوء عجيبيين وبدون وداع ..
لأنها وبصراحة كانت تفلسف الامور ببساطة شديدة وتقول بأنها , لا تحب فى مثل هذة الظروف والمواقف بالذات وداع من تعزهم , وأنا فى غربة سنين بعيدا عن بلادي وأهلى .. , وفى مسيس الحاجة اليها بالطبع وفى كل شىء تقريبا .
أذكر كل ذلك كان ببساطة ذات مساء يوم مشمس , غير عادى جئت مرهقا ومشيا على الاقدام ألاف الأميال من غرب " قجام " , بعد أيام وليالى طويلة ماطرة , والانتهاء للتو من مشروع تدريبي خلوي قاسي , ومناورات وأسعة بالذخيرة الحية لتفاجئنى على حين غرة المرأة العجوز صاحبة المنزل الذى نستاجرة , الجدة " اللميتوا " قائلة فى تحسر وبامتعاض :
ـ أخذت يا أبنى .. حاجياتها ورحلت باكراً الى مكان ما فى الجبهة ... لم أعد أذكرة الان بالضبط هل هو فى " أقلاقوزاى " أو" دك أمحرى " , لتواصل حديثها وهى تصف لى ربما مؤاسية , وبحزن دراما مغادرتها الموجعة لى شخصياً .. , وللحقيقة ومنذ سكنى هنا وهذة العجوز الشمطاء , لا تكف أبدا من أن تلهبنى دائما بسياط لغوها وثرثرتها ولدرجة لاتحتمل , كما أنها لا تبشر عادة بأخبار سارة الا نادراً جدا ، أخبارها كلها مفجعة وسليطة لسان والكل يتجنبها الا أنا .. , كانت تعجبنى دائما بثرثرتها البانورامية للأحداث, وتعليقاتها اللاذعة والموغلة فى الغرائبية واللامعقول, وطريقة وصفها للأشياء المستحيلة التصديق , بتهكم متصنع قالت لى :
ـ كانت فى عجلة من أمرها والعربة تنتظرها .. لم تترك ياكافى المحن أى رسالة أو شىء من هذا القبيل .. ولكن وأحقاقا للحق كانت بنت بلد أصيلة .. لم تأخذ أى شىء معها ... " , كنت لحظتها أتندر داخلي وبغبن وأقول :
ـ " يكفى أنها أخذت يا " خالة " معها .. قلبي وعقلي .. وحتى عمري .. اا" , بل الذى يبدو لى الان تماما بأن هذة العجوز قد وجدت ضالتها , لتنفس هى الاخرى عن كوامنها بطريقة أو ما , لهذا لم تتركني لشأني غير أن تؤاسينى وربما بطيبتها وأنا لا أدرى , ولتقول لى بعدها مستبشرة :
ـ ذهبت على ما يبدوا .. وتركت لك يا أبنى...الجمل بما حمل .., فأنت فى هذة الحالة بالذات المنتصر عليها .. " , هكذا يفكر أمهرة الشمال دائما ...
ولكننى قلت داخلي بتوجد وحسرة :
ـ ".. انتصاري عليك يا " تسهي " .. وبكل المقاييس هزيمة .. بل هزيمة وكما يقولون فادحة ومره كالعلقم ..اا " , وبدوري شرعت بعدها فى فك أرتباطي بأثيوبيا كلها وطلبت النقل فورا لجهات معسكر " أتيانق "أو" البيبور" , لاستشف بعيدا عن كل هذة البلاد المسحورة بحق وحقيقة .
لم أنتظر بالطبع أجابة من أحد كان كما أننى لم أتحمس لفكرة البحث الجاد عنها لارجاعها , لاننى أعرف بأنها ستتخفى عنى بعيداً فى يوما ما قريب لأنها مسيرة , ولم تختار لى شخصيا مثل هذا الفراق الهادئ والداؤى والمحزن حقيقة , ولكن هناك أناس بعينهم من المستحيل تسميتهم الان .. , وأخلصت فى ودهم وخدمتهم والتضحية بالدم والروح من أجلهم ، لم ولن يتركوني وشاني هكذا لأعيش هنياً وأسعد معها هى بالذات , ولكنهم خفيه وبعيدا عنى عقدو العزم أن يجازوني ذات يوم وبحجم جزاء سينمار وأكثر , ولكن متى وأين .. وكيف ؟؟ فهذا ما لم أستطع أنا نفسى , خبير التكتيك الملهم حتى معرفتة , ولان قلب المؤمن دائماً دليلة كما يقول المثل ، فقد أستشفيت بعض من مبررات هجرها الغير مستساغة بالنسبة لى أبدا , والتى تمت على نار هادئية كما يبدوا وباكثر مما أتصور , فقلت داخلي بحرقة :
ـ " على أى حال .. لا عزاء دائما للغرباء ... وبالطبع من خرج من دارة صحيح . قل مقدارة ومهما كان ... , ثم وهكذا الدهر يا سعد .. " والكثير .. الكثير والموجع , كما أحلف على ثقة وصادقا وحتى الان بأنها لم تختار وعلى المستوي الشخصي البحت كل هذا البعاد والفرقة , ولكن هناك ثمة من يغير على مجرد حبي وارتباطي بها بشىء من الريبة والتوجس, ثم كيف حتى يسمح مثل هذا التعيس لنفسة كائن من كان , وهى زوجتي مجرد الغيرة والغبن ..
المستتر وفى ذلك كلة , وعدم رضائهم لمثل هذة الزيجة الغير متكافئة فى نظرهم هم وحدهم على الاقل, وشططهم لرفيق كفاح طويل ومرير , أنة بالتأكيد شعورغير سوى بتضخم الأنا , وغير مقبول ووحشي وحاجز نفسى عالي بالغبن للآخر ، فرغم أخلاصي وتضحياتي الجسام بالدم والروح من أجلهم ومن أجل قضيتهم , الا أنة غير مقبول أطلاقا ومهما كنت وأنا الغريب , وهى سليلة الدماء الزرقاء فى أعرافهم وأساطيرهم الشعبية القديمة , وهذا فى حد ذاتة خط أحمر عندهم , فشتأن حتى ولو أن تذهب الى قبرها ودوني , وأن أمسس .. وأنا حتى زوجها شعرة من رأسها , هذة هى دوما الكبرياء والشوفينية الانسانية الممقوتة , والضحلة التفكير والى يوم ولحظة , النفخ فى الصور والإعلان الداؤوى والأكبر ,.." اليوم لا أنساب بينكم ".
-4-
كانت بالطبع قد أختارت بطريقة أو ما , أن تمارس مجبرة مع سبق الاصرار رحلة النزوح والانزواء بعيدًا , وفى دور آخر مختلف ومرحلة أن تهرب وتعيش منطوية أو لاجئة بلا هوية تماما , ولأقول لنفس تب لك أيتها التضحيات .. والمجاهدات ..., ثم أستصرخ وأكرر وأقول بعناد لهيئة القيادة المصغرة فى " جوبا " و" فشلا " :
ـ أرجوكم أخرجوني من هذة الأحراش الظالم أهلها .. " , فاستجابوا لنقلى أخيراً جدًا وبعيداً منفياً أو مغضوب على , ولطيبة الذكر " الخرطوم " عموم نفسها , وأنا لا أعلم ولسخريات القدر بأنها هى وبشخصها الأثر , وبكامل حضورها والقها الجميل والملفت للأنظار , تقاسمني العيش فى الخرطوم نفسها بلدي ومسقط رأسي , ولايفصلنا بالكاد غير شارع أفريقيا , وهى تعلم كل ذلك وأنا يومها مدير شعبة عمليات أمن الظل فى الخرطوم الكبرى نفسها , ووريث أصيل لمكوين باشا واللواء ضيف اللة وفى ضبط وربط ومهنية اللواء المعروف رصاص , .. ومع كل ذلك آخر من يعلم, ولكننى تفهمت بعد ذلك حيثيات عيشها متخفية بالخرطوم , وعملها الجديد كنادلة وهى تنسي نفسها بأنها فى الأساس طالبة جامعية ونهائي هندسة معمارية , وبإحدى منتدياتها الحديثة الراقية , تحزق ببرمكية تحسد عليها فنون القهوة الاثيوبية وطقوسها الموغلة , فى الأصالة والتراث العريض .. ، كانت مختلفة ومدهشة وفى كل شىء وتسحر أنظار الرواد , من الهائمين حولها حدثني ذات يوما عنها أحد شباب شارع كترينا والخور, وباستعجاب يحسد علية وقال لى مبهوت :
ـ " أمسك الخشب يا صحبي انها " آنا ريكو " الاخرى ، بل وما كنت أعرفة عنة هو بالذات بأنة كان متزن كليا وزاهد وملتزم , وقلبة معروف بعصية ولكن عندما حدثني عنها بشقف ولهفة , وأعترف لى بكامل حضورة بأعجابة المزهل بها ومن اللحظة الاولى , قلت لة :
ـ " أكيد أنها وربما تكون يا صحبي " تسهيئ " تلك التى أبحث عنها .. وقالوا لى كلهم مرجحين رائي بأنها ربما تكون بالخرطوم عموم نفسها وانت لا تدرى ؟اا " ، بالطبع أندهشت يومها ووقفت مبهوتاً ومشدوها عندما وأجهتها وجها لوجه , وهى تنكرني ومن حولي فى حيرة وحرج شديدين , وأنا السهل الممتنع أعزرها وعندما أتنازل واقول لها داخلي :
ـ " أخيراً مرحباً بك فى بلدك الثانى السودان .. ورغم أنكارك لى أين ستهربين منى بعد اليوم ؟" , لاوأصل القول وهى مستعجبة وتكاد تسمعني :
ـ " كما أننى بطريقة أو أخرى ومنذ اليوم .. لن أفرط فيك مرة أخرى أبداً.. أبدا .." , أنتبهت لنفسي وهى ما زالت مشدوهة لبرهة زمن , ولتستعيد فى ثواني ثباتها , وهى الحديدية الأصل والثبات وسيف لحاظها معروف ومجرب , ولتعيدني وأنا الملتبس على مضض لتودعني فقط أمانيها العذبة الان للهجرة والمغادرة بعيدا والى عوالم أفضل ًوأرحب وكما تزعم , تنتظر كالكثيرين كرت زيارة لملاذ أوربي أمن , كما أشاعت بذلك مرارا ولم أصدقها .. ، كنت فى الحدود مسؤول الارتباط الاول وألان معروف بينهم جميعا بالمهنية والانسانية .. والتجرد والنزاهة .
-5-
تجمعنا الان أمسية شاتئة حالمة عبقة , على أنغام الة " الماسنغوا " ورقص الاسكستا " الشعبى البديع الرائع , وفى مقهى "درق بنا بيت " المعروف والشهير للجالية بنمرة ثلاثة ، تزامن ذلك مع طقوس أحتفائية شعبية طويلة بعيد " الماسكل " الاثيوبى العريق ، وحرصي أن أكون دوماً بقربها ومن باب الفضول لاغير .. , كانت متزية بزى شعبي رصين أبيض يعجبني مؤشأة بالأخضر والأصفر والأحمر، وكانت تحرص فى الماضي التزيؤ بة فى المناسبات والأعياد , وكان لا يكلفني كثيراً تلك الايام سواء مشوار لضواحي " عدى خالا " , لشراءة ثم العودة راجلا لمدة أسبوع كامل وما أتكبدة , من أهوال الصدام مع شفتة " أرمجو "و "ولكايت " القتلة العتاة ، وهى التى كانت تفاخر بى بطلاً لايبأرى فى الماضي القريب , تكف الان حتى عن مجرد مصافحتي والحديث معى وفى بلدي ، وهى فى أخرى تقول لى :
ـ "حقيقى لم أعد أصلح لك .. وضرري أكيد .. أكثر من نفعي لك وأسال غيرى ..؟؟ اا , كما أن أهلك لن يغفروا لى تضحيتك بسببي المكلفة جداً لى ولك .. والمرهقة تماما والتى سوف تكلفك على الاقل .. رتبتك العالية والتى يحلم بها الكثيرين .. "
ـ "ولأنك تحبني وأنا كذلك .. فمن مصلحتنا الاثنين صراحة أن نفترق .. فهكذا يكون فى نظرى معنى الوفاء .., وأنت الان بالطبع لن تفهم ذلك الا بعد فوات الاوآن .. ولله درك .." , بالطبع أفرط فى حبي وتشبثي بها لدرجة الهوس , حتى أن جهات العمل المتعاطفة معى , تخيرني بين العودة اليها والتنحي لوظيفة مدنية بديلة , أو نقلى بعيدا عنها والى الجنوب فورا , اما أمى قبل والدى تستعجب فى كل ذلك , وتحلف بأغلظ الايمان وممتعظة للجميع بأننى فعلا مسحور منها , ومن أجلى تذهب وتزور أهلها الصلاح والفلاح وأهل الكرامات .. , فهى سليلة الهميم وأولاد عجيب وحبوبة " ألمك ".. لزم ومن بيت ملك ودين , وأهل سجادة وتختار لى بنفوذها الطاغى من أعز بيوت " ألمانجيل " الكبير وهى تقول دائما وبكثير من الادعاء والخيلاء :
ـ " .. ما نحن ... ناسا معروفين .. وما بنندسا أسياد نحاس ونجدة .. , وما بنرضى الحقارة وما بنضام وبنسدها ونقدها .. " ولتضيف بوجع قائلة :
ـ " وحبوبتى " برة " نفسها قالت جد جدها " السميح " قال لشيخ أبوة فى العلم ... دايرك يا أبونا الشيخ تسال لى الله .. يدينى دار أبوي ... قال لية
ـ ود عمك " العقيل " حي ما بتلقاها بعدة تجيك .. يا طويل العمر ....عشرة تعدلها وعشرة تخربها " , فكان كما قال .. أه أنت ياولدى حتما مسحور, وخوفى أن تخربها وتفارقك وجاهتك ورتبتك العالية .. " .
أما تلك التى كانت تعاندني وبتحدي مزهل وفى شكل عصيان لا هوادة فية , وأنا الذى بيدي الان سلطات متنفذة لأحيل حياتها الى جحيم لايطاق , أمسك وأحجم عن ذلك لأنها وببساطة شديدة , لم تعاملني بالمثل وفى أهوال بلادها المخيفة بحق وحقيقة , والتى لايستطيع العيش فيها الا الأسود الكواسر وباحتيال , ولا مجال حتى للنمور والضباع المرقطة وطوبى لك , وتلك الايام نداولها .. .
بعدها تقول لى صديقتنا المشتركة دائما والتى تجمعنا الان على خير " برتقالة " :
ـ بالهداوة والاقناع دعونا نحل دائما .. مشاكلنا برؤوس باردة وأياكم والتعصب والانفعال ... فلحظات السعادة أقصر من ما تتصورون جميعا .." , تلك الأمسية تقول لى " أماندا " ورفيقتها بالجنب " قدي ":
ـ أنت حقيقة وفى شخصها كنت ومازلت تشملنا نحن .. ذوى الأرومة الامهرية .. بعنايتك وكرمك الذى لاتخطية العين ... أنك انساناً متفق عليك تحفظ الوداد والعشرة .. وه
الفتاة الحوراء ذات العشرين ربيعاً ، الممشوقة القد والقوام ، تسكن وسط "أديس اببا " , وفى وأحدة من تلك القصور والفلل العريقة الفخيمة والمطلة على المدينة من هضاب وأودية جبال "أنتوتو " الساحرة الخلابة الجميلة .. , بلا تحفظ أجزم لكم صادقا بأن هذة الفتاة بالذات ومن دون كل جميلات أحياء بياسا ومركاتو ومكسيكو .. , هى وحدها التى كان يعنيها تماما فنان أثيوبيا الكبير والأول "المايو أجيتي ", وفى أغنيتة الشهيرة والخالدة " أديس أببا.. بيتي " , والتى تشنف الان بجنون أسماع كل "الرستا " فى " جمايكا " وأوروبا والأمريكيتين وحول العالم .
هذة الفتاة ذات العشرين ربيعا , تتصل بنسب أمهرى رفيع تدعية دائما يربطها مباشرة بسبط "أسد يهوذا " ملك ملوك " شوا " العظام , وبجمال ساحر أخاذ أذهب بعقول الكثيرين ، فمثلا العمة " منن " أو " أم بزونيش " تفاخر دائما ببنت أخيها الوحيد " منقستو غمجوا ", وتمجدها وتدللها وفى كل مناسبة وأخرى , وتقول دائما وبأعلى صوتها :
ـ " دى يا ناس البنت الجمالها .. ماقشروبة دا وأرثاة يا ناس .. من حبوبة لحبوبة .. اا" , بل تجزم وتفاخر على رؤوس الاشهاد بأن أحدى أولئك الحبوبات الجميلات , تسببت فى ذاك الزمان الغابر من تاريخ أثيوبيا البعيد , فى أشعال فتن وحروب مروعة عديدة لا تزر ولا تبقى بين , " الراس منقشا " حاكم الامهرا " والراس " كاسا " حاكم تقراي ، ولأنها تنتسب مباشرة لارومة بنات أثيوبيا الماجدات ، فقد أحببتها وتشبثت بها من أول نظرة وهى لا تدرى .. , كان من الصعب عليك أذا عرفتها أن تتخطاها بسهولة , لأسباب عديدة لأحصر لها مرئية وأخرى وكما يقولون غير مرئية على ألاطلاق , أما هى فقد كانت مهيأة وبتركيبتها الحركية الحربائية , ذاك الوقت بالذات أن تجعل من الالتقاء بك , ثم فراقك مرتاحة البال والى غير رجعة أمرا سهلا وميسورا .. وممكنا .
هذة الفتاة الحوراء الممشوقة القوام , كانت ومع كل ذلك رقما صعبا عند أبناء جلدتها ، تعرفت عليها فى موطنها الاصلى , وأنا مكلف من الرئاسة للعمل كخبير أمن ذاتي وتكتيك مضاد دائم بجبهة " تقراي " , للحماية وتقديم النصح والمشورة للقادة الميدانين الكبار المستهدفين , للافلات من القتل والتصفيات الغامضة أنئذاك ، فكان عملنا المشترك يمتد سويا ولساعات طوال نهاراً أو ليلاً , ولانفترق الا نادرا وأذا حدث ولو لسويعات معدودة .. , تقع الكوارث الوخيمة وبهذا الوضع أو الواقع الماثل كانت هى تكملني وأنا أكملها وفى كل شيء تقريبا ..
أذا ما أصبنا كتبت لنا الحياة وإذ أخطانا كتب علينا الموت , وكما هو واضح أصبح قدرنا وحتى مصيرنا وأحد .. , ولان أيامنا معدودة وأفق القادة الصغار على زواجنا , وكشيء طبيعي فنحن نسكن الأهوال والاحراش والغابات , وحتى فى عداد المفقودين ولن نكلفهم الشىء الكثير فى ذلك , ولن يضار حتى مناخ العالم بتاتا من أرتباطنا ببعض ، مع كامل الضمانات بالطبع الكافية والتأكيدات دوماً وعلى حفظ الرتب والمقامات ..
وهذا ليس بجديد يا صحبي ويحدث دائماً وفى أرق غابات وأحراش العالم المتمدين , هكذا كنا نظن أنا وهى .. , ولا ندرى بأن الايام والأحداث حباله دائما بالمزيد والموجع لنا حقا.. .
-2-
كانت هى بالطبع المفوضة والرتبة الأعلي , ولم يكن لمثلى وفى مثل تلك الظروف والأيام أو أى أحد كان , أن يجرؤ أو يفكر على تجاوزها أو تخطيها , ألا أنا فبطبعي المشاكس كنت كثيراً ما أشذ بتجاوزها ومعاندتها , رغم أنها كانت صندوق أسود للاسرارنا جميعا , فقد كانت بحق متنفذة وسلطاتها مطلقة , تحكم حتى بالاعدام ولم تستخدمه فى الواقع , الا ضدي أنا وحدي زوجها فيما بعد .. , كانت بارة بوطنها أولا ودائما , وفى أحلك الظروف وما أستطاعت لذلك سبيلا , ثم منحازة بكلياتها لبيتها كزوجة لايشق لها غبار أبدا , ولاننى تنازلت عن رغبتها طوعاً ً بعدم الانجاب , وملكتها عصمتها بيدها وأنا مكرة ومجبر , وأمام جبروت جمالها الطاغى وسطوتها ، لكل ذلك أجد نفسى وهى حلالي وفى آحايين كثيرة , أتسولها الانجاب مجبر وعاطفة الأبوة الجياشة تغالبنى وفى عقر دارى, لتثور ثأئرتها فى وجهي ذات يوم وتصدني بعنف , ولتختار بعدها وأنا غير مصدق الفراق بعيداً عنى , وفى صمت محير وهدوء عجيبيين وبدون وداع ..
لأنها وبصراحة كانت تفلسف الامور ببساطة شديدة وتقول بأنها , لا تحب فى مثل هذة الظروف والمواقف بالذات وداع من تعزهم , وأنا فى غربة سنين بعيدا عن بلادي وأهلى .. , وفى مسيس الحاجة اليها بالطبع وفى كل شىء تقريبا .
أذكر كل ذلك كان ببساطة ذات مساء يوم مشمس , غير عادى جئت مرهقا ومشيا على الاقدام ألاف الأميال من غرب " قجام " , بعد أيام وليالى طويلة ماطرة , والانتهاء للتو من مشروع تدريبي خلوي قاسي , ومناورات وأسعة بالذخيرة الحية لتفاجئنى على حين غرة المرأة العجوز صاحبة المنزل الذى نستاجرة , الجدة " اللميتوا " قائلة فى تحسر وبامتعاض :
ـ أخذت يا أبنى .. حاجياتها ورحلت باكراً الى مكان ما فى الجبهة ... لم أعد أذكرة الان بالضبط هل هو فى " أقلاقوزاى " أو" دك أمحرى " , لتواصل حديثها وهى تصف لى ربما مؤاسية , وبحزن دراما مغادرتها الموجعة لى شخصياً .. , وللحقيقة ومنذ سكنى هنا وهذة العجوز الشمطاء , لا تكف أبدا من أن تلهبنى دائما بسياط لغوها وثرثرتها ولدرجة لاتحتمل , كما أنها لا تبشر عادة بأخبار سارة الا نادراً جدا ، أخبارها كلها مفجعة وسليطة لسان والكل يتجنبها الا أنا .. , كانت تعجبنى دائما بثرثرتها البانورامية للأحداث, وتعليقاتها اللاذعة والموغلة فى الغرائبية واللامعقول, وطريقة وصفها للأشياء المستحيلة التصديق , بتهكم متصنع قالت لى :
ـ كانت فى عجلة من أمرها والعربة تنتظرها .. لم تترك ياكافى المحن أى رسالة أو شىء من هذا القبيل .. ولكن وأحقاقا للحق كانت بنت بلد أصيلة .. لم تأخذ أى شىء معها ... " , كنت لحظتها أتندر داخلي وبغبن وأقول :
ـ " يكفى أنها أخذت يا " خالة " معها .. قلبي وعقلي .. وحتى عمري .. اا" , بل الذى يبدو لى الان تماما بأن هذة العجوز قد وجدت ضالتها , لتنفس هى الاخرى عن كوامنها بطريقة أو ما , لهذا لم تتركني لشأني غير أن تؤاسينى وربما بطيبتها وأنا لا أدرى , ولتقول لى بعدها مستبشرة :
ـ ذهبت على ما يبدوا .. وتركت لك يا أبنى...الجمل بما حمل .., فأنت فى هذة الحالة بالذات المنتصر عليها .. " , هكذا يفكر أمهرة الشمال دائما ...
ولكننى قلت داخلي بتوجد وحسرة :
ـ ".. انتصاري عليك يا " تسهي " .. وبكل المقاييس هزيمة .. بل هزيمة وكما يقولون فادحة ومره كالعلقم ..اا " , وبدوري شرعت بعدها فى فك أرتباطي بأثيوبيا كلها وطلبت النقل فورا لجهات معسكر " أتيانق "أو" البيبور" , لاستشف بعيدا عن كل هذة البلاد المسحورة بحق وحقيقة .
لم أنتظر بالطبع أجابة من أحد كان كما أننى لم أتحمس لفكرة البحث الجاد عنها لارجاعها , لاننى أعرف بأنها ستتخفى عنى بعيداً فى يوما ما قريب لأنها مسيرة , ولم تختار لى شخصيا مثل هذا الفراق الهادئ والداؤى والمحزن حقيقة , ولكن هناك أناس بعينهم من المستحيل تسميتهم الان .. , وأخلصت فى ودهم وخدمتهم والتضحية بالدم والروح من أجلهم ، لم ولن يتركوني وشاني هكذا لأعيش هنياً وأسعد معها هى بالذات , ولكنهم خفيه وبعيدا عنى عقدو العزم أن يجازوني ذات يوم وبحجم جزاء سينمار وأكثر , ولكن متى وأين .. وكيف ؟؟ فهذا ما لم أستطع أنا نفسى , خبير التكتيك الملهم حتى معرفتة , ولان قلب المؤمن دائماً دليلة كما يقول المثل ، فقد أستشفيت بعض من مبررات هجرها الغير مستساغة بالنسبة لى أبدا , والتى تمت على نار هادئية كما يبدوا وباكثر مما أتصور , فقلت داخلي بحرقة :
ـ " على أى حال .. لا عزاء دائما للغرباء ... وبالطبع من خرج من دارة صحيح . قل مقدارة ومهما كان ... , ثم وهكذا الدهر يا سعد .. " والكثير .. الكثير والموجع , كما أحلف على ثقة وصادقا وحتى الان بأنها لم تختار وعلى المستوي الشخصي البحت كل هذا البعاد والفرقة , ولكن هناك ثمة من يغير على مجرد حبي وارتباطي بها بشىء من الريبة والتوجس, ثم كيف حتى يسمح مثل هذا التعيس لنفسة كائن من كان , وهى زوجتي مجرد الغيرة والغبن ..
المستتر وفى ذلك كلة , وعدم رضائهم لمثل هذة الزيجة الغير متكافئة فى نظرهم هم وحدهم على الاقل, وشططهم لرفيق كفاح طويل ومرير , أنة بالتأكيد شعورغير سوى بتضخم الأنا , وغير مقبول ووحشي وحاجز نفسى عالي بالغبن للآخر ، فرغم أخلاصي وتضحياتي الجسام بالدم والروح من أجلهم ومن أجل قضيتهم , الا أنة غير مقبول أطلاقا ومهما كنت وأنا الغريب , وهى سليلة الدماء الزرقاء فى أعرافهم وأساطيرهم الشعبية القديمة , وهذا فى حد ذاتة خط أحمر عندهم , فشتأن حتى ولو أن تذهب الى قبرها ودوني , وأن أمسس .. وأنا حتى زوجها شعرة من رأسها , هذة هى دوما الكبرياء والشوفينية الانسانية الممقوتة , والضحلة التفكير والى يوم ولحظة , النفخ فى الصور والإعلان الداؤوى والأكبر ,.." اليوم لا أنساب بينكم ".
-4-
كانت بالطبع قد أختارت بطريقة أو ما , أن تمارس مجبرة مع سبق الاصرار رحلة النزوح والانزواء بعيدًا , وفى دور آخر مختلف ومرحلة أن تهرب وتعيش منطوية أو لاجئة بلا هوية تماما , ولأقول لنفس تب لك أيتها التضحيات .. والمجاهدات ..., ثم أستصرخ وأكرر وأقول بعناد لهيئة القيادة المصغرة فى " جوبا " و" فشلا " :
ـ أرجوكم أخرجوني من هذة الأحراش الظالم أهلها .. " , فاستجابوا لنقلى أخيراً جدًا وبعيداً منفياً أو مغضوب على , ولطيبة الذكر " الخرطوم " عموم نفسها , وأنا لا أعلم ولسخريات القدر بأنها هى وبشخصها الأثر , وبكامل حضورها والقها الجميل والملفت للأنظار , تقاسمني العيش فى الخرطوم نفسها بلدي ومسقط رأسي , ولايفصلنا بالكاد غير شارع أفريقيا , وهى تعلم كل ذلك وأنا يومها مدير شعبة عمليات أمن الظل فى الخرطوم الكبرى نفسها , ووريث أصيل لمكوين باشا واللواء ضيف اللة وفى ضبط وربط ومهنية اللواء المعروف رصاص , .. ومع كل ذلك آخر من يعلم, ولكننى تفهمت بعد ذلك حيثيات عيشها متخفية بالخرطوم , وعملها الجديد كنادلة وهى تنسي نفسها بأنها فى الأساس طالبة جامعية ونهائي هندسة معمارية , وبإحدى منتدياتها الحديثة الراقية , تحزق ببرمكية تحسد عليها فنون القهوة الاثيوبية وطقوسها الموغلة , فى الأصالة والتراث العريض .. ، كانت مختلفة ومدهشة وفى كل شىء وتسحر أنظار الرواد , من الهائمين حولها حدثني ذات يوما عنها أحد شباب شارع كترينا والخور, وباستعجاب يحسد علية وقال لى مبهوت :
ـ " أمسك الخشب يا صحبي انها " آنا ريكو " الاخرى ، بل وما كنت أعرفة عنة هو بالذات بأنة كان متزن كليا وزاهد وملتزم , وقلبة معروف بعصية ولكن عندما حدثني عنها بشقف ولهفة , وأعترف لى بكامل حضورة بأعجابة المزهل بها ومن اللحظة الاولى , قلت لة :
ـ " أكيد أنها وربما تكون يا صحبي " تسهيئ " تلك التى أبحث عنها .. وقالوا لى كلهم مرجحين رائي بأنها ربما تكون بالخرطوم عموم نفسها وانت لا تدرى ؟اا " ، بالطبع أندهشت يومها ووقفت مبهوتاً ومشدوها عندما وأجهتها وجها لوجه , وهى تنكرني ومن حولي فى حيرة وحرج شديدين , وأنا السهل الممتنع أعزرها وعندما أتنازل واقول لها داخلي :
ـ " أخيراً مرحباً بك فى بلدك الثانى السودان .. ورغم أنكارك لى أين ستهربين منى بعد اليوم ؟" , لاوأصل القول وهى مستعجبة وتكاد تسمعني :
ـ " كما أننى بطريقة أو أخرى ومنذ اليوم .. لن أفرط فيك مرة أخرى أبداً.. أبدا .." , أنتبهت لنفسي وهى ما زالت مشدوهة لبرهة زمن , ولتستعيد فى ثواني ثباتها , وهى الحديدية الأصل والثبات وسيف لحاظها معروف ومجرب , ولتعيدني وأنا الملتبس على مضض لتودعني فقط أمانيها العذبة الان للهجرة والمغادرة بعيدا والى عوالم أفضل ًوأرحب وكما تزعم , تنتظر كالكثيرين كرت زيارة لملاذ أوربي أمن , كما أشاعت بذلك مرارا ولم أصدقها .. ، كنت فى الحدود مسؤول الارتباط الاول وألان معروف بينهم جميعا بالمهنية والانسانية .. والتجرد والنزاهة .
-5-
تجمعنا الان أمسية شاتئة حالمة عبقة , على أنغام الة " الماسنغوا " ورقص الاسكستا " الشعبى البديع الرائع , وفى مقهى "درق بنا بيت " المعروف والشهير للجالية بنمرة ثلاثة ، تزامن ذلك مع طقوس أحتفائية شعبية طويلة بعيد " الماسكل " الاثيوبى العريق ، وحرصي أن أكون دوماً بقربها ومن باب الفضول لاغير .. , كانت متزية بزى شعبي رصين أبيض يعجبني مؤشأة بالأخضر والأصفر والأحمر، وكانت تحرص فى الماضي التزيؤ بة فى المناسبات والأعياد , وكان لا يكلفني كثيراً تلك الايام سواء مشوار لضواحي " عدى خالا " , لشراءة ثم العودة راجلا لمدة أسبوع كامل وما أتكبدة , من أهوال الصدام مع شفتة " أرمجو "و "ولكايت " القتلة العتاة ، وهى التى كانت تفاخر بى بطلاً لايبأرى فى الماضي القريب , تكف الان حتى عن مجرد مصافحتي والحديث معى وفى بلدي ، وهى فى أخرى تقول لى :
ـ "حقيقى لم أعد أصلح لك .. وضرري أكيد .. أكثر من نفعي لك وأسال غيرى ..؟؟ اا , كما أن أهلك لن يغفروا لى تضحيتك بسببي المكلفة جداً لى ولك .. والمرهقة تماما والتى سوف تكلفك على الاقل .. رتبتك العالية والتى يحلم بها الكثيرين .. "
ـ "ولأنك تحبني وأنا كذلك .. فمن مصلحتنا الاثنين صراحة أن نفترق .. فهكذا يكون فى نظرى معنى الوفاء .., وأنت الان بالطبع لن تفهم ذلك الا بعد فوات الاوآن .. ولله درك .." , بالطبع أفرط فى حبي وتشبثي بها لدرجة الهوس , حتى أن جهات العمل المتعاطفة معى , تخيرني بين العودة اليها والتنحي لوظيفة مدنية بديلة , أو نقلى بعيدا عنها والى الجنوب فورا , اما أمى قبل والدى تستعجب فى كل ذلك , وتحلف بأغلظ الايمان وممتعظة للجميع بأننى فعلا مسحور منها , ومن أجلى تذهب وتزور أهلها الصلاح والفلاح وأهل الكرامات .. , فهى سليلة الهميم وأولاد عجيب وحبوبة " ألمك ".. لزم ومن بيت ملك ودين , وأهل سجادة وتختار لى بنفوذها الطاغى من أعز بيوت " ألمانجيل " الكبير وهى تقول دائما وبكثير من الادعاء والخيلاء :
ـ " .. ما نحن ... ناسا معروفين .. وما بنندسا أسياد نحاس ونجدة .. , وما بنرضى الحقارة وما بنضام وبنسدها ونقدها .. " ولتضيف بوجع قائلة :
ـ " وحبوبتى " برة " نفسها قالت جد جدها " السميح " قال لشيخ أبوة فى العلم ... دايرك يا أبونا الشيخ تسال لى الله .. يدينى دار أبوي ... قال لية
ـ ود عمك " العقيل " حي ما بتلقاها بعدة تجيك .. يا طويل العمر ....عشرة تعدلها وعشرة تخربها " , فكان كما قال .. أه أنت ياولدى حتما مسحور, وخوفى أن تخربها وتفارقك وجاهتك ورتبتك العالية .. " .
أما تلك التى كانت تعاندني وبتحدي مزهل وفى شكل عصيان لا هوادة فية , وأنا الذى بيدي الان سلطات متنفذة لأحيل حياتها الى جحيم لايطاق , أمسك وأحجم عن ذلك لأنها وببساطة شديدة , لم تعاملني بالمثل وفى أهوال بلادها المخيفة بحق وحقيقة , والتى لايستطيع العيش فيها الا الأسود الكواسر وباحتيال , ولا مجال حتى للنمور والضباع المرقطة وطوبى لك , وتلك الايام نداولها .. .
بعدها تقول لى صديقتنا المشتركة دائما والتى تجمعنا الان على خير " برتقالة " :
ـ بالهداوة والاقناع دعونا نحل دائما .. مشاكلنا برؤوس باردة وأياكم والتعصب والانفعال ... فلحظات السعادة أقصر من ما تتصورون جميعا .." , تلك الأمسية تقول لى " أماندا " ورفيقتها بالجنب " قدي ":
ـ أنت حقيقة وفى شخصها كنت ومازلت تشملنا نحن .. ذوى الأرومة الامهرية .. بعنايتك وكرمك الذى لاتخطية العين ... أنك انساناً متفق عليك تحفظ الوداد والعشرة .. وه
ى تخاف عليك من نفسها , فهذة قمة التضحية لك فى أعتقادى الشخصى .. , كما أن السفر نفسة حقيقة من بلادكم أصبح عدم كلبن الطير .. ومن رابع المستحيلات..لولا مساعداتك ومجازفاتك المستحيلة لنا جميعا ..." , لتنتحي بى صديقتها ومحلك سرها الأخري " أسناكش " وتسالنى :
ـ ..أأنت تعرفها ؟ يعنى أصحيح بينكم سابق معرفة ؟ " , قلت لها وهى تسمعني :
ـ كنت أعرفها فى ماضي الايام .. عندما كان أسمها " تسهيئ " وليس كما يدعونها الان بـ " مولوا " وكانت زوجتي .. أما الان فمنفصلين بأمر منها أو من جهة ما لا أعلمها .. " عقدت الدهشة لسانها وقالت لى :
ـ أذن هى قصة على ما يبدوا وحكاية .. قلت لها :
ـ أقول لك صادقاً وهى الان تسمعني جيدا , وتعرف مع كل ذلك أننى لا أكذب أو أتجنى عليها ابداً , ولا أحسن حتى تزويق أو تزيف الحقائق , كان ذلك على أيام " منغستوا " والرعب الاحمر يستشرى هنا وهناك , تركت مجبرة وهى الطالبة الفاينلست ـ هندسة معمارية , الدراسة بجامعة اديس اببا , مرغمة للانضمام للقائد " ملس " فى تخوم وغابات تقراى , وأختها الفنانة الشهيرة "وينا سبسبي " تبحث عنها بجنون, ما تركت حجر الا ورفعتة وفى يدها عفواً من " منغستوا " شخصيا, ولأنها تعرف طبيعة الأحقاد هناك فأنها ، لم تعد تصدق أحدا كان ، وتتدخل جهات عدة للوساطة والمساعدة فى أعادتها لأختها الملهوفة عليها , ويفشلون ودونك يا " تسهي " وتموت أختها فجاءة كمدا عليها ولسانها يلهج , قلبي على أخى وقلب أخى على حجر , كانت بطيبتها تريد لها مستقبل آخر مشرق ومختلف تماما , ولاتدرى بأنها أصبحت زوجة تملك زمام أمرها وعصمتها كما أرادت , وتعيش معى شظف العيش بعيدا عن رفاهية المدن والحضر , وفى مكان ما على حدود جبهة " مغلي " البعيدة والملتهبة .
أذكرها كانت جميلة فى كبر .. وعنيدة وشرسة فى تواضع , التقيتها لاول مرة ونحن على أبواب دخول الثوار منتصرين للعاصمة " أديس أببا " , المدينة الحلم والتى لا أريد دخلوها دخول الفاتحين , فهذا محرم عندى وفى الشرائع الاثيوبية كلها أبتداً من أيام الراهب الاكبر " تكلا هيمانوت " وحتى الامبراطور تادرس وأياسوا والراس ميخائيل , وحتى منليك العظيم ملك " شوا" نفسها ـ الاسم الشعبى والقديم لـ " أديس أببا " , والذين ماتوا دونها والتراب الاثيوبى معروف محرم ومقدس , وهم أهل ذمة , و" النجاشي " نفسة وكما هو معروف عنة ملك معظم .. ولا يظلم أمامة أو عند بابة .. أحد أبدا .
-6-
يومها كانت هى دليلنا الوحيد لدخولها بالقوة وعنوة , كانت برتبة رائد " شلكا " وأنا نقيب ضليع بفنون القتال الليلي بالكتائب المظلية الخاصة ، والتى تحولت فى غمضت عين الى كتائب مشاة زاحفة نحو أهدافها الجبلية القاسية , أماهى فقد أعتدل مزاجها فجاة للحديث وأخذت تكمل بالامهرية البقية ، وهى تقول لمن كانت تجلس كحاجز صد عاتي بيننا ، أنة يتقن الامهرية أكثر منى ومنك ، فانا أستاذتة وهو كان حقا تلميذ نجيب يطلب المستحيل .. ، نظرت بعيد ثم أخذت تنفس من سجارتها وكأنها تكسر حاجز الصمت لتقول بهدوء :
ـ أذكر القائد الميداني " ود الحسين " قائد الكتيبة السودانية , يصرخ فى جنود الكتيبة محزراً بالانتبأة , والجميع متحفزين لدخول " أديس أببا " المدينة السهل الممتنع من أطرافها , وفى وثبات تكتيكية كما فى تنوير القائد الثانى " كجو كرتكيلا ", وهو يشرح للجميع كيف ستكون الوثبات التكتيكية لتفادى القوات البريطانية الخاصة "جرزان الصحراء" , والمتشبثين بقوة بحماية قصر منليك القديم وأفراد الأسرة المالكة هناك , وحماية الأرشيف الضخم والوثائق الامبراطورية التاريخية , والكنوز والاسرار المقدسة الاورثوزكية الشرقية القديمة والنادرة والتى لاتقدر بثمن .. , ثم بضجر يقول وبعد أن نفذ صبرة :
ـ " يا ناس الكتيبة .. الا ترونا كيف أولاد القائد " ملس " منضبطين ومؤدبين الا أنتم ..اا " ,ثم بخنق يردف قائلاً وقد بلغ بة الصبر مداه :
ـ أولاد الكتيبة دى فوضجية خالص ومجرمين .. حيحرجونا ... , عايز لى ضابط كارب " ومقددة " من أولاد " الموردة " أمسكها لية " , ويطلب فورا من التعلمجى الاول " أبوالبشر " , أن يجمع أمامة جميع ضباط الكتيبة 501،.. , ثم أخترتك أنت بالذات .. ولم تسالنى فى الماضي , لما أخترتينى من دونهم كلهم ومن المفترض أن لاتسالنى الان ..
ـ ثم عملنا سويا وبمهام مختلفة ولفترات طويلة وبجهات ومواقع عديدة , وتزوجنا عن حب وقناعة بعد ذلك وبزمن , فأنت منذ عرفناك متدين , وأنا مؤمنة ولا حرج فى ذلك .. ..
ـ وبالطبع أنفصلنا سريعا وبعد عدة أعوام لاتكاد تعد على كفة اليد الواحدة , ولأسباب معروفة بعد ذلك لى ولك , وفى سرية وهدوءا تامين وتفهمت بالطبع واقعي الجديد , وضرورات المرحلة والسرية وترقيتي الى مواقع حساسة كما يدعون , ليعودوا ليجردوني وبنفس السرية منك أنت كزوج , ومن وظائفي كلها لأسباب غير معروفة فيحيلوني بعدها للاستيداع .. , ولتواصل :
ـ وأنا فى شرخ الشباب وقمة العطاء .. واتهموني جزافا بعدم الثقة , والمؤالاة لك فى يوم من الايام .. , نسوا حقيقة دوري ودورك وكل ما ضحيت إنا وأنت من أجلة , ولكن الان جاءت نشؤة النصر وهيلمان السلطة والدولة النأشئية الجديدة , فليس هناك مصغي لاحد كان , كما أن قرارت الدوائر العليا عادة غير قابلة للحوار أوحتى النقاش ، فرغم تضحياتي جردت من رتبى كلها وأصبحت موضع تهم , ولا حماية لى وأنا الصندوق الأسود ومستودع الاسرار لما كان وما سيكون ..
ـ بالطبع وضعوني أمام خيارين لاثالث لهم كعادتهم ، فاخترت الهرب كلاجئيه لالوز بعدها بالمهاجر البعيدة منفية .. , لاننى أصبحت وانا فى شرخ الشباب وقمة العطاء غريبة الأطوار وعديمة المعنى والجدوى , ثم ألتفتت لى ولتقول لها هى وبالحرف الواحد :
ـ أنا بالصدق ربما ألوم الظروف ..., ولا الومة شخصياً لأنة أخلص لى .. وثانيا أنة أحب إثيوبيا فى شخصي فهذا عندى يكفى ... فهو بحق مبارك فى الأرض والسماء .. ولن انسأة ماحييت , وهو قد يقول بداخلة مستهجناً :
ـ .. البنت دى عاملة من الحبة قبة .. الاترجع الى صوابها .. وتعود معى الى بيت زوجيتها ؟؟ .. " , أننى أقول لة الان وبصراحة شديدة :
ـ بسببك كان فقدي لكل شىء هناك ... وما أخشأة أن تفقد أنت الآخر كل شىء بسببي هنا .. فهذا بالطبع منطقهم الان جميعاً .. رغم ما يغلفونة من زيف ورياء ؟ , بل وأمعانا فى أغاظتى بعد ذلك سافرت حتى ولم تخطرني أو حتى تودعني .. .
-7-
بعد عدة أعوام وعلى ما أذكر بالصدفة وحدها التقيت فى " بنا بيت أديس وركو" بالديم وسط بـ " برتقالة " نفسها صديقتنا المشتركة القديمة , لتسالنى بالطبع عن أخبار تلك المتماهية دوما ، قلت لها :
ـ أنها مغرورة ومزعجة بامتياز لم تودعني متمنعة , ثم وهى وألم تقول لى أمامك ..
ـ " لن أنساك أبدا .. اا", فقد عت لا أصدقها غموضها من جديد , ورغم أنها تعرف حساسية عملي ورتبتي الان ، ومع كل ذلك أرسلت لى كرت معايدة باعياد الكرسميس ورأس السنة .. , ليخترق وبأعجوبة مزهلة حتى أجواء "جوبا " نفسها المتوترة , وأنا ملحوق بالفرقة الاولى ولحسن الحظ يستلمة الكماندر" دوت موق " , فهو يعرفنى ويعرفها فقد عمنا لسنوات بالقوات المدمجة" بفشلا" و" كافاكفنجى" , ولولاة لكنت قي خبر كان , بل و بطريقة أخوية جاء شخصيا ليسلمنى الرسالة , ثم يتطوع بقراءتها أمامنا جميعاٍ حتى لا يحدث أى لبث أو تأويل, فأولاد" الانواك" معروفين بإتقان الامهرية ، وهو يضحك: قال لى
" أتدرى يا صاحبي من مين .. ؟ ... ثم يتلفت فى ريبة ويهمس للكل
ـ " أنها من " تسهيي " المتماهية دوما , ثم تتنحنح وقال :
ـ " وأنها من القدس.. ", وأنا أقول بداخلي "وأنها أن شاء اللة باسم الله الرحمن الرحيم " , وهى تقول :
ـ ".. أرقد الان مستشفية ومنذ عدة شهور , بمستشفى فى القدس الغربية لا تتخيلونة .. أشبة بهلتون الخرطوم , لاستشف من وجعي منك , ولجوئي المستجعل لبلادكم .." , ثم تستدرك هفوتها لتقول وبحصافتها المطبوعة ..
ـ " .. وبالطبع حتى أعود لكم أكثر شوقا ولهفة .." , وقف الكثيرين من حولي أمام عبارتها المتهكمة ليعلق " كجل " قائلا:
ـ "تعجبنى دبلوماسية حصيفة وأصيلة .. بتعرف تتبأصر شديد وتنفد من المحن والكوارث والنكبات جميعها ..ا ؟" , ثم أردف " موق " قائلا :
ـ " أنت فى كدا ..ولا شوفوا سلاطة لسانها المجبولة عليها , .. بتتفسح قالت ليكم :
ـ " كيف عاملين مع أجواء " جوبا " الحارة .. والنكات الباردة .. , وشوفوها ..هنا بتقلب فى المواجع كيف..., قالت بلكنتها المحببة:
ـ " ٍسلام بلونجا " .. أى سلم على كل من يسال عنى .. , خصوصا البرقدير " أكيج " واللواء " دوت نيال نيال " ... قالت :
ـ " لاتنسى العقيد ود العباسية " ود الحاجة " .. وأهمس لة فى أذنة .. كتبت .. لك .. وأذا لم ترد لن أكتب لك مرة أخرى ... فهذا مبدئي الذى تعرفة تماما ً .. تعليمات أخرى .. أنتهى ..
ثم أردف بعدها قائلا ومستنكرًا :
ـ كمان أنتوا يا أولاد " العباسية " فوق , .. ما قصرتو أبدا علمتوها كل شىء .. شوفوها بتقول شنو ؟ ..
ـ " أمس مررت بشارع السينمات رايتها مكتظ بالرواد من الجنسين , تذكرت دعوات التعارف والتكريم وحفلات الشواء المتكررة بالدجاج المخلي , وصوص الباربيكيو للدفعة أيام أمدرمان والكوخ الفرنسي يالعرضة , ودروس التوجية والمحاضرات التعويضية المفتوحة بميز " كسلا " والتى لا تنسئ أبدا, وجنابو العميد " ود الشطيب " والذى يصنفها عن آخرها بالموبقات والمهلكات , يصرخ مستنجدا ومستعجبا :
ـ " .. ها ناس واللة حيرتونا معاكم .. محاضراتنا وكلامنا وتعبنا القلناهوا كلة ..
ـ حرم طلعوهوا أولاد دفعتكم .. " الحناكيش " مستجدى النعمة تعب .. علي حاصي الفاضي .. ساكت ؟؟ اا " , وليردف قائلا وموجها حديثة هذة المرة ولمن يجأورة :
ـ " .. سمعت كمان يا شيخ " قدالة ؟؟ اا "
.. " كجل " قال شنو ؟؟
. " كجل " .. قال ماشي .. السينما ..اا ".. , .ـ "
حينها فقط .. , تفرقعت الضحكات
والى ما لا نهاية .. .
تمــت ,,,
فتحي عبد العزيز محمد
الخرطــوم – حديقة أوزون
10 /1/2013م
ـ ..أأنت تعرفها ؟ يعنى أصحيح بينكم سابق معرفة ؟ " , قلت لها وهى تسمعني :
ـ كنت أعرفها فى ماضي الايام .. عندما كان أسمها " تسهيئ " وليس كما يدعونها الان بـ " مولوا " وكانت زوجتي .. أما الان فمنفصلين بأمر منها أو من جهة ما لا أعلمها .. " عقدت الدهشة لسانها وقالت لى :
ـ أذن هى قصة على ما يبدوا وحكاية .. قلت لها :
ـ أقول لك صادقاً وهى الان تسمعني جيدا , وتعرف مع كل ذلك أننى لا أكذب أو أتجنى عليها ابداً , ولا أحسن حتى تزويق أو تزيف الحقائق , كان ذلك على أيام " منغستوا " والرعب الاحمر يستشرى هنا وهناك , تركت مجبرة وهى الطالبة الفاينلست ـ هندسة معمارية , الدراسة بجامعة اديس اببا , مرغمة للانضمام للقائد " ملس " فى تخوم وغابات تقراى , وأختها الفنانة الشهيرة "وينا سبسبي " تبحث عنها بجنون, ما تركت حجر الا ورفعتة وفى يدها عفواً من " منغستوا " شخصيا, ولأنها تعرف طبيعة الأحقاد هناك فأنها ، لم تعد تصدق أحدا كان ، وتتدخل جهات عدة للوساطة والمساعدة فى أعادتها لأختها الملهوفة عليها , ويفشلون ودونك يا " تسهي " وتموت أختها فجاءة كمدا عليها ولسانها يلهج , قلبي على أخى وقلب أخى على حجر , كانت بطيبتها تريد لها مستقبل آخر مشرق ومختلف تماما , ولاتدرى بأنها أصبحت زوجة تملك زمام أمرها وعصمتها كما أرادت , وتعيش معى شظف العيش بعيدا عن رفاهية المدن والحضر , وفى مكان ما على حدود جبهة " مغلي " البعيدة والملتهبة .
أذكرها كانت جميلة فى كبر .. وعنيدة وشرسة فى تواضع , التقيتها لاول مرة ونحن على أبواب دخول الثوار منتصرين للعاصمة " أديس أببا " , المدينة الحلم والتى لا أريد دخلوها دخول الفاتحين , فهذا محرم عندى وفى الشرائع الاثيوبية كلها أبتداً من أيام الراهب الاكبر " تكلا هيمانوت " وحتى الامبراطور تادرس وأياسوا والراس ميخائيل , وحتى منليك العظيم ملك " شوا" نفسها ـ الاسم الشعبى والقديم لـ " أديس أببا " , والذين ماتوا دونها والتراب الاثيوبى معروف محرم ومقدس , وهم أهل ذمة , و" النجاشي " نفسة وكما هو معروف عنة ملك معظم .. ولا يظلم أمامة أو عند بابة .. أحد أبدا .
-6-
يومها كانت هى دليلنا الوحيد لدخولها بالقوة وعنوة , كانت برتبة رائد " شلكا " وأنا نقيب ضليع بفنون القتال الليلي بالكتائب المظلية الخاصة ، والتى تحولت فى غمضت عين الى كتائب مشاة زاحفة نحو أهدافها الجبلية القاسية , أماهى فقد أعتدل مزاجها فجاة للحديث وأخذت تكمل بالامهرية البقية ، وهى تقول لمن كانت تجلس كحاجز صد عاتي بيننا ، أنة يتقن الامهرية أكثر منى ومنك ، فانا أستاذتة وهو كان حقا تلميذ نجيب يطلب المستحيل .. ، نظرت بعيد ثم أخذت تنفس من سجارتها وكأنها تكسر حاجز الصمت لتقول بهدوء :
ـ أذكر القائد الميداني " ود الحسين " قائد الكتيبة السودانية , يصرخ فى جنود الكتيبة محزراً بالانتبأة , والجميع متحفزين لدخول " أديس أببا " المدينة السهل الممتنع من أطرافها , وفى وثبات تكتيكية كما فى تنوير القائد الثانى " كجو كرتكيلا ", وهو يشرح للجميع كيف ستكون الوثبات التكتيكية لتفادى القوات البريطانية الخاصة "جرزان الصحراء" , والمتشبثين بقوة بحماية قصر منليك القديم وأفراد الأسرة المالكة هناك , وحماية الأرشيف الضخم والوثائق الامبراطورية التاريخية , والكنوز والاسرار المقدسة الاورثوزكية الشرقية القديمة والنادرة والتى لاتقدر بثمن .. , ثم بضجر يقول وبعد أن نفذ صبرة :
ـ " يا ناس الكتيبة .. الا ترونا كيف أولاد القائد " ملس " منضبطين ومؤدبين الا أنتم ..اا " ,ثم بخنق يردف قائلاً وقد بلغ بة الصبر مداه :
ـ أولاد الكتيبة دى فوضجية خالص ومجرمين .. حيحرجونا ... , عايز لى ضابط كارب " ومقددة " من أولاد " الموردة " أمسكها لية " , ويطلب فورا من التعلمجى الاول " أبوالبشر " , أن يجمع أمامة جميع ضباط الكتيبة 501،.. , ثم أخترتك أنت بالذات .. ولم تسالنى فى الماضي , لما أخترتينى من دونهم كلهم ومن المفترض أن لاتسالنى الان ..
ـ ثم عملنا سويا وبمهام مختلفة ولفترات طويلة وبجهات ومواقع عديدة , وتزوجنا عن حب وقناعة بعد ذلك وبزمن , فأنت منذ عرفناك متدين , وأنا مؤمنة ولا حرج فى ذلك .. ..
ـ وبالطبع أنفصلنا سريعا وبعد عدة أعوام لاتكاد تعد على كفة اليد الواحدة , ولأسباب معروفة بعد ذلك لى ولك , وفى سرية وهدوءا تامين وتفهمت بالطبع واقعي الجديد , وضرورات المرحلة والسرية وترقيتي الى مواقع حساسة كما يدعون , ليعودوا ليجردوني وبنفس السرية منك أنت كزوج , ومن وظائفي كلها لأسباب غير معروفة فيحيلوني بعدها للاستيداع .. , ولتواصل :
ـ وأنا فى شرخ الشباب وقمة العطاء .. واتهموني جزافا بعدم الثقة , والمؤالاة لك فى يوم من الايام .. , نسوا حقيقة دوري ودورك وكل ما ضحيت إنا وأنت من أجلة , ولكن الان جاءت نشؤة النصر وهيلمان السلطة والدولة النأشئية الجديدة , فليس هناك مصغي لاحد كان , كما أن قرارت الدوائر العليا عادة غير قابلة للحوار أوحتى النقاش ، فرغم تضحياتي جردت من رتبى كلها وأصبحت موضع تهم , ولا حماية لى وأنا الصندوق الأسود ومستودع الاسرار لما كان وما سيكون ..
ـ بالطبع وضعوني أمام خيارين لاثالث لهم كعادتهم ، فاخترت الهرب كلاجئيه لالوز بعدها بالمهاجر البعيدة منفية .. , لاننى أصبحت وانا فى شرخ الشباب وقمة العطاء غريبة الأطوار وعديمة المعنى والجدوى , ثم ألتفتت لى ولتقول لها هى وبالحرف الواحد :
ـ أنا بالصدق ربما ألوم الظروف ..., ولا الومة شخصياً لأنة أخلص لى .. وثانيا أنة أحب إثيوبيا فى شخصي فهذا عندى يكفى ... فهو بحق مبارك فى الأرض والسماء .. ولن انسأة ماحييت , وهو قد يقول بداخلة مستهجناً :
ـ .. البنت دى عاملة من الحبة قبة .. الاترجع الى صوابها .. وتعود معى الى بيت زوجيتها ؟؟ .. " , أننى أقول لة الان وبصراحة شديدة :
ـ بسببك كان فقدي لكل شىء هناك ... وما أخشأة أن تفقد أنت الآخر كل شىء بسببي هنا .. فهذا بالطبع منطقهم الان جميعاً .. رغم ما يغلفونة من زيف ورياء ؟ , بل وأمعانا فى أغاظتى بعد ذلك سافرت حتى ولم تخطرني أو حتى تودعني .. .
-7-
بعد عدة أعوام وعلى ما أذكر بالصدفة وحدها التقيت فى " بنا بيت أديس وركو" بالديم وسط بـ " برتقالة " نفسها صديقتنا المشتركة القديمة , لتسالنى بالطبع عن أخبار تلك المتماهية دوما ، قلت لها :
ـ أنها مغرورة ومزعجة بامتياز لم تودعني متمنعة , ثم وهى وألم تقول لى أمامك ..
ـ " لن أنساك أبدا .. اا", فقد عت لا أصدقها غموضها من جديد , ورغم أنها تعرف حساسية عملي ورتبتي الان ، ومع كل ذلك أرسلت لى كرت معايدة باعياد الكرسميس ورأس السنة .. , ليخترق وبأعجوبة مزهلة حتى أجواء "جوبا " نفسها المتوترة , وأنا ملحوق بالفرقة الاولى ولحسن الحظ يستلمة الكماندر" دوت موق " , فهو يعرفنى ويعرفها فقد عمنا لسنوات بالقوات المدمجة" بفشلا" و" كافاكفنجى" , ولولاة لكنت قي خبر كان , بل و بطريقة أخوية جاء شخصيا ليسلمنى الرسالة , ثم يتطوع بقراءتها أمامنا جميعاٍ حتى لا يحدث أى لبث أو تأويل, فأولاد" الانواك" معروفين بإتقان الامهرية ، وهو يضحك: قال لى
" أتدرى يا صاحبي من مين .. ؟ ... ثم يتلفت فى ريبة ويهمس للكل
ـ " أنها من " تسهيي " المتماهية دوما , ثم تتنحنح وقال :
ـ " وأنها من القدس.. ", وأنا أقول بداخلي "وأنها أن شاء اللة باسم الله الرحمن الرحيم " , وهى تقول :
ـ ".. أرقد الان مستشفية ومنذ عدة شهور , بمستشفى فى القدس الغربية لا تتخيلونة .. أشبة بهلتون الخرطوم , لاستشف من وجعي منك , ولجوئي المستجعل لبلادكم .." , ثم تستدرك هفوتها لتقول وبحصافتها المطبوعة ..
ـ " .. وبالطبع حتى أعود لكم أكثر شوقا ولهفة .." , وقف الكثيرين من حولي أمام عبارتها المتهكمة ليعلق " كجل " قائلا:
ـ "تعجبنى دبلوماسية حصيفة وأصيلة .. بتعرف تتبأصر شديد وتنفد من المحن والكوارث والنكبات جميعها ..ا ؟" , ثم أردف " موق " قائلا :
ـ " أنت فى كدا ..ولا شوفوا سلاطة لسانها المجبولة عليها , .. بتتفسح قالت ليكم :
ـ " كيف عاملين مع أجواء " جوبا " الحارة .. والنكات الباردة .. , وشوفوها ..هنا بتقلب فى المواجع كيف..., قالت بلكنتها المحببة:
ـ " ٍسلام بلونجا " .. أى سلم على كل من يسال عنى .. , خصوصا البرقدير " أكيج " واللواء " دوت نيال نيال " ... قالت :
ـ " لاتنسى العقيد ود العباسية " ود الحاجة " .. وأهمس لة فى أذنة .. كتبت .. لك .. وأذا لم ترد لن أكتب لك مرة أخرى ... فهذا مبدئي الذى تعرفة تماما ً .. تعليمات أخرى .. أنتهى ..
ثم أردف بعدها قائلا ومستنكرًا :
ـ كمان أنتوا يا أولاد " العباسية " فوق , .. ما قصرتو أبدا علمتوها كل شىء .. شوفوها بتقول شنو ؟ ..
ـ " أمس مررت بشارع السينمات رايتها مكتظ بالرواد من الجنسين , تذكرت دعوات التعارف والتكريم وحفلات الشواء المتكررة بالدجاج المخلي , وصوص الباربيكيو للدفعة أيام أمدرمان والكوخ الفرنسي يالعرضة , ودروس التوجية والمحاضرات التعويضية المفتوحة بميز " كسلا " والتى لا تنسئ أبدا, وجنابو العميد " ود الشطيب " والذى يصنفها عن آخرها بالموبقات والمهلكات , يصرخ مستنجدا ومستعجبا :
ـ " .. ها ناس واللة حيرتونا معاكم .. محاضراتنا وكلامنا وتعبنا القلناهوا كلة ..
ـ حرم طلعوهوا أولاد دفعتكم .. " الحناكيش " مستجدى النعمة تعب .. علي حاصي الفاضي .. ساكت ؟؟ اا " , وليردف قائلا وموجها حديثة هذة المرة ولمن يجأورة :
ـ " .. سمعت كمان يا شيخ " قدالة ؟؟ اا "
.. " كجل " قال شنو ؟؟
. " كجل " .. قال ماشي .. السينما ..اا ".. , .ـ "
حينها فقط .. , تفرقعت الضحكات
والى ما لا نهاية .. .
تمــت ,,,
فتحي عبد العزيز محمد
الخرطــوم – حديقة أوزون
10 /1/2013م
Comments
Post a Comment