Skip to main content

د. النور حمد -------------- التحدي القائم:

ربما تحتوي الصورة على: ‏‏شخص واحد‏، و‏‏‏نظارة‏ و‏نظارة شمسية‏‏‏‏
المثقف وتحديات الإصلاح الديني .. "٣"
 التحدي القائم:
يقف هذا الفضاء العربي اليوم على مفترق الطرق: فإما أن يجترح نموذجه الحداثي المتجذر في تراثه بحيث يتضمن مكوِّنًا روحانيًا، ذا سماتٍ "بعد حداثية"، يتمحور بصورة جوهرية حول فكرة "العدالة"، وحكم القانون، وحول روح "الجماعية"، وإما أن يركن لخطاب الإسلامي السياسي التعبوي، فتصبح الدول المقامة على نسقه كواكب تدور في فلك الرأسمالية الغربية المعولمة، ويصبح الإسلام مجرد بطاقة ملصقة على الجباه، بلا تأثير إيجابي يذكر على الواقع. فالسمات الجوهرية للروحانية الكونية، التي تمثل الروحانية الإسلامية واحدة من دعاماتها الكبرى، تمثل نقيضًا رئيسًا لسِمَتَيْ احتكار القلة القليلة، للسلطة والثروة، التي انتهى إليها نموذج الحداثة الغربي، رغم إنجازاته الأخرى الضخمة. فنموذج الحداثة الغربية انتهى إلى تعميق نزعة الفردانية المفرطة، وتقطيع القوى المجتمعية إلى جزر، ما مكن الرأسمالية من أن تحكم السيطرة على القوى المجتمعية، وخلق حالة من التناقص المتنامي في الاهتمام بالشأن العام وسط الجمهور، كما هو حادثٌ، وبوضوح شديد، في النموذج الأمريكي. وكل تلك عوامل تحول الديمقراطية إلى أداة لسيطرة القلة على الكثرة، بل وتعمل على تعطيل وعي الكثرة وتحويلها، في نهاية المطاف إلى قطيع مطيع، لا يأبه إلى أين يساق ولا إلى ما سيُفعل به.
الحديث عن الروحانية العربية 244، وارتباطها العضوي بفكرة العدل، وبالجماعية، ونفورها من تسلط الدولة، سمات أسماها هادي العلوي "اللقاحية". هذه السمات التي هي، في تقديري، سماتٌ إيجابية، تصبح وفقًا لرؤية ماكس فيبر سماتٌ سالبة. فماكس فيبر يرى أن النموذج الحداثي الرأسمالي الغربي، ما كان من الممكن أن يخرج من أي بنية ثقافية، أو تجربة تاريخية، أخرى، في العالم، غير بنية وتجربة النموذج الغربي. ولا اعتراض على هذا، لأن ذلك هو الذي جرى بالفعل، في الفضاء الغربي. يضاف إلى ذلك، لا يمكن لشخص مدرك، أن يتجاهل، او يقلل من شأن، الدور الضخم، الذي أداه النموذج الغربي للبشرية. لكن، تبقى مع ذلك، ضرورة للنظر النقدي، لما قاله فيبر، خاصة بعد مرور قرن عليه، وبعد أن وصل هذا النموذج الغربي، إلى وضعٍ أصبحت شواهد كثيرة، تقول إنه يتطلب نقلة برادايمية جديدة.
 من الأمور التي تشغل بال كاتب هذه الورقة، تمسك الجماهير العربية بتراثها الروحاني، رغم اتساع نطاق التحديث في حياة المجتمعات العربية. ومن يتأمل حقبة ما بعد الكلونيالية في الأقطار العربية، يلاحظ أنه كلما تباعد الزمن من الحقبة الاستعمارية، كلما ازداد تعلق الجماهير بالدين، وكلما قوي تأثيره على العملية السياسية. وقد دلت على هذا التعلق صناديق الاقتراع، حيثما جرت انتخابات حرة. هذه الظاهرة ينظر إليها قطاعٌ من المثقفين العرب بوصفها تراجعًا وارتدادًا عن مكتسبات الحداثة التي انجزها اليسار العروبي في فترة حكمه الشمولية التي جرت في العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين. وغالبًا ما ينتمي هذا القطاع من المثقفين إلى الفئة التي تنظر إلى الدين بوصفه ظاهرة ملازمة لطفولة العقل البشري. وأنه كلما تعلمت المجتمعات، وتغيرت علاقات الإنتاج فيها، واتسع وعيها، وازداد نضجها، كلما ابتعدت عن الدين. كما يعزيها آخرون، إلى استغلال بعض النخب السياسية للخطاب الديني، في العملية السياسية، في مجتمعات تسيطر عليها الأمية والعاطفة الدينية. ومع صحة المثال الثاني، جزئيًا، إلا أن كلا الرؤيتين لا يفسر الظاهرة تفسيرًا مكتملا. بل، لربما جاز القول، إن كلا التفسيرين يسيران، بقدر كبير، في وجهة عزاء الذات، إزاء فشل النخب المعلمنة، بمختلف درجات علمنتها، وتوجهاتها، في كسب ثقة الجماهير.
 كل الشواهد تقول إن الجماهير العربية، لا ترفض الحداثة. ويبدو، كما هو ظاهر أيضًا، أنها تريد أن تدخل إلى الحداثة منطلقةً من تراثها وتجربتها التاريخية، وخصائص إنسانها. ولذلك فإن ما يراه البعض تراجعًا، ربما لا يكون سوى محاولة للعودة إلى نقطة مفترق الطرق، حيث أخذت الحداثة العربية طريقًا غربيًا، إما ماركسيًا محرّفًا قليلاً، كما في تجربة حكم اليسار العروبي، وإما ليبراليًا طائفيًا، كما في تجربة الأحزاب التقليدية التي لم تعمر طويلا، بسبب خنق تجربتها التي تعرضت لها من قِبًل انقلابات اليسار العروبي العسكرية، التي جرت في عدد من البلدان العربية.
 ما تحاول هذه الورقة قوله، إن هناك منطقة وسطى لا تزال تحتاج الحفر. تقع هذه المنطقة بين منظورين: المنظور الأول، هو منظور العلمانيين، الذين يرون أن السير في إطار التجربة الغربية حتمي، ولا يفصل بين المجتمعات العربية، وبين تحقق الحداثة، في واقعهم، على النموذج الغربي، سوى عنصر الزمن. أما المنظور الثاني، فهو منظور الإسلاميين، الذين تنحو أكثريتهم، منحى شعبويًا، جعلهم منحصرين في تكتيكات استغلال العاطفة الدينية للجماهير، دون التفات إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني، ودون اهتمام بترفيع الوعي بمتطلبات التحديث، وضرورات التعايش، وقبول التنوع، وسط الجماهير. فهم يريدون أصوات الجماهير في صناديق الاقتراع، باسم الدين، وباسم "تحكيم الشريعة"، ولا يحفلون كثيرًا بمستوى وعي تلك الجماهير، ازداد أم نقص، أو أنها أصبحت مؤمنةً بالتنوع، والتعايش السلمي مع الآخر المختلف، ومؤمنة بالمساواة في الحقوق بين الفئات المختلفة، أم لم تصبح. فالذين يتحدثون منهم عن تحكيم الشريعة، وما أكثرهم، لا يحفلون أصلا بقضايا التنوع. فهم يرون أن على هذا الفضاء العريض أن يلبس جلبابًا واحدًا، كان على ربك حتمًا مقضيا. وهذا مدخلٌ للنهضة والتحديث شديد الالتباس، جم الخطر. تتلخص الإشكالية في تقديري في هجر المثقفين لنطاق الدين؛ إما اعتقادًا بأنه ظاهرة منقرضة، كما ظنت الحداثة في بداياتها، وكما رسخت ذلك الاعتقاد الماركسية لاحقًا، وإما أنهم يهابون تبعات الخوض في هذا النطاق، خوف سيف التكفير المسلط على الرقاب.
تطرف الشباب المسلم:
من الظواهر الملفتة التي حدثت مؤخرًا، وتستحق الدراسة المعمقة، ظاهرة انبهار الشباب المسلم، الذي نشأ في الغرب، وتلقى تعليمًا جامعيًا في أرقى المؤسسات التعليمية الغربية، بالجماعات الإسلامية المتطرفة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وحرصهم على الانخراط في القتال في صفوفها. هذه الهجرة، من الدول الأوروبية، بهذه الأعداد الملفتة، والانجذاب إلى العنف، والاستعداد لإتيان أفعال موغلة في البربرية، وصادمة للحس الانساني السليم، مسألة تستحق الدراسة المعمقة. هذه الظاهرة ليست معزولة، كما يظن البعض، فهي قد بلغت حدًا أضحت به هاجسًا مقلقًا للسلطات في بلدان غربية مثل إنجلترا، وفرنسا، وغيرها. فلقد أظهرت قدرة مخيفة على إعادة رسم الخرائط الجيوبوليتيكية، ما أزعج القوى الإقليمية والدولية ودفع بها إلى تكثيف الجهود الحربية ضدها. وهي جهود وإن حدت من الأخطار المباشرة للظاهرة، إلا أنها لن تصل إلى جذرها، ولن تخلق ما يعود ابتعاثها، مرة أخرى، وربما حجم وطاقة أكبر. هذه الظاهرة الجهادية التي بدأت في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، واتخذت طورًا أكبر في تنظيم القاعدة، ثم طورًا أكثر حجمًا، وقدرة، وشراسة، في تنظيم الدولة الإسلامية، وفي تنظيم بوكو حرام، بلغت أن احتلت من الأراضي في سوريا والعراق واليمن ونيجريا وليبيا ومالي، ما يوازي مساحات دول بأكملها.
 أن يكون الشباب المتعلم، بما في ذلك التعليم في الغرب، هم من يمثل ثقل هذه الظاهرة، مسألة ينبغي أن تهز التصورات وسط المثقفين العرب، مثلما هزت ثورة الشباب في فرنسا، المثقفين اليساريين، وأربكت حساباتهم، وعلى رأسهم، جان بول سارتر، الذي، جعله هول المفاجأة، يقول: إن المثقف في طريقه إلى الاختفاء، وأن التفكير نيابة عن الآخرين، سخفٌ يبطل فكرة المثقف ذاتها. وقد ردّد ميشيل فوكو لاحقًا، نفس تلك الأقوال التي قال بها سارتر 25. فلو أصبحت الظواهر تفاجئ النخب المثقفة من أكاديميين مفكرين وعلماء، فإن دور المثقف سوف يصبح دورًا شكليًا تابعًا، يفسر الواقع الذي تشكل، أكثر مما يرسم صورة الواقع الذي ينبغي أن يتشكل.
 بطبيعة الحال، هناك اختلاف كبير بين ثورة الشباب في فرنسا وبين ارتماء بعض الشباب المسلم في حضن تنظيم الدولة الإسلامية، من حيث الأفق المعرفي، وطبيعة القضية المرفوعة، والتطلعات المرتبطة بها. ومع ذلك، تبقى ظاهرة الشباب المسلم الذي يجتذبه تنظيم الدولة الإسلامية، في نظري تحديًا شديد الخطورة. فهي خليط من الدوافع الدينية الغامضة، ونزعة التحطيم، والتشوه النفسي. ولربما تسفر الحضارة الراهنة بنزعتها الاستهلاكية وتشيئها للإنسان، وانتاجها من آلات القتل والدمار أضعاف ما تنتج من آلات الإعمار، وبثها اليأس في النفوس، من إمكانية تحقق حالة إنسانية أفضل، إلى ظهور نمط جديد من الدوافع الفوضوية، الذي يتحول إلى قوى سياسية كبيرة ومؤثرة. ولذلك، ربما تعين علينا الانتباه إلى أن التنظير ربما يصبح، في بعض منعطفات التاريخ، ومسارعه، مجرد نشاطٍ عقلي باهت منعزل، خاصة حين تنبثق قوى الفعل على الأرض، خارج نطاق توقعات النخب المثقفة. ويحدث هذا، غالبًا، حين تلتصق النخب المثقفة بالحالة القائمة، وتصبح محبوسة في الأطر النظرية المرسومة والتوقعات السائدة، خاصة، حين تلتصق النخب، بقصد منها، أو بغير قصد، بالحالة القائمة، وبالسلطات الحارسة للحالة القائمة. إن كثيرًا من كوارث التاريخ كانت نتيجة لعجز النخب عن الإحساس بما يحسه سواد الجمهور. إن قضية الاتزان النفسي، وسط قوى الشباب، وهي القوى الأكثر حوية، وقدرة على الفعل، في أي مجتمع، تعود الآن لتصبح من جديد، قضية مركزية في المجتمعات العربية، خاصة في الشق الأكبر من المجتمعات العربية، وهو الشق الإسلامي.
اقتحام ساحة الدين معرفيًا:
نحن بحاجة إلى غربلة التراث العربي بكل مكوناته، وفق منهج توليفي يتخذ أسلوب الـ synthesis لملاقحة خير ما في تراثنا مع الفكر الإنساني المعاصر سيرًا، نحو إقامة "دولة روحانية"، يكون جهازها الإداري محايدًا تجاه الأديان، ومستوعبًا لقيمها الأخلاقية العليا التي لا تناقض فكرة الدستور المعاصرة، وحقوق الأفراد الأساسية، كحرية الضمير، وحرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية التنظيم. وفي نفس الوقت، تستخلص التراث الروحاني الإسلامي، وقيم التكافل والتراحم التي عُرفت بها مجتمعات ما قبل الحداثة، لتكون قضايا العدل، والمساواة، والحرية، قضايا مركزية، يتمحور حولها كل من التشريع والممارسة. ولابد من الإشارة هنا، إلى أن قضايا الحرية، والعدل والمساواة، التي عالجتها أفكار وممارسات حقبة الحداثة الغربية عبر القرون الأخيرة لم تنته إلى نتائجها المرجوة، بل قادت، باسم الحكم الديمقراطي، إلى احتكار للسلطة والثروة، في أيدي قلة قليلة جدًا. ولذلك، فإن في وسع من لم يغولوا في السير في خطى التجربة الغربية، حذو النعل بالنعل، فرصة أن يجترحوا طريقا جديدا به يكتسبون التحديث عن طريق توطينه وتجذير قيمه في بناهم الثقافية، من غير أن يسيروا في ذات الدرب المسدود الذي سارت فيه التجربة الغربية.
تعرض البعد الروحاني في مركب الحضارة الإسلامية، لتهميش مزدوج. فهو قد تعرض، في السياق الإسلامي، تحديدًا، إلى التهميش، بسبب التباعد المتنامي بين الفقهاء، وبين روح الدين، ومصالح الجماهير، واقتراب هؤلاء الفقهاء من السلطة الزمنية. فالروحانية الأولى، التي تجسدت في البساطة، والنزاهة، والحرص على العدل، مما كان ظاهرًا في حياة النبي، وأكابر صحابته، في فجر الدعوة، وعبر العقود الأولى من دولة المدينة، سرعان ما تباعدت عنها الممارسة. انكمشت تمثُّلات العدالة الاجتماعية للروحانية، في نظام الحكم، على بساطتها آنذاك، وأضحت منحصرة، إلى حدٍ كبير، في الجيوب المنعزلة التي صنعها المتصوفة، وتحولت إلى "غيتوهات" متَّهَمةً دومًا بإثارة الجمهور ضد السلطة الحاكمة. ولذلك كان كثير من ضحايا عسف السلطات، وتجاوزاتها، عبر التاريخ الإسلامي، من المتصوفة.
لا أود أن أبدو هنا، كمن يحصر الروحانية العربية، في شقها الإسلامي وحده، كما سبق أن أشرت. فالثقافة العربية ثقافة مركبة، تحوي عناصر أخرى غير اسلامية، فيها اليهودي والمسيحي وما سبق ديانات التوحيد في وادي النيل والهلال الخصيب، وغيرها من مراكز الحضارات القديمة. كل ما الأمر، أنني استخدمت ما جرى في السياق الإسلامي، مجرد مثال، لا أكثر، بسبب الهيمنة الإسلامية التاريخية على المنطقة العربية. فالأمر، في جملته وأبعاده المتشابكة، ليس حصرًا على الروحانية الإسلامية، وحدها. فما جرى للروحانية الإسلامية، ولجوهر الفكرة الإسلامية المتمحورة حول "العدالة"، من إزاحة تدريجية، حتى أوشكت أن تصبح أثرًا بعد عين، جرى أيضًا للروحانية المسيحية، وجرى قبلهما للروحانية اليهودية، ولما سبقهما من روحانيات. ولقد أشار إلى ما جرى للمسيحية، وللإسلام، من إفراغ من محتواهما الروحاني، أعني محتوى العدالة، روجيه غارودي، حين كتب:
المشكلات الاقتصادية والسياسية، تستند، في نهاية الأمر، إلى مشكلة الغائية؛ أي إلى مشكلة دينية. فلِمَ لَم تستجبْ إلى ذلك الديانات المؤسسية؟ لا الكنيسة المسيطِرة لدى المسَيطِرين؛ الكنيسة الكاثوليكية؛ ولا الدين المسيطِر لدى المُسَيْطَـر عليهم؛ الإسلام؟ لأن كلا منهما قد تحالف مع السلطة والثروة. ولم يضع مسلماتها موضع الاتهام. ولأن كلا منهما أفرز منذ قرون "لاهوت السيطرة" مقدما الله كقوة خارجية وعليا تخلق الإنسان والعالم والملوك الذين يديرون شؤون الناس، دفعة واحدة وإلى الأبد. كل سلطة قد رتبها الله. "ومن يقاوم السلطان فإنما يعاند ترتيب الله"؛ هذا ما كتبه القديس بولس بعد بضع سنوات من موت يسوع المسيح، الذي كانت حياته كلها اتهامًا للنظام القائم. كذلك الأمر بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بسنوات قلائل، عندما استخدم الأمويون السلطة والثروة، وأساءوا استخدامها؛ وعندما احتج المسلمون الأتقياء الذي عاشوا حياة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، على العبث بالرسالة، أجابتهم السلطة: إن كان هذا أميركم فلأن الله قد أراده، وعليكم طاعته 26.
يمكن القول، بصورة مجملة، تحتمل الاستثناءات، إن النبوة، في سائر التقاليد الإبراهيمية، قد كانت نقيضًا للسلطة القائمة. كما يمكن القول، أيضًا، أن الروحانية العربية المتجذرة في التراث، ثلاثي الأضلاع؛ اليهودي، والمسيحي، والإسلامي، لم تكن في جوهرها مجرد جسرٍ لربط الناس بالغيب. وإنما اتخذت، إلى حدٍ كبير، الصلة بالغيب، وسيلةً لإصلاح أحوال الناس، وتخليصهم من الظلم، بما كان يسمح به الظرف القائم، عبر تاريخ هذه السياقات الثلاثة. واجه النبي إبراهيم، عليه السلام، الحرق من جانب النمرود بن كنعان، وواجه عيسى عليه السلام الصلب من قبل الكهنوت اليهودي، والسلطات الرومانية، وواجه محمد، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، مؤامرات وعنف أصحاب السلطة والثروة، مالكي الرقيق، من القرشيين.
فهم أقطاب المتصوفة المسلمون هذا الجوهر، فارتبطت لديهم، الروحانية وتمثلاتها، في بساطة العيش، والزهادة، والنزاهة، ربطًا عضويًا، مع العناية بشؤون الناس وتخفيف الظلم، وتحقيق العدالة. فالمتصوفة يسترشدون بالحديث القائل: "الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله". ورغم أن الصراع بين اقطاب التصوف، من جهة، والحكام والفقهاء الساندين لهم، من جهة أخرى، قد استمر عبر الحقبة السابقة للحداثة، تمثلات التي حكمتها طبيعة دولة المدينة في عقودها الأولى، بعدًا مهمشًا وهو جانبٌ أحسب أنه، مهمَّشٌ بقدرٍ كبير، أو مُبتعدٌ عنه، عن قصدٍ حينًا، بسبب الإشكالات التي تكتنفه، ومنها إشكال الدين والدولة، وضرورة الفصل بينهما، وهو أمرٌ أسست له حقبة الحداثة في الغرب، وثبتته. أو، مُبتعدٌ عنه، حينًا آخر، بسبب عدم توفر الوعي الكافي بأهميته. الشاهد هنا، أن البعد الروحاني ظل بعدًا مُتجاهَلاً من قطاعٍ معتبرٍ من المثقفين العرب. فالفضاء العربي، كما هو معلوم، كان مهدًا لثلاثٍ من أهم ديانات العالم، هي اليهودية والمسيحية والإسلام. تفرعت هذه الديانات الثلاث من الشجرة الإبراهيمية. ولا غرابة إذًا، أن كان هناك كثيرٌ من التطابق في رؤيتها، بل وفي نصوصها. فهي تتشارك السمات الأخلاقية الجوهرية التي لا غنىً عنها في أي مشروعٍ للنهضة والتحديث في السياق العربي؛ وهذا هو ما يمثل البعد الروحاني المُهمَل في بنية المثقفية العربية. ومما يميز الذات العربية التاريخية، في الألفية والنصف المنقضية، على الأقل، هو بعدها الروحاني المندغم في بنيتها الفكرية. فالروحانية والمعرفة مرتبطتان بنيويًا في السياق العربي التاريخي. وهو بعد لا تستطيع المثقفية العربية تجاهله، ثم تظل، في ذات الوقت، حالمة بالاضطلاع بدور فعال يستجيب لتحديات النهضة المطلوبة.
هذا الارتباط البنيوي بين الروحانية العربية والمعرفة، لم تنفصم عراه إلا وسط النخب المثقفة، خاصة عقب الهجمة الاستعمارية. نعم، لقد وقف أغلبية علماء الدين في تاريخنا إلى جانب السلطة ضد الجمهور، غير أن المكون الروحاني كان حاضرًا بقدر من المقادير. فالإطار المرجعي، الديني، الأخلاقي، كان واحدًا تقريبًا، حتى وقتٍ قريب.
الانفصام الذي حدث نتيجة لحقب التراجع الإسلامية ونتيجة للاحتكاك بالغرب، اتخذ في صوره الغالبة، منحىً "لا إيمانيًا"، اتسمت به النخب المثقفة، دون غيرها. واللحمة بين الروحانية والمعرفة، رغم أنها ضرورية في حد ذاتها، من أجل تحقيق الانسجام بين الذات البشرية وبنية الكون، وفق ما يرى مفكرو ما بعد الحداثة، إلا أن أهميتها في السياق الذي أعنيه، هو ارتباطها عضويًا بفكرة العدل. ففكرة العدل هي الفكرة المركزية، التي تأخذ بها الروحانية، تجسيدها العملي في المجتمع. فالانفلات من أسر الذات، والأنا، والبقاء في مضمار التضامن، والتعاضد مع الآخر، هو جوهر الفكرة الدينية في مختلف تمثلاتها. هذا في حين بررت العلموية الغربية، لابسة ثوب العقلانية، للفردانية المفرطة، والتشظي المجتمعي، وهذا هو ما قتل الضمير الجمعي تدريجيًا عبر حقبة الحداثة، وباعد بين الأفراد، وفرّقهم، واستدام، من ثم، سيطرة القابضين على مفاصل السلطة والثروة، خاصة في السياق الغربي. فالروحانية التي أعني ليست اهتيامًا طفوليًا بالغيب، وبغموض الظاهرة الوجودية، ولا انفعالا استاطيقيًا بالظاهرة الوجودية، ولا هي انصراف عن التصدي للمشاكل القائمة، وإنما هي أكبر وأعمق من كل أولئك. فالروحانية هي المعرفة العقلية والشعورية العميقة بالمعنى، التي منها يجيء تنغيم علاقة الأنا بالآخر، وعلاقة الأنا والآخر بالمحيط الطبيعي، ليتحقق الأمن والسلام والطمأنينة، التي ما انفك البشر ينشدونهما وهم يتعرفون على مكانيزمات الناموس الكوني في إطار منظومة الغائية المتمحورة حول هدف تحقيق السلام المستدام.
تكوين الذات العربية له شخصيته الحضارية المتميزة، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الشرق الأوسط هو مهد الديانات الكتابية الثلاث. وحين سيطرت المسيحية على الفضاء الأوروبي، لم تسيطر عليه في صيغتها التي جسدتها حياة السيد المسيح، وإنما بعد أن جرى تفريغها من محتواها الإنساني، والثوري، كما يقول غارودي، وجرى تحويلها إلى مؤسسةٍ خاضعةٍ للإمبراطورية الرومانية. وهو الوضع الذي تحدر منه عبر التاريخ الأوروبي الوسيط، اتحاد الدين والسلطة الزمنية، إلى أن تم فصلهما عن بعضهما، في مطلع العصر الحديث 27.
اشتبك فصل الدين عن السلطة الزمنية لاحقًا مع تبلور بارادايم الحداثة، الذي ظن أهله أن فكرة العدل يمكن أن تتحقق بمعزل عن الروحانية. وهو ما انتهى ببارادايم الحداثة إلى سيرورة اتسمت بإعادة انتاج المظالم، باضطراد، بل ونشرها على مستوى الكوكب كله. فخلاصة بارادايم الحداثة الذي بدأ بالثورة على الملكية وعلى الإقطاع، وانخرط في ممارسة الديمقراطية التعددية لقرون، انتهى عمليًا إلى تركيز السلطة والثروة في أيدي شرائح مجتمعية بالغة الصغر، ما لبثت أن خلقت لها وكلاء في سائر أرجاء الكوكب. أما الحاضنتين الروحانيتين الكبيرتين؛ المسيحية والإسلام، فتحولتا من الروحانية الكونية، والنماذج النبوية، التي بشرت وعاشت فكرة العدل، إلى لاهوتٍ للسيطرة، بعد أن كانا، في مبدئهما، لاهوتًا للتحرير.
استيقظت المثقفية العربية المعاصرة، حين استيقظت بعد فترة سبات طويلة، لتجد نفسها ملتفة على نفسها داخل الحضن الغربي، عند نهايات الحقبة الاستعمارية. لذلك، لم يكن لها فكاك من أن تعتمر خوذة الغرب الفكرية والأخلاقيةً، لتعالج بها قضايا واقعها المختلف بنيويًا، عن الواقع التاريخي للغرب. وبحكم اغتراب المثقفين العرب، خاصةً العلمانيين منهم، عن واقعهم المتشبع بالعاطفة الدينية العميقة، إضافة إلى يفاعة المثقفية العربية الحديثة ومعاناتها تهميشا مركبًا، أصبحت هذه المثقفية، في شقها العلماني المستغرب، معزولة عن الجمهور. وقد أضاف كثير من المثقفين مزيدا من العزلة عن الجماهير بالالتصاق بالسلطات العربية الاستبدادية المعادية، بطبيعتها، للجماهير ومصالحها. عاشت المثقفية العربية هذا الوضع الهامشي عبر عقود سيطرة الأنظمة الشمولية العروبية اليساروية. وحين أخذت الأحوال في التبدل، وتدهورت أحوال الأنظمة الشمولية العربية، وتضعضعت رؤى اليسار، وعاد الغرب، في الصيغة الأمريكية، ليطبق على المنطقة من جديد، كانت مثقفية الإسلام السياسي الصاعدة قد ملأت الفراغ، أو كادت.
............................................
24 اخترت تعبير "الروحانية العربية" بديلا لتعبير "الروحانية الإسلامية" لأن للروحانية العربية مكون مسيحي ويهودي هما أقدم تاريخيا من المكون الإسلامي. كما أن هناك مكون أرواحي pagan، في يقع في التخوم العربية، كما في السودان وموريتانيا.
25 علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، (ط 3)، مركز دراسات الوحدة العربية، 2011، ص 249.
26 روجيه غارودي، نحو حرب دينية؟ جدل العصر، ترجمة صياح الجهيم، دار عطية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1997، ص، 14-15.
27 غارودي، المصدر السابق، نفسه.

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil...

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن...

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m ...