عثمان ميرغني: ما عذبتنا يا خي؟ (1-2)
د.عبد الله علي إبراهيم
نشرت هاتين الكلمتين عن محنة للصحفي المميز عثمان ميرغني عام 2000 و2001. ثم مرة أخرى في نحو 2008. وهما صالحتان الآن كما كانتا قبل نحو 10 سنوات. ما عذبتنا يا عثمان! هذا العذاب الذي يفتح صفحة غراء لمطلب حرية التعبير. العذاب الجميل. وذكرني دخول عثمان السجن دون دفع الغرامة بموقف سبق للأستاذ محمود محمد طه في 1946. طلب منه الإنجليز، لإثارته الكراهية للحكومة بمنشوراته، التوقيع على صك كفالة بخمسين جنيهاً والاقلاع عن اصدار المناشير لمدة عامين. فاختار السجن دون توقيع تعهد لاستثارة الناس ضد الإنجليز بعد أن خذلتهم منظمات الوقت السياسية: مؤتمر الخريجين، الأشقاء، حزب الأمة. وبالفعل وظف الجمهوريون سجن الأستاذ لغرض حدده ببلاغة وهو "نجرئ الناس على الحكومة". وهي حكاية رواها الأستاذ أمين المرضي في مذكراته بصورة نادرة. وأشكر الأستاذ عبد الله عثمان الذي وفر لي هذه لمذكرات القيمة. أراد عثمان ميرغني للزج بنفسه في السجن أن نجرؤ على الحكومة بصراع دقيق وعريض ومتصل لأجل حرية التعبير.
نشرت هاتين الكلمتين عن محنة للصحفي المميز عثمان ميرغني عام 2000 و2001. ثم مرة أخرى في نحو 2008. وهما صالحتان الآن كما كانتا قبل نحو 10 سنوات. ما عذبتنا يا عثمان! هذا العذاب الذي يفتح صفحة غراء لمطلب حرية التعبير. العذاب الجميل. وذكرني دخول عثمان السجن دون دفع الغرامة بموقف سبق للأستاذ محمود محمد طه في 1946. طلب منه الإنجليز، لإثارته الكراهية للحكومة بمنشوراته، التوقيع على صك كفالة بخمسين جنيهاً والاقلاع عن اصدار المناشير لمدة عامين. فاختار السجن دون توقيع تعهد لاستثارة الناس ضد الإنجليز بعد أن خذلتهم منظمات الوقت السياسية: مؤتمر الخريجين، الأشقاء، حزب الأمة. وبالفعل وظف الجمهوريون سجن الأستاذ لغرض حدده ببلاغة وهو "نجرئ الناس على الحكومة". وهي حكاية رواها الأستاذ أمين المرضي في مذكراته بصورة نادرة. وأشكر الأستاذ عبد الله عثمان الذي وفر لي هذه لمذكرات القيمة. أراد عثمان ميرغني للزج بنفسه في السجن أن نجرؤ على الحكومة بصراع دقيق وعريض ومتصل لأجل حرية التعبير.
بين عثمان ميرغني والمتنبئ
يمثل الأستاذ عثمان ميرغني الصحافي بالرأي العام، أمام قاضي جنايات شمال الخرطوم إثر عريضة اتهام مقدمة من نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة. والعريضة مرفوعة بالنيابة عن إدارة مكافحة الثراء الحرام بوزارة العدل التي تضررت من كلمة نشرها عثمان بالرأي العام (28/8/2000).
وبالطبع فاننا نترك للمحكمة الموقرة الحكم بشأن دقائق النزاع بين إدارة الثراء الحرام وعثمان، غير أن بوسعنا أن نسأل إن كانت هذه الإدارة قد استنفدت كل السبل المتاحة لها في أعراف دواوين الحكومة والصحافة لرد الاعتبار لنفسها قبل أن تلجأ للمحاكم. وقد رأيت وجوب هذا السؤال لاعتبارات كثيرة.
وأول هذه الاعتبارات أننا نجتاز فترة عصية خصيبة في تطورنا السياسي والثقافي تحاول فيه أفرع الدولة التنفيذية والتشريعية (المعطلة) والقضائية والسلطة الرابعة، الصحافة، تعريف وتبويب علاقتها ببعضها البعض في ظروف غاية في التعقيد مما لا يحتاج إلى وصف. غير أن أميز وجوه هذا التعقيد أننا نكاد نبدأ في تنمية هذه العلاقة من لا شيء. فخلال عهود متصلة من الاستبداد والاضطراب السياسيين لم توفق هذه السلطات في الحديث الدقيق الشفيف واحدها إلى الأخر بحيث يجري ترسيم الحدود، وتوليد الأعراف. ومع أن اللجوء للمحاكم داخل في حوار الحدود والأعراف هذا بين أفرع الدولة والصحافة إلا أنه مما يٌستَحسَن الإبطاء إليه حتى تستنفد أطراف النزاع كل سبيل آخر لفض النزاع بالحسنى والسوابق.
وعلى ضوء متابعتي من هنا لمجريات محاكمة عثمان أستطيع القول بغير صعوبة تذكر إن إدارة الثراء الحرام لم تطرق السبل السالكة إلى بيان حقائقها للناس مما تكفله أعراف الدواوين والصحافة قبل أن تدق باب المحكمة. فمفردات الاتهام الموجهة ضد عثمان (الرأي العام 17/9/2000) هي من باب التصويبات أو الشكوى من العبارة المستفزة. وهي متاعب تواجه كل مشتغل بالعمل العام وبخاصة إدارة كالثراء الحرام هي في مفاصل المال والمال الحرام بالذات. مثل هذه التصويبات، أو حتى الشكوى من فظاظة العبارة، مما تعالجه مكاتب العلاقات العامة بكفاءة شديدة مع الصحف التي يٌلزِمها العرف بنشر ما يردها من اعتراضات على معلوماتها أو أسلوبها.
فمن مفردات الاتهام الموجهة ضد عثمان أن تعويضات مشروع التاكسي التعاوني، موضوع نقد عثمان، بلغت 3 مليارات بينما هي 4 مليارات في دفتر إدارة الثراء الحرام. ومما أخذته الإدارة على عثمان أنه لم يذكر أن مشروع التاكسي شراكة وليس ملكاً لشخص واحد كما ورد عند عثمان. وكما قلت فهذه عندي تصويبات لأخطاء رقمية أو معلومة تقع فيها أوفى الصحف كفاءة وإمكانيات. فالنيويورك تايمز تخصص حيزاً كبيراَ من صفحتها الثانية لمراجعة أخطاء عدد اليوم الذي مضى. وبعض أخطاء النيويورك تايمز أفدح وأوجع من أخطاء عثمان المزعومة. فما يضر لو بعث مكتب العلاقات العامة بإدارة الثراء الحرام بخطاب للرأي العام يردها عن الخطأ ويلزمها بالأعراف طالما أن عثمان لم يكذب في أساس مآخذه على التاكسي التعاوني.
من الجهة الأخرى اشتكت إدارة الثراء الحرام للقضاء من ورود كلمة "همبول" في كلمة عثمان صفة لها لتفشي الفساد أمام ناظريها. وهذه مسألة متعلقة بأسلوب الصحافة عامة وكل صحفي على حدة. ففي تدريبنا في كتابة الصحفية ميل إلى المجاز وأحيانا المبالغة الكاريكاتيرية لنحمل القاريء على استبشاع ما نراه بشعاً أو تزيين ما نراه زيناً. وبعضنا أفضل من بعض في استخدام أساليب التمثيل والاستعارة وهلم جرا. ولنا أسوة بشيخنا المتنبيء الذي قال عن الثراء الحرام في مصر القديمة:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد
وضيق إدارة الثراء الحرام ب كلمة "همبول " مما يجد منا أذناً صاغية لو جاءنا في احتجاج من الإدارة. فنحن، كصحافة وأفراد، نأمل أن نتعلم في مسائل ضبط المعلومة وسداد العبارة من هذا الحوار مع الأجهزة التنفيذية وغيرها. وهو تعليم سينقطع إذا كنا نساق إلى المحاكم بعد كل خطأ هين أو عبارة مستفزة.
المأمول أن تكون المحاكم آخر مطافنا في الحوار المنشود بين الصحافة وأفرع الدولة المختلفة. فلن تقوم قائمة لثقافة الديمقراطية والصحافة إذا طرقنا أبواب المحاكم صباح مساء وقد هجرنا السبل السالكة إلى المؤاخذة، والأخذ والعطاء، واستنفاد أعراف النزاع وفض تخليط المعلومات. وإننا لنلتمس من الفريق البشير، بوصفه القائم على رأس الجهاز التنفيذي، أن يوجه قيادات هذا الجهاز إلى الصبر على النقد والمؤاخذة، والدعوة إلى مناهجها وإنجازاتها بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تستنفد كل سبل رد الاعتبار إلى نفسها قبل أن تبلغ القضاء. ومن الجهة الأخرى، نأمل أن ينهض المجلس القومي للصحافة بتبعة العلاقات العامة للصحافة مع أفرع الدولة ورجال المال والأعمال وسائر المواطنين بتنظيم سمنارات وغيرها ليقف الناس على أن الصحافة ربما كانت هي السلطة الوحيدة التي تفرح، بمقتضى أعرافها، بالمؤاخذة وتفتح صدر صفحاتها بنشرها نشرا ملزما.
وإننا لنلتمس أخيرا من زملائنا بإدارة الثراء الحرام سحب القضية المرفوعة بحق زميلنا عثمان ميرغني الذي شق قلمه المجرد طريقا مبتكرا في الحرص على المال العام مما ظننا أنه يسعد إدارة الثراء الحرام.
يمثل الأستاذ عثمان ميرغني الصحافي بالرأي العام، أمام قاضي جنايات شمال الخرطوم إثر عريضة اتهام مقدمة من نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة. والعريضة مرفوعة بالنيابة عن إدارة مكافحة الثراء الحرام بوزارة العدل التي تضررت من كلمة نشرها عثمان بالرأي العام (28/8/2000).
وبالطبع فاننا نترك للمحكمة الموقرة الحكم بشأن دقائق النزاع بين إدارة الثراء الحرام وعثمان، غير أن بوسعنا أن نسأل إن كانت هذه الإدارة قد استنفدت كل السبل المتاحة لها في أعراف دواوين الحكومة والصحافة لرد الاعتبار لنفسها قبل أن تلجأ للمحاكم. وقد رأيت وجوب هذا السؤال لاعتبارات كثيرة.
وأول هذه الاعتبارات أننا نجتاز فترة عصية خصيبة في تطورنا السياسي والثقافي تحاول فيه أفرع الدولة التنفيذية والتشريعية (المعطلة) والقضائية والسلطة الرابعة، الصحافة، تعريف وتبويب علاقتها ببعضها البعض في ظروف غاية في التعقيد مما لا يحتاج إلى وصف. غير أن أميز وجوه هذا التعقيد أننا نكاد نبدأ في تنمية هذه العلاقة من لا شيء. فخلال عهود متصلة من الاستبداد والاضطراب السياسيين لم توفق هذه السلطات في الحديث الدقيق الشفيف واحدها إلى الأخر بحيث يجري ترسيم الحدود، وتوليد الأعراف. ومع أن اللجوء للمحاكم داخل في حوار الحدود والأعراف هذا بين أفرع الدولة والصحافة إلا أنه مما يٌستَحسَن الإبطاء إليه حتى تستنفد أطراف النزاع كل سبيل آخر لفض النزاع بالحسنى والسوابق.
وعلى ضوء متابعتي من هنا لمجريات محاكمة عثمان أستطيع القول بغير صعوبة تذكر إن إدارة الثراء الحرام لم تطرق السبل السالكة إلى بيان حقائقها للناس مما تكفله أعراف الدواوين والصحافة قبل أن تدق باب المحكمة. فمفردات الاتهام الموجهة ضد عثمان (الرأي العام 17/9/2000) هي من باب التصويبات أو الشكوى من العبارة المستفزة. وهي متاعب تواجه كل مشتغل بالعمل العام وبخاصة إدارة كالثراء الحرام هي في مفاصل المال والمال الحرام بالذات. مثل هذه التصويبات، أو حتى الشكوى من فظاظة العبارة، مما تعالجه مكاتب العلاقات العامة بكفاءة شديدة مع الصحف التي يٌلزِمها العرف بنشر ما يردها من اعتراضات على معلوماتها أو أسلوبها.
فمن مفردات الاتهام الموجهة ضد عثمان أن تعويضات مشروع التاكسي التعاوني، موضوع نقد عثمان، بلغت 3 مليارات بينما هي 4 مليارات في دفتر إدارة الثراء الحرام. ومما أخذته الإدارة على عثمان أنه لم يذكر أن مشروع التاكسي شراكة وليس ملكاً لشخص واحد كما ورد عند عثمان. وكما قلت فهذه عندي تصويبات لأخطاء رقمية أو معلومة تقع فيها أوفى الصحف كفاءة وإمكانيات. فالنيويورك تايمز تخصص حيزاً كبيراَ من صفحتها الثانية لمراجعة أخطاء عدد اليوم الذي مضى. وبعض أخطاء النيويورك تايمز أفدح وأوجع من أخطاء عثمان المزعومة. فما يضر لو بعث مكتب العلاقات العامة بإدارة الثراء الحرام بخطاب للرأي العام يردها عن الخطأ ويلزمها بالأعراف طالما أن عثمان لم يكذب في أساس مآخذه على التاكسي التعاوني.
من الجهة الأخرى اشتكت إدارة الثراء الحرام للقضاء من ورود كلمة "همبول" في كلمة عثمان صفة لها لتفشي الفساد أمام ناظريها. وهذه مسألة متعلقة بأسلوب الصحافة عامة وكل صحفي على حدة. ففي تدريبنا في كتابة الصحفية ميل إلى المجاز وأحيانا المبالغة الكاريكاتيرية لنحمل القاريء على استبشاع ما نراه بشعاً أو تزيين ما نراه زيناً. وبعضنا أفضل من بعض في استخدام أساليب التمثيل والاستعارة وهلم جرا. ولنا أسوة بشيخنا المتنبيء الذي قال عن الثراء الحرام في مصر القديمة:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها وقد بشمن وما تفنى العناقيد
وضيق إدارة الثراء الحرام ب كلمة "همبول " مما يجد منا أذناً صاغية لو جاءنا في احتجاج من الإدارة. فنحن، كصحافة وأفراد، نأمل أن نتعلم في مسائل ضبط المعلومة وسداد العبارة من هذا الحوار مع الأجهزة التنفيذية وغيرها. وهو تعليم سينقطع إذا كنا نساق إلى المحاكم بعد كل خطأ هين أو عبارة مستفزة.
المأمول أن تكون المحاكم آخر مطافنا في الحوار المنشود بين الصحافة وأفرع الدولة المختلفة. فلن تقوم قائمة لثقافة الديمقراطية والصحافة إذا طرقنا أبواب المحاكم صباح مساء وقد هجرنا السبل السالكة إلى المؤاخذة، والأخذ والعطاء، واستنفاد أعراف النزاع وفض تخليط المعلومات. وإننا لنلتمس من الفريق البشير، بوصفه القائم على رأس الجهاز التنفيذي، أن يوجه قيادات هذا الجهاز إلى الصبر على النقد والمؤاخذة، والدعوة إلى مناهجها وإنجازاتها بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن تستنفد كل سبل رد الاعتبار إلى نفسها قبل أن تبلغ القضاء. ومن الجهة الأخرى، نأمل أن ينهض المجلس القومي للصحافة بتبعة العلاقات العامة للصحافة مع أفرع الدولة ورجال المال والأعمال وسائر المواطنين بتنظيم سمنارات وغيرها ليقف الناس على أن الصحافة ربما كانت هي السلطة الوحيدة التي تفرح، بمقتضى أعرافها، بالمؤاخذة وتفتح صدر صفحاتها بنشرها نشرا ملزما.
وإننا لنلتمس أخيرا من زملائنا بإدارة الثراء الحرام سحب القضية المرفوعة بحق زميلنا عثمان ميرغني الذي شق قلمه المجرد طريقا مبتكرا في الحرص على المال العام مما ظننا أنه يسعد إدارة الثراء الحرام.
Comments
Post a Comment