بمشاعر عاشق قديم للكتاب جلست أتابع الحفل الختامي لمسابقة تحدي القراءة العربي.. فضل لا ينسى للشيخ محمد بن راشد أن يجمع ملايين الشباب العربي في رحاب العلم والثقافة. وأن يأخذهم بعيداً عن ويلات الحروب وبشاعة الواقع في العديد من أنحاء الوطن العربي، إلى جمال المعرفة، وإلى معانقة الحرف العربي الباقي بإذن الله يضيء طريق الإنسانية حاملاً كتاب الله وأجمل إبداعات حضارتنا العربية.
أن يجتمع سبعة ملايين طالب في تحدي القراءة العربي إنجاز هائل في ظروف تطارد القراءة وتسد أمامها كل الطرق في عالمنا العربي.
وأن يتم إتاحة 200 مليون كتاب أمام الطلاب أمر يبعث الأمل في مستقبل عربي يحكمه العلم والمعرفة بعد ما قاسيناه في ظروف من نشروا الجهالة واحتقروا العقل واعتمدوا على بيع الخرافة وتزييف التاريخ وملء الفراغ الثقافي بفكر الخوارج ودعوات التعصب والكراهية.
كان التحدي في الحقيقة هو لكل ما هو قبيح في حياتنا.. فالقراءة هي الطريق للمعرفة، والمعرفة هي النور الذي يضيء للعقل طريقه والذي يطرد كل خفافيش الظلام، ويفتح أبواب المستقبل أمام العلم ويطلق كل ينابيع الإبداع لدى أجيال جديدة سيهديها العقل حتماً إلى أن الدين هو طريق المحبة والتسامح، وأن الوطن ليس حفنة من تراب عفن كما يردد خفافيش الإخوان بل نعمة الله علينا نحرسها ونفديها بالأرواح. أجيال ستهديها الكلمة الطيبة حتماً إلى طريق العلم والمعرفة، وتجمعهم على الخير والمحبة بين كل العرب من المحيط إلى الخليج الذي يحتضن عروبته في أجمل صورة ممكنة.. شباب من أمة «اقرأ» يمضي في طريق العمل، ليصنع المستقبل وينشر الخير والمعرفة.
أتابع نجوم تحدي القراءة من شبابنا الرائع، تعود بي الذكريات إلى سنوات بعيدة، هم أفضل منا بلا شك، فهم يواجهون ظروفاً أصعب، وهم أيضاً يملكون وسائل معرفة لم تكن لدينا، لكن العشق واحد، والحرف العربي كما هو، وحدائق المعرفة لا تبخل بعطرها الجميل على من يطلبه.
كان من حظي أن أكون من جيل تفتحت معاركه مع ثورة يوليو ومشروعها الكبير الذي احتل فيه التعليم مع الثقافة مكانة كبيرة، تعلمنا بالمجان، وقرأنا كل ما أتيح لنا، ووقعنا في عشق الكتاب مبكراً، وقبل أن ننتقل إلى الجامعة كنا قد عرفنا الطريق إلى طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، وبدأنا نطرق أبواب الشعر الحديث.
وكان الالتحاق بالجامعة يعني أن تحتضننا القاهرة وهي في أزهى حالاتها الثقافية طوفان من الإبداع في كل المجالات، مسرح الستينيات ينير ليالي المحروسة، جيل جديد يتفجر بالموهبة وتنفتح أمامه الأبواب لكي ينضم إلى العمالقة الذين كانوا يواصلون الإبداع، المطابع تخرج لنا كتاباً كل ساعتين والأسعار زهيدة، صعب أن تلحق حركة الثقافة في هذا الوقت. يوسف إدريس يقود ثورة القصة القصيرة، صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وحجازي يثرون الشعب العربي، زكي نجيب محمود والعالم وغيرهما يجددون الفكر ويثيرون المعارك، بينما الترجمة تتابع كل جديد في ثقافة العالم، ونحن نتنقل بين سور الأزبكية ومكتبات وسط القاهرة نلتقط ما نستطيع من هذا البحر الذي لا تهدأ أمواجه، وهي تحمل الأجمل والأحدث في عالم الفكر والإبداع.
بعد سنوات قدر لي أن أكون مسؤولاً عن «كتاب اليوم» الذي كان مصطفى أمين قد أصدره عن مؤسسة «أخبار اليوم» في الخمسينيات ثم توقف لسنوات، كانت الفكرة هي استغلال إمكانات «أخبار اليوم» الكبيرة في تقديم كتاب شعبي بسعر معقول ليصل إلى شريحة واسعة من القراء.
وكانت البداية بكتاب رحلات للكاتب الكبير الراحل أنيس منصور وهو «بلاد الله خلق الله»، أعددنا الكتاب للطبع ثم كان الخلاف على عدد النسخ التي نطبعها، كان رئيس مجلس الإدارة في هذا الوقت هو المفكر اللامع محمود أمين العالم، فعقد اجتماعاً طلبت فيه أن نطبع 70 ألف نسخة، وكان رد الفعل من مسؤولي التوزيع يعني أن هذا جنون! وبعد مناوشات طويلة توصلنا إلى اتفاق بطبع 30 ألف نسخة على أن نتعهد أنا والزميل مصطفى طيبة، رحمه الله، بأن ندفع الخسائر إذا لم يتم توزيع النسخ!
تم الطبع وطرحت نسخ الكتاب لتنفد في ساعتين، وعندما طلبنا المزيد من النسخ اكتشفنا أن المطبعة تخلصت من كل شيء له صلة بالكتاب! وكان علينا أن نعتذر للقراء، وأن نقدم الكمية الإضافية بعد 48 ساعة وأن نستمر في الطباعة والتوزيع حتى وصل عدد النسخ المباعة 160 ألف نسخة، وكان هذا حدثاً لم يتكرر في عالم الكتب، إلا في الكتاب الآخر الذي أصدرناه وكان للكاتب الكبير إحسان عبد القدوس وهو المجموعة القصصية «القضية نائمة في سيارة كاديلاك».
تمضي السنوات، وتتغير الأحوال، تراجعت القراءة وانكمش توزيع الكتب ليصبح بالمئات أو بآلاف قليلة في أحوال نادرة تتحالف الأوضاع الاقتصادية مع الوسائل الحديثة للتواصل لكي تصرف الشباب عن القراءة في الأوضاع الطبيعية فما بالنا بالظروف التي يمر بها الوطن العربي وويلات الدمار والتخريب والإرهاب التي تحاصر أمتنا.
ما زلت رغم مرور السنين قارئاً محترفاً وكاتباً هاوياً على حد قول كاتبنا ونقيبنا الراحل كامل زهيري. وما زلت أسعى نحو كل كتاب جديد تضمه مكتبتي كما لو كان الكتاب الأول الذي تصافحه عيوني بكل الدهشة والمحبة، وما زال ملمس الورق «في الصحيفة أو الكتاب» هو الأحب والأقرب للنفس.
لكن أجيالاً جديدة تحتاج لأن نأخذ بيدها لتدرك أن العلم هو طريقها للمستقبل، وأن نور المعرفة هو الذي سيقهر كل خفافيش الظلام. أن يجمع محمد بن راشد سبعة ملايين طالب عربي في حب القراءة وطلب العلم والمعرفة، هي رسالة للأمة العربية كلها بأنها قادرة على الإنجاز، وأن مستقبلها لن يكون بيد الخوارج بل بيد طلاب العلم والمعرفة، وهو رسالة للعلم كله بأن أمة «اقرأ» ستعود صانعة للحضارة، وأن جيلاً جديداً يتسلح بالعلم ويؤمن بأسمى القيم الإنسانية.. هو وحده القادر على أن يحفظ للعرب مكاناً في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء، ولا يعرف إلا العلم طريقاً لامتلاك القوة وبناء المستقبل.
المصدر البيان
Comments
Post a Comment