الشـــعر و الــجـمـــال: في حضرة الانسان، ســــــر اني كلويلجانق:
قبل عقود من الان، كتب واحد من اباطرة الادب الانقليزي التعريف التالي، الشعر تشمل، كل "فعل لغوي، تعمل على اجترار المعجزات باستخدام (الكلمة) اللغة"محاولا وضع تعريف للشعر في كتابة المعنون ب"كيف تقراء قصيدة". نسى او تناسى إدوارد هيريش كما يبدو، ان يُضمن النبؤة بجانب المعجزة في تعريفه الناقص بالضرورة. فالشعراء لا يجترون المعجزات فقط باستخدام اللغة، ولا يكتفون بخلق الجمال، بل يتعدى بعضهم الزمكان الفعلي و يحلقون في فضاءات المستقبل، مبشرين او محظرين بما ينتظر البشرية من جمال و قبح معا.
عرف عن دانتي اليغري، اعظم شعراء ايطاليا والبشرية، سجالاته الفكرية عن مهام الشعر والشعراء. يخبرنا اليغري صاحب (الكوميديا الالهية) ان الشعر وجُد ليعلم البشرية كيف يعيشون، يحاربون، والاهم كيف يموتون. ان ارتبط اليغري في الذاكرة البشرية بمعاداته للظلم والفساد،فلقد جادت لنا قلب القارة الافريقية، السودان بمعجزة اخرى لا يقل شاعرية و سموا عن دانتي.
سر اني كلويلجانق، 1943-1999 من اعظم شعراء السودان ]جنوب السودان [صحفي ملتزم، بميول إشتراكية واضحة في كتاباته. عاصر فترة السبعينيات في السودان، ابان إتفاقية اديس ابابا التي اوقفت الحربُ الاهلية السوادنية لعشر سنوات. ترأس كلويلجانق صحيفة "الارث" Heritage الانقليزية التي كانت تصدر باقليم بحر الغرال حينذاك، ومن ثم صحيفة مراءة النيل Nile Mirror بجوبا في الفترة مابين 1969-1985. كمعظم مناضلي الحرف، سُجن عدة مرات دون محاكمة بسبب مقالاته التي لا تهادن. عُرف عنه انشغاله بقضايا الهوية في السودان كمعظم انتلجنسيا السبيعنيات، بالاضافه لانحيازه الدائم للطبقات المقهورة. سر اني من المؤسسين الاوائل لاتحاد الكتاب السودانيين في ميلاده الاول. ونُشر لشعاره بمجلة "كرامة" التي كانت تصدر عن الاتحاد انذاك. مثل معظم مبدعي جنوب السودان، تعبان لو ليونق، سيرفينو ماتي، وغيرهم، باستثناء الدكتور: فرانسيس دينق الذي لاقى اهتماما متعاظما وترجم معظم اعماله للغة الضاد، لم يجد سر اني ما يستحقه من اهتمام، لسببين على ما اعتقد، طبيعة اشعاره المناهضة للظلم والقمع، بالاضافة لحاجز اللغة الانقليزية التي لا تجيدها الا القلة من الافندية الخرطوميين. وطالما شكلت غياب الترجمة، حاجز بين الكتاب الجنوسودانيين والمتلقين من السودان الكبير، مع ضرورة تثمين جهود المترجم الرفيع الاستاذ: على جادين رحمه الله في اثراء المكتبة السودانية بكتابات الجزء الجنوبي للسودان.
في مقدمة ديوان شعره اليتيم الموسوم ب"اسطورة الحرية واشعار اخرى"، نشرت لاول مرة عام 1979 عن مجلس الثقافة و الاعلام بالسلطة الاقليمية لجنوب السودان، قبل ان تصادر من قبل السلطات بعد نشرها مباشرة ولم يتوفر الديوان منذ ذلك الحين الا بعد صدور النسخة المنقحة بلندن، كتب كلويلجانق:
"كتبت هذي الاشعار لاعبر عن موقفي من القضايا العظيمة. نضالي ضد الشر الكوني، الظلم، الاضطهاد، التخلف، القبلية والعنصرية. هي محاولة بحث عن الدوافع الايدلوجية الكامنة خلف هذي الممارسات. كصحفي يدير صحيفة وطنية، كان لابد ان احدد موقفي، لذا اخترتُ الانضِمام لصفوف المُناضلين ضد هذي الشُرور". نادى اني بضرورة خوض حرب من نوع اخر سلاحها الحب. في قصيدة له بعنوان حـــــــرب الــحُــــــب كتب كليلجانق:
اها، اي حرب هذي؟!
عودة للايام الغابرة؟!
لما لا نهتم قليلا
في زمن السلم هذي؟
____
اهذي هي الحب؟
ما وقعنا من اجلها السلام؟
ما حوجتنا اذن لبوارج مليئة بالمؤن؟
لماذ تتاكل امتنا بسهولة؟
الم تروا
روح التغيير الناشئة في وطننا؟
____
اي حرب هذي؟
عودة للايام الغابرة؟!
اشعال حرب الكراهية،
بينما نحن احوج ما نكون
لاشعال حرب الحب.
بحس الصحافي و قدرات جبارة على تحليل الواقع و استشفاء المستقبل، تمكن سر اني من كتابة نصوص سابقة لزمانها، هذا مع حرصه على الاستعارة من كنز الحكمة الشعبية عبر استخدامه لرموز مستلهمة من التراث الشفهي في كتاباته و بعض الامثال الشعبية لقبيلة الدينكا في نصوصه. النبؤة في اعماله حاضرة في عدد من النصوص. حذر سر اني في النص ادناه، من انهيار اديس ابابا 1972. الاتفاقية التي مثلت المخرج من الحرب الاهلية الطويلة و المرهقة، و شهدت عهدها بوادر وحدة وطنية سودانية قبل ان تجهضها النميري لاحقا بقرارت منافية لروح الاتفاقية. و كان سر اني كتب هذي الابيات لجيل اليوم الذي يتجاذبه رياح القبلية و التعصب الاثني في تعمد فاضح لقلع بذرة القومية الجنوبية التي بداءت تتشكل مؤخرا.
فجاءة
غطى الجنوب سماء ضخم
مُرصع بالنُجوم
فتهياءت للرحلة
_____
جالـــســــــــــا
تحت سحابة عظيمة تحركها الرياح،
تشبه الذهب في بريقها الشاعري،
طليت
السماء بالسواد، على شعاع القمر المتلالاء
مثل شبحا طائر
انا الشاعر الغير مرئي، المُحلق في الهواء بمكانا ما
لم يكن هنالك سوى
رياح وغيوم تحولت فجاءة
الى طائرات حربية
_____
ضحكت،
فقط، على ايقاع كلمات رجلا
يكتبُ الشعر محلقا في الفضاء
يُحذر بالعاصفة القادمة
لاقتلاع الشتلات الناشئة
على تربة الوحدة الوطنية المرهفة
توفي الشاعر و الكاتب الصحفي سر اني كلويلجانق في شتاء 1999 بمدينة الضباب لندن، و دُفن بالعاصمة السودانية الخرطوم قبل ان يشهد تحقق نبؤاته، و يرى تحول الغيوم لطائرات حربية، الضحك للبكاء و الجمال لخراب عظيم.
ملحوظة:
* [حرب الحب – العاصفة القادمة] قصيدتين من ديوان "اسطورة الحرية واشعار اخرى" ترجمة بتصرف.
* نشر بملف ادنقو الثقافي اليوم.
* نشر بملف ادنقو الثقافي اليوم.
من فيس بوك حساب
Comments
Post a Comment