المثقف وتحديات الإصلاح الديني .. "٢"
الغرب وعقلنة الدين
:
انسحاب المثقفين العرب من ساحة الدين، جعل الساحة الدينية، خاصة الإسلامية، قليلة التأثر بالعقلنة، وذلك على خلاف ما جرى في الغرب. ففي الغرب أدى إدخال العلوم الطبيعية إلى الجامعات إلى إثراء النظر في الدين، وإلى انخراط الأكاديميين، والمفكرين والمثقفين في مناقشة قضية الدين، وهم مصطحبين حصيلة علمية أثّرت على النظر إلى الظواهر14. لقد تداخل اللاهوت مع العلوم الطبيعية ومع الفلسفة في مؤسسات التدريس الغربية. ولذلك ظل مجال الدين يتغير من داخله، وظل وعي الأكاديميين والمفكرين والمثقفين وهم يديرون حوار الدين والعلم، يتغير، هو الآخر. وأهم من ذلك، ظل وعي عامة الجمهور بعلاقة الدين بالعلم يتغير أيضًا. ارتفعت كل تلك المجالات الثلاثة بصورة متساوقة، ما أسهم في إزالة حالة الاستقطاب والعدائية المفرطة، بين الدين والعلمانية، ليحل محلها، إلى حد كبير جدًا، التفاهم والحوار الموضوعي.
لو نظرنا إلى نهايات تلك السيرورة الغربية، وأعني هنا حالتها في حاضرنا القائم، في بلاد غربية، كالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، لوجدنا أن هناك تعيشًا بين الدين والعلمانية، في إطار الإقرار بأن الدولة جهاز إداري لا يتبنى وجهة نظر دينية بعينها. غير أن الرؤى الدينية، والمنظور الديني، والمنظومة القيمية الدينية، التي تختلف بين جماعة وجماعة، وفرد وآخر، لا تزال تغذي الجدل المستمر بين المرتكز الفكري الديني، والمرتكز الفكري العلماني الذي يقف وراء فلسفة وأخلاقية التشريعات التي تمس حياة الناس اليومية. والمهم هنا، أن هذا الجدل يجري باحترامٍ كامل لقواعد اللعبة الديمقراطية. ولذلك، فإننا نجد أن قضايا مثل قضايا الإجهاض، ومنع أداء الصلوات في المدارس، وارتداء الرموز الدينية بالنسبة للطلاب، وحقوق المثليين، وغيرها من القضايا الجدلية، لا تزال تمثل نقاط احتكاك ساخنة، متجددة، بين مرجعيتي الدين، من جهة، والتفكير العلماني، من جهة أخرى. بعبارة أخرى، هناك احتكاك شديد، بين معتنقي المفاهيم الدينية، الذين يرون أن الحريات الشخصية لها حدود، وبين العلمانيين وغيرهم الذين لا ينفكون يوسعون مجال الحريات الشخصية. غير أن الحوار، في كل تلك الأمور، يُدار، في الغالب الأعم، بحكمة وبعقلانية. يجري ذلك، حتى من جانب المتدينين المحافظين جدا. إذ ينعدم في هذه الاحتكاكات الشديدة، الاحتقان الشديد، والالتهاب، والعنف، مع استثناءات قليلة، تصدر من أفراد من المتطرفين الدينيين، في حوادث فردية معزولة، كمهاجمة عيادات الإجهاض، أو الاعتداء البدني على الأطباء الذين يجرون عمليات الاجهاض، أو على المثليين. وقد بلغت بعض تلك الاعتداءات درجة محاولات حرق العيادات واغتيال الأطباء الذين يمارسون اجهاض الحوامل.
الصراع في عموم الفضاء الغربي، بين ما ينبغي أن يكون عليه الدستور، وما ينبغي أن تكون عليه التشريعات، يُدار بعقلانية، وتجري فيه مجادلات، فكرية وقانونية، غنية ومثيرة جدًا للاهتمام، حتى من جانب اليمين المسيحي المتشدد. فالصراع في الغرب ليس بمجمله كيانًا "علمانيًا" أصمًا، نافرًا من الدين، أو متآمرًا على وقيمه، كما يجري تصوير ذلك وسط المسلمين من فئات إسلامية غارقة في التبسيط والاختزال. وإنما يوضح، أن الغرب، في حقيقته القائمة، مجالٌ مفتوح يصطرع فيه "الدين"، مع "العلمانية"، فكريًا، وكذلك إجرائيًا، من الناحية السياسية، عبر صناديق الاقتراع، بحرية واسعة جدًا. ولذلك فإن النظام الديمقراطي، يفتح لمن يريدون للتشريع أن يستند على القيم الدينية، والذين يريدونه أن يستند على القيم الليبرالية، أن يتنافسوا سلميًا على كسب تفويض الجمهور عن طريق الممارسة الديمقراطية. وتبقى الدولة حلبة محايدة يجري فيها هذا الصراع.
حالة التعايش بين النظرتين الدينية والعلمانية التي جسدتها التجربة الغربية، وإدارة الصراع سلميًا، من داخل بنية النظام الديمقراطي، لم يكن يمكن الوصول إليها لولا أن مثقفيه قد انخرطوا، منذ قرون طويلة، في قضايا التجديد الديني. لم يقف مثقفو الغرب على السياج، بزعم أن الإصلاح الديني مهمة تخصصية، منوطة حصرًا بمن يسمون "رجال الدين". هذا مع الإقرار بأن الإصلاح الديني في أوروبا، قد انبثق من داخل بنية الكنيسة نفسها. الشاهد، أن جهود المفكرين والفلاسفة وانخراطهم في الجدل الديني، شاملين الظاهرة الدينية نفسها، وتعاليم الدين، بالنظر العقلي، أدى إلى عقلنة المجال الديني، وروحنة المجال العقلي. لقد جرى ترفيع كبير للوعي الديني. كما جرى ترويض المجال الديني وتعويده على التعاطي مع الاحتكاكات المتجددة بين الدين والعلمانية، بعقلانية، وباحترامٍ، وإعمالٍ لحسن النية، إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، تراجع في الغرب العراك الحاد والعنيف، ونشأت بين الدين والعلمانية ما يمكن أن نسميها، حالة شبه مستدامة، هي أقرب ما تكون إلى التعايش، بل وإلى الاعتمادية المتبادلة.
يورد عبد الرازق الداوي رؤية ماكس فيبر لدور الحوافز الأخلاقية والدينية الفعال في سلوك البشر، وفي الحياة الاجتماعية للشعوب. فهو قد منح الأولوية للعوامل الثقافية والدينية، في التأثير على التحولات الاقتصادية والاجتماعية. فالثورة الرأسمالية في الغرب، كما يراها فيبر، كانت ثورة ثقافية في المقام الأول، استندت على الإصلاح اللوثري والكالفيني 15. أيضًا، يرى برهان غليون أن الجماعة كالفرد، فهي لا تستطيع أن تبادر وتعمل وتنهض بأداء أي عملٍ أو مشروعٍ، دون أن تعرف نفسها، وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة مميزة، وأن تدرك من هي، وأن تكون ذاتًا، أي إرادة 16. ويهمني تحديدًا، في نص برهان غليون، تأكيده على ضرورة أن تعي الجماعة التي تود النهوض: "شرعية وجودها كجماعة مميزة". ويؤكد فهمي جدعان، الذي اختار أن يحصر مبحث ورقته المنشورة عن العدالة في السياق العربي، على ضرورة الوعي بالذات، والانطلاق نحو التحديث من منطلق أصيل. ويدل على ذلك العنوان الذي اختاره لها، فهو يقرأ: "العدالة في حدود ديونطولوجيا عربية". وذكر جدعان، أن هذا الخيار انطوى، بالنسبة له، على "هاجس الدفاع عن هوية خاصة"، هي الهوية العربية. وذكر أنه إنما فعل ذلك حرصًا على تحرير المخيال والدماغ العربي من استبداد الفلسفات الأحادية، التي تنكر على "الثقافات الخاصة" تميزها، وفرادتها وجمالياتها، بل وعبقرياتها 17.
ظل الفضاء العربي، بكل مكوناته، يعاني، منذ أن دخل حقبة الحداثة، فترة مخاضٍ طويلة، سمتها الأساسية، التيه عن الذات، وعن الجذر الحضاري مع صعوبة في الإمساك بعناصر التحديث، الكامنة فيهما، وغيرها مما يميز ثقافتنا ويحدد مسارنا الخاص بنا. فثورة التحديث في الوطن العربي ينبغي أن تبدأ بثورة ثقافية هي الأخرى. ولكن، لن تكون هناك ثورة ثقافية ذات مردود، ما لم تلمس المجال الديني، وتجعل منه مجالا يسمح بالأخذ والرد، ويصبح قابلا للانفتاح على الفكر الحر وعلى النمو من داخله.
لو نظرنا إلى نهايات تلك السيرورة الغربية، وأعني هنا حالتها في حاضرنا القائم، في بلاد غربية، كالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، لوجدنا أن هناك تعيشًا بين الدين والعلمانية، في إطار الإقرار بأن الدولة جهاز إداري لا يتبنى وجهة نظر دينية بعينها. غير أن الرؤى الدينية، والمنظور الديني، والمنظومة القيمية الدينية، التي تختلف بين جماعة وجماعة، وفرد وآخر، لا تزال تغذي الجدل المستمر بين المرتكز الفكري الديني، والمرتكز الفكري العلماني الذي يقف وراء فلسفة وأخلاقية التشريعات التي تمس حياة الناس اليومية. والمهم هنا، أن هذا الجدل يجري باحترامٍ كامل لقواعد اللعبة الديمقراطية. ولذلك، فإننا نجد أن قضايا مثل قضايا الإجهاض، ومنع أداء الصلوات في المدارس، وارتداء الرموز الدينية بالنسبة للطلاب، وحقوق المثليين، وغيرها من القضايا الجدلية، لا تزال تمثل نقاط احتكاك ساخنة، متجددة، بين مرجعيتي الدين، من جهة، والتفكير العلماني، من جهة أخرى. بعبارة أخرى، هناك احتكاك شديد، بين معتنقي المفاهيم الدينية، الذين يرون أن الحريات الشخصية لها حدود، وبين العلمانيين وغيرهم الذين لا ينفكون يوسعون مجال الحريات الشخصية. غير أن الحوار، في كل تلك الأمور، يُدار، في الغالب الأعم، بحكمة وبعقلانية. يجري ذلك، حتى من جانب المتدينين المحافظين جدا. إذ ينعدم في هذه الاحتكاكات الشديدة، الاحتقان الشديد، والالتهاب، والعنف، مع استثناءات قليلة، تصدر من أفراد من المتطرفين الدينيين، في حوادث فردية معزولة، كمهاجمة عيادات الإجهاض، أو الاعتداء البدني على الأطباء الذين يجرون عمليات الاجهاض، أو على المثليين. وقد بلغت بعض تلك الاعتداءات درجة محاولات حرق العيادات واغتيال الأطباء الذين يمارسون اجهاض الحوامل.
الصراع في عموم الفضاء الغربي، بين ما ينبغي أن يكون عليه الدستور، وما ينبغي أن تكون عليه التشريعات، يُدار بعقلانية، وتجري فيه مجادلات، فكرية وقانونية، غنية ومثيرة جدًا للاهتمام، حتى من جانب اليمين المسيحي المتشدد. فالصراع في الغرب ليس بمجمله كيانًا "علمانيًا" أصمًا، نافرًا من الدين، أو متآمرًا على وقيمه، كما يجري تصوير ذلك وسط المسلمين من فئات إسلامية غارقة في التبسيط والاختزال. وإنما يوضح، أن الغرب، في حقيقته القائمة، مجالٌ مفتوح يصطرع فيه "الدين"، مع "العلمانية"، فكريًا، وكذلك إجرائيًا، من الناحية السياسية، عبر صناديق الاقتراع، بحرية واسعة جدًا. ولذلك فإن النظام الديمقراطي، يفتح لمن يريدون للتشريع أن يستند على القيم الدينية، والذين يريدونه أن يستند على القيم الليبرالية، أن يتنافسوا سلميًا على كسب تفويض الجمهور عن طريق الممارسة الديمقراطية. وتبقى الدولة حلبة محايدة يجري فيها هذا الصراع.
حالة التعايش بين النظرتين الدينية والعلمانية التي جسدتها التجربة الغربية، وإدارة الصراع سلميًا، من داخل بنية النظام الديمقراطي، لم يكن يمكن الوصول إليها لولا أن مثقفيه قد انخرطوا، منذ قرون طويلة، في قضايا التجديد الديني. لم يقف مثقفو الغرب على السياج، بزعم أن الإصلاح الديني مهمة تخصصية، منوطة حصرًا بمن يسمون "رجال الدين". هذا مع الإقرار بأن الإصلاح الديني في أوروبا، قد انبثق من داخل بنية الكنيسة نفسها. الشاهد، أن جهود المفكرين والفلاسفة وانخراطهم في الجدل الديني، شاملين الظاهرة الدينية نفسها، وتعاليم الدين، بالنظر العقلي، أدى إلى عقلنة المجال الديني، وروحنة المجال العقلي. لقد جرى ترفيع كبير للوعي الديني. كما جرى ترويض المجال الديني وتعويده على التعاطي مع الاحتكاكات المتجددة بين الدين والعلمانية، بعقلانية، وباحترامٍ، وإعمالٍ لحسن النية، إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، تراجع في الغرب العراك الحاد والعنيف، ونشأت بين الدين والعلمانية ما يمكن أن نسميها، حالة شبه مستدامة، هي أقرب ما تكون إلى التعايش، بل وإلى الاعتمادية المتبادلة.
يورد عبد الرازق الداوي رؤية ماكس فيبر لدور الحوافز الأخلاقية والدينية الفعال في سلوك البشر، وفي الحياة الاجتماعية للشعوب. فهو قد منح الأولوية للعوامل الثقافية والدينية، في التأثير على التحولات الاقتصادية والاجتماعية. فالثورة الرأسمالية في الغرب، كما يراها فيبر، كانت ثورة ثقافية في المقام الأول، استندت على الإصلاح اللوثري والكالفيني 15. أيضًا، يرى برهان غليون أن الجماعة كالفرد، فهي لا تستطيع أن تبادر وتعمل وتنهض بأداء أي عملٍ أو مشروعٍ، دون أن تعرف نفسها، وتحدد مكانها ودورها وشرعية وجودها كجماعة مميزة، وأن تدرك من هي، وأن تكون ذاتًا، أي إرادة 16. ويهمني تحديدًا، في نص برهان غليون، تأكيده على ضرورة أن تعي الجماعة التي تود النهوض: "شرعية وجودها كجماعة مميزة". ويؤكد فهمي جدعان، الذي اختار أن يحصر مبحث ورقته المنشورة عن العدالة في السياق العربي، على ضرورة الوعي بالذات، والانطلاق نحو التحديث من منطلق أصيل. ويدل على ذلك العنوان الذي اختاره لها، فهو يقرأ: "العدالة في حدود ديونطولوجيا عربية". وذكر جدعان، أن هذا الخيار انطوى، بالنسبة له، على "هاجس الدفاع عن هوية خاصة"، هي الهوية العربية. وذكر أنه إنما فعل ذلك حرصًا على تحرير المخيال والدماغ العربي من استبداد الفلسفات الأحادية، التي تنكر على "الثقافات الخاصة" تميزها، وفرادتها وجمالياتها، بل وعبقرياتها 17.
ظل الفضاء العربي، بكل مكوناته، يعاني، منذ أن دخل حقبة الحداثة، فترة مخاضٍ طويلة، سمتها الأساسية، التيه عن الذات، وعن الجذر الحضاري مع صعوبة في الإمساك بعناصر التحديث، الكامنة فيهما، وغيرها مما يميز ثقافتنا ويحدد مسارنا الخاص بنا. فثورة التحديث في الوطن العربي ينبغي أن تبدأ بثورة ثقافية هي الأخرى. ولكن، لن تكون هناك ثورة ثقافية ذات مردود، ما لم تلمس المجال الديني، وتجعل منه مجالا يسمح بالأخذ والرد، ويصبح قابلا للانفتاح على الفكر الحر وعلى النمو من داخله.
الإصلاح الديني ليس حصرًا على رجال الدين:
الإصلاح الديني، في المنظور الذي أتصوره، ليس مسؤولية رجال الدين وحدهم، والمؤسسة الدينية، وإنما هو هم فكري، بحثي، علمي، في المقام الأول. فالدين ظاهرة، شأنه شأن غيره من الظواهر. وهو ظاهرة تتميز، في مختلف تجلياتها، بقدرتها على جمع الجمهور حولها. فهو بالإضافة إلى كونه ملجأ روحيًا للأفراد والمجتمعات، وملتقى لأشواقهم الروحية، فهو أيضًا ظاهرة اجتماعية. بهذا المعنى، ينبغي أن يكون الدين، في بعده الأنثروبولوجي، وبعده اللاهوتي، وبعده الاجتماعي والسياسي، مجالا مفتوحًا للبحث العلمي. فالدين لصيق بوعي الجمهور. وهو بهذه الصفة سلاح ذو حدين. فقدرته على جمع الناس، وتوحيدهم، وتحريكهم، تجعل منه طاقة جبارة للتغيير، إن أعيد اكتشاف خصائصه الثورية، وسماته الإنسانية، وجرى توظيف كل أولئك التوظيف الصحيح. وكونه يملك خاصيتي جمع الناس وتحريكهم، تجعل منه طاقة ضخمة للتعويق، إن غلب فيه قوى الماضي على قوى الحاضر والمستقبل، كما هي حالته اليوم في السياق العربي الراهن. وعمومًا، فإن تجذر الدين في الوعي العربي، أكبر بكثير من تجذره في الوعي الغربي. هذا الاختلاف ف مدى التجذر في بنية الوعي، ليس بسبب أن الغرب قد دخل في نطاق التحديث منذ قرون، وأثرت عليه العلوم الطبيعية، والفلسفة والآداب، والفنون وسائر المعارف، وإنما بسبب اختلاف السياقين التاريخيين العربي والغربي. فالنموذج الحداثي الرأسمالي الغربي، ما كان من الممكن أن يخرج من أي بنية ثقافية، أو تجربة تاريخية، أخرى، في العالم، غير بنية وتجربة النموذج الغربي في الغرب، كما قال ماكس فيبر. وبطبيعة الحال فقد تضافرت عوامل كثيرة لكي تجعل الرأسمالية ظاهرة غربية، منها ما هو مادي مرتبط بالعلوم وبالآلة، وبالموارد، وبالمناخ، ومنها ما هو سوسيولوجي، مرتبط بالبناء النفسي التاريخي، وبمنظومة القيم المتوارثة.
المشكلة، أن مسألة التجديد والاصلاح الديني بقيت محتكرة، إلى حد كبير جدًا، لمن نسميهم "رجال الدين". وهم بطبيعة تعليمهم وتدريبهم الدراسي الذي قام على تقاليد عمرها أكثر من ألف عام، لا يملكون، في غالب حالهم، قدرة على الخروج من الأطر القديمة الموضوعة. ومع ذلك، لهؤلاء سلطة على الجمهور أكبر بكثير من سلطة المثقفين، خاصة أن أذرعًا سياسية، ذات توجهات دينية، تشكلت منذ مطلع القرن العشرين أصبحت قوى داعمة لسلطتهم. وكما تقدم، فأن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وخروج الحياة من قبضة طبقة الإكليروس، لم تتحققا لولا أن المفكرين، والجامعات، والأوساط الأكاديمية انخرطت في الحراك الجاري في النطاق الديني، سواء بسواء مع رجال الدين. فإذا لم يتم انخراط أكاديمي علمي، معمق، في نقاش قضايا الدين، باستخدام أدواته ذاتها، ونصوصه، وانتزاع حق تفسيرها وتأويلها، وكسر صدفة "الاختصاص" التي جعلت من الدين نطاقًا، محتكرًا، لطبقة، فلن ينداح الوعي، لا في النخب التي ينبغي أن تضطلع بمسؤولية إدارة حراك التحديث والنهضة، ولا في الجمهور، المستهدف بالتحديث والنهضة. سيبقى سواد الجمهور، مثلما كان حاله في الغالب الأعم، في قبضة من نسميهم "رجال الدين"، وسيبقى المثقفون حفنة من الطيور التائهة، التي تغرد خارج السرب.
المشكلة، أن مسألة التجديد والاصلاح الديني بقيت محتكرة، إلى حد كبير جدًا، لمن نسميهم "رجال الدين". وهم بطبيعة تعليمهم وتدريبهم الدراسي الذي قام على تقاليد عمرها أكثر من ألف عام، لا يملكون، في غالب حالهم، قدرة على الخروج من الأطر القديمة الموضوعة. ومع ذلك، لهؤلاء سلطة على الجمهور أكبر بكثير من سلطة المثقفين، خاصة أن أذرعًا سياسية، ذات توجهات دينية، تشكلت منذ مطلع القرن العشرين أصبحت قوى داعمة لسلطتهم. وكما تقدم، فأن حركة الإصلاح الديني في أوروبا، وخروج الحياة من قبضة طبقة الإكليروس، لم تتحققا لولا أن المفكرين، والجامعات، والأوساط الأكاديمية انخرطت في الحراك الجاري في النطاق الديني، سواء بسواء مع رجال الدين. فإذا لم يتم انخراط أكاديمي علمي، معمق، في نقاش قضايا الدين، باستخدام أدواته ذاتها، ونصوصه، وانتزاع حق تفسيرها وتأويلها، وكسر صدفة "الاختصاص" التي جعلت من الدين نطاقًا، محتكرًا، لطبقة، فلن ينداح الوعي، لا في النخب التي ينبغي أن تضطلع بمسؤولية إدارة حراك التحديث والنهضة، ولا في الجمهور، المستهدف بالتحديث والنهضة. سيبقى سواد الجمهور، مثلما كان حاله في الغالب الأعم، في قبضة من نسميهم "رجال الدين"، وسيبقى المثقفون حفنة من الطيور التائهة، التي تغرد خارج السرب.
تأثير العنف على المثقفين:
اشتغل بعض المثقفين العرب بقضية التجديد الديني، وقد أسهموا، على اختلاف بين مقارباتهم، وتفاوت بينها، في كسر احتكار الفقهاء والمؤسسات الدينية لهذا المجال. غير أن جملة البنيات القائمة لم تكن لتسمح إلا بتأثير محدود جدًا لجهودهم. من هؤلاء، على سبيل المثال، محمود محمد طه، ومحمد أركون، ونصر حامد أبوزيد، وهادي العلوي، وطه عبد الرحمن، ومحمد أبو القاسم حاج حمد، وعزمي بشارة، وغيرهم. ولربما تكون هذه هي ضربات البداية، وهي في حد ذاتها محاولات باسلة، بالغة الأهمية. لكن، المطلوب هو أن يتسع هذا النشاط، ويتغير المفهوم القائل إن معالجة قضية الدين شأن تخصصي، مناط باختصاصيين، هم رجال الدين. ففي الإسلام من المفترض أن كل رجل وكل امرأة هو/هي، رجل دين وامرأة دين، أو هكذا ينبغي أن تكون الحال. نزعة احتكار تفسير الدين موروثة من طبقة "الإكليروس" في التاريخ الأوروبي، الذين احتكروا مجرد القراءة والكتابة، ومن ثم، تفسير الكتاب المقدس 18.
اتسم التاريخ العربي، وأعني هنا التاريخ العربي الإسلامي، على وجه الخصوص، في كثير من منعطفاته، بالقمع العنيف لمحاولات المفكرين الخروج على الأطر السائدة، والخطوط الحمراء، التي لا ينبغي أن يخرج عليها المفكرون. هذا القمع ليس حصرًا على التجربة التاريخية العربية وحدها، وإنما شاركتها فيه، أيضًا، التجربة الغربية. ولكن، ما يجعل هذه الإشكالية أكثر فداحة في التاريخ العربي، هو المدى الزمني الطويل الذي استمرت فيه. فقد تواصلت نزعة التنكيل بالفكر وبالمفكرين، حتى نهايات القرن العشرين. وكل الدلائل تشير إلى أنها سوف تستمر في القرن الواحد والعشرين، لفترة، قد تطول، وقد تقصر.
عدد حسن عبد الله، في كتابه، الاغتيالات في الإسلام: اغتيال الصحابة والتابعين، ستة وعشرين حادثة اغتيال، أو محاولة اغتيال، للصحابة والتابعين 19. ولقد ورث تحالف الفقه المدرسي مع مؤسسة الحكم، في ما بعد الخلافة الراشدة، هذا التاريخ المتصل من العنف السياسي. وهو عنف ارتبط، إلى حد كبير، بأسلوب الحفاظ على السلطة الزمنية. وبمرور الزمن، تحول الفقه، ومؤسسته، أو قل الجانب الأكبر منهما، إلى أداة لتسويغ العنف بالخصوم السياسيين، بتهمتي الخروج على طاعة ولي الأمر، وعلى إجماع العلماء. ومن ثم، أصبحت السلطة، والفقه المدرسي، الملتصق بها، هما القوتان اللتان ترسمان حدود التفكير، وحدود الفعل السياسي، للذين ينتقدون الفكر السائد، أو السياسات السائدة. أصبح سلاح التكفير هو الأداة المفضلة للتخلص من المفكرين والمعارضين السياسيين. بقيت نزعة التكفير، بل والقتل، بتهمة الردة، وبتهمة الإساءة إلى المقدس، والخروج على الإجماع، مستمرة، في التاريخ الإسلامي، تخبو تارة، وتشتد تارة أخرى. غير أن الملفت للنظر أنها استمرت، حتى نهايات القرن العشرين، ما يجعلها ظاهرة تستحق الوقوف الطويل عندها.
بالإضافة إلى الاغتيالات التي لم تقف قط، قتل الحكام المسلمون وقضاتهم، مجتمعين طورًا، ومفترقين طورًا آخر، على سبيل المثال، الجعد بن درهم، وابن المقفع، والحلاج، والسهروردي. هذا خلافًا لتهم التكفير والعسف التي تعرض لها قطاع الفقهاء أنفسهم، خاصة أولئك الذين أتوا باجتهاد مخالف، أو اعترضوا على الحاكم. وقد طال العسف بأصحاب الرأي، أعلام الفقهاء كمالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وأبو حنيفة الذي كفره خصومه، واستتيب من تهمة الكفر، في حياته، بضع مرات 20. ويُروى عن سفيان الثوري، أنه حين بلغه نبأ وفاة أبي حنيفة قال: "الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة. ما وُلد في الإسلام، مولود أشأم، على الإسلام، منه 21". ولقد ردد نفس تلك العبارة المروية عن سفيان الثوري، عددٌ من مخالفي أبي حنيفة من كبار أهل الرأي. منهم، على سبيل المثال، أيوب السختياني، ومالك، والأوزاعي، ووكيع، وجرير بن حازم، وابن المبارك.
أما في بدايات القرن العشرين، فقد تعرض كل من علي عبد الرازق، وطه حسين لهجمات الأزهر. وفي نهايات القرن العشرين، بلغ الأمر حد القتل. فقُتل فرج فودة غيلةً، نتيجة لفتاوى صدرت ممن يسمون رجال الدين 22. كما قُتل حسين مروة، غيلة، أيضًا، وهو في عقر داره. وفي السودان أعدم في عام 1985، المجدد الديني محمود محمد طه، بتهمة معارضة السلطة القائمة، سرعان ما تحولت إلى تهمة بالردة عن الإسلام. وفي النطاق الشيعي أفتى الإمام الخميني، بإباحة دم الكاتب سلمان رشدي على أثر نشر روايته المثيرة للجدل، "آيات شيطانية". وأوردت وكالة رويترز للأنباء، على أثر نشر الرسوم الكارتونية المسيئة للنبي الكريم في الدنمارك عام 2006، أن الشيخ حسن نصر الله قال: "لو قام مسلم ونفذ فتوى الإمام الخميني بالمرتد سلمان رشدي، لما تجرأ هؤلاء السفلة على أن ينالوا من الرسول؛ لا في الدنمارك، ولا في النرويج، ولا في فرنسا 23". أيضا كفر بعض العلماء الكاتب السوري، حيدر حيدر، بعد نشره روايته، "وليمة لأعشاب البحر". وجرى تكفير الأكاديمي والكاتب المصري، نصر حامد أبوزيد، بدعوى حسبة جرى تقديمها أمام القضاء المصري، انتهت بتكفيره، وأُردف ذلك بقرار قضائي ينص على تطليق زوجته منه، ما اضطره وزوجته للهجرة إلى فرنسا. وجرى في الجزائر في فترة الحرب بين الإسلاميين، والدولة، قُتل، أكثر من ستين من المثقفين.
هذا الخيط الممتد من الإرهاب للفكر وللمفكرين، الذي استمر منذ العصور الوسطى، وحتى نهاية القرن العشرين، كان له أثره الكبير على مواقف المثقفين العرب. فقد نتج من هذا الإرهاب الممتد، الذي اشتد كثيرًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فبلغ درجة القتل، إلى أن يصبح المثقفون أكثر حذرًا في الخوض في مسألة الدين. وهكذا أضحت ساحة تجديد التراث، وساحة الإصلاح الديني، وإعادة بناء الهوية الحضارية، عقب التغريب الاستعماري الطويل، خلوًا من الجهود، باستثناء ذلك القليل، الذي أُخرس بالعنف. وبطبيعة الحال، ليس من المعقول أن يُطلب من عموم المثقفين حمل رؤوسهم على أكفهم، وأن يواجهوا الموت، بجعل أنفسهم هدفًا للبنادق، والقناصين الذي أصبحوا يترصدونهم عند مداخل دورهم، ساعة الصباح، وهم خارجين إلى أعمالهم. أو أن يصبحوا هدفًا سهلا للذين يقتحمون عليهم منازلهم ويقتلونهم وهم على أسرتهم. ولذلك، من الطبيعي جدًا، أن تدفع حالة الإرهاب المتجذرة في المفاهيم الدينية التي لم تناقش، ولم تصحح، إلى تعطيل دولاب النهضة بحبس المثقفين والعلماء خارج ساحة المعركة الحقيقية. مثل هذا الوضع، لا يترك للمثقفين مخرجًا سوى الاستعصام بحني الرؤوس، وكبت الأفكار التي تسائل السائد، والزلفى إلى الحكام، واستخدام التُّقيَّات. فنحن أمام اشكالية حقيقية تعترض الفكر الحر، وتعترض النهضة السياسية، والفكرية، والثقافية، والاجتماعية.
أما الآثار الأكثر فداحة، لهذا الارهاب الديني المزمن، فتتمثل في انحياز بعض المثقفين، بطرق، وأساليب، ودرجات مختلفة، إلى حصان الإسلام السياسي، بوصفه الحصان الرابح، والملجأ الآمن، ومجال الناشطية المرضي عنه لدى عدد من الدول، وكذلك من المؤسسات الدينية العريقة كالأزهر، وما تمثله وزارات الشؤون الدينية والأوقاف بمختلف مسمياتها في مختلف الأقطار العربية. ويجري ذلك الانصراف الاختياري عن دور المثقف الحقيقي بناء على استنتاج مفاده أن الإسلام السياسي هو الحصان الرابح، في كثير من الدول العربية، في مرحلة التحول الراهنة التي تشهدها المنطقة الآن. فالمؤشرات تشير إلى رجحان كفة الإسلاميين، منذ تراجع اليسار العربي، وفشل أنظمته العسكرية، المسنودة بنظام الحزب الواحد. وحتى حين تخنق السلطات الإسلامين فإنها لا تصل معهم حد التصفية أو تهديد الرزق، ما جعل العمل وسط منظومتهم مأمونًا أكثب بكثير من غيره.
..................................................
14 يقول عزمي بشارة، إن العلوم العربية تطورت فرديًا، في مسار خاص بها، خارج المؤسسات، ويكاد ذلك التطور أن يكون سريًا، في مراحل معينة. غير أن نتائج ذلك التطور عادت وأثرت في سير التدريس في المؤسسات القائمة في العصر الإسلامي الوسيط. ويرى بشارة ان تلك هي خصوصية العلم التجريبي في تاريخ الحضارة الإسلامية من ناحية عدم انتاجه طرائق نظر فكرية على غرار ما حدث لاحقًا في أوروبا. ويرى بشاره أن الكتب العربية في العلوم التي وصلت إلى أوروبا من الأندلس، أصبحت تدرس في الجماعات، إلى جانب اللاهوت والطب والقانون. هذا في حين كانت ممنوعة من التدريس في مؤسسات التدريس الإسلامية، أولا في المسجد، ولاحقًا في المدرسة. فقد انحصرت مادة التدريس في الشريعة وحدها، وهنا تكمن، وفقًا لوجهة نظره، مأساة التاريخ العربي. راجع: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، (2015)، ص، ص، 43 - 44.
155 عبد الرزاق الدواي، في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، (2013)، ص 59
16 برهان غليون، اغتيال العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان، والدار البيضاء، المغرب، (ط 5)، 2009، ص 28.
177 فهمي جدعان، العدل في حدود ديونطولوجيا عربية، في: ما العدالة: معالجات في السياق العربي الراهن، (مجموعة مؤلفين)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، (2014)، ص 76-77.
18 المصدر السابق، ص 29.
19 حسن عبد الله، الاغتيالات في الإسلام: اغتيال الصحابة والتابعين، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، (2006).
200 أبو بكر أحمد بن علي البغدادي، تاريخ بغداد: أو مدينة السلام، (تحقيق مصطفى عبد القادر عطا)، (ج 13) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (2011)، ص، ص 398.
21 المصدر السابق. ص، ص، 380-381.
22 حين استدعي الشيخ محمد الغزالي، القيادي البارز في تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وهو شيخ يرفعه كثيرون كنموذج للاعتدال، للشهادة في قضية اغتيال الكاتب فرج فودة، بناء على طلب من فريق الدفاع، وهي شهادة أراد بها فريق الدفاع عن المتهمين في القضية أن تكون في مصلحة المتهمين. قال الشيخ الغزالي في شهادته: إن فرج فوده مرتد، ويستحق القتل، ولكن الذين اغتالوه افتأتوا على السلطة. مضيفا أن الحاكم هو الجهة الوحيدة المنوط بها تطبيق حكم الردة على المرتدين، حتى لا يؤول الأمر إلى فوضى. ولم يخالف الشيخ يوسف القرضاوي الشيخ محمد الغزالي في الإفتاء بكفر فرج فودة. فهو قد استشهد بشهادة الشيخ محمد الغزالي في محاكمة فرج فودة، بوصفها من المواقف المشرفة. فقد أوردها في فصل من كتابه عن الشيخ الغزالي، اختار له عنوان: "الغزالي رجل المواقف. والشيخ القرضاوي ممن يرفعهم البعض رمزًا للوسطية الإسلامية والاعتدال. راجع: يوسف القرضاوي الشيخ الغزالي كما عرفته: رحلة نصف قرن، (ط 3)، دار الشروق، القاهرة، ج ع م، (2000)، ص 280-285.
23 حديث للشيخ حسن نصر الله، بثته قناة المنار، وقناة الجزيرة، في 2 و3 شباك/فبراير 20066.
اتسم التاريخ العربي، وأعني هنا التاريخ العربي الإسلامي، على وجه الخصوص، في كثير من منعطفاته، بالقمع العنيف لمحاولات المفكرين الخروج على الأطر السائدة، والخطوط الحمراء، التي لا ينبغي أن يخرج عليها المفكرون. هذا القمع ليس حصرًا على التجربة التاريخية العربية وحدها، وإنما شاركتها فيه، أيضًا، التجربة الغربية. ولكن، ما يجعل هذه الإشكالية أكثر فداحة في التاريخ العربي، هو المدى الزمني الطويل الذي استمرت فيه. فقد تواصلت نزعة التنكيل بالفكر وبالمفكرين، حتى نهايات القرن العشرين. وكل الدلائل تشير إلى أنها سوف تستمر في القرن الواحد والعشرين، لفترة، قد تطول، وقد تقصر.
عدد حسن عبد الله، في كتابه، الاغتيالات في الإسلام: اغتيال الصحابة والتابعين، ستة وعشرين حادثة اغتيال، أو محاولة اغتيال، للصحابة والتابعين 19. ولقد ورث تحالف الفقه المدرسي مع مؤسسة الحكم، في ما بعد الخلافة الراشدة، هذا التاريخ المتصل من العنف السياسي. وهو عنف ارتبط، إلى حد كبير، بأسلوب الحفاظ على السلطة الزمنية. وبمرور الزمن، تحول الفقه، ومؤسسته، أو قل الجانب الأكبر منهما، إلى أداة لتسويغ العنف بالخصوم السياسيين، بتهمتي الخروج على طاعة ولي الأمر، وعلى إجماع العلماء. ومن ثم، أصبحت السلطة، والفقه المدرسي، الملتصق بها، هما القوتان اللتان ترسمان حدود التفكير، وحدود الفعل السياسي، للذين ينتقدون الفكر السائد، أو السياسات السائدة. أصبح سلاح التكفير هو الأداة المفضلة للتخلص من المفكرين والمعارضين السياسيين. بقيت نزعة التكفير، بل والقتل، بتهمة الردة، وبتهمة الإساءة إلى المقدس، والخروج على الإجماع، مستمرة، في التاريخ الإسلامي، تخبو تارة، وتشتد تارة أخرى. غير أن الملفت للنظر أنها استمرت، حتى نهايات القرن العشرين، ما يجعلها ظاهرة تستحق الوقوف الطويل عندها.
بالإضافة إلى الاغتيالات التي لم تقف قط، قتل الحكام المسلمون وقضاتهم، مجتمعين طورًا، ومفترقين طورًا آخر، على سبيل المثال، الجعد بن درهم، وابن المقفع، والحلاج، والسهروردي. هذا خلافًا لتهم التكفير والعسف التي تعرض لها قطاع الفقهاء أنفسهم، خاصة أولئك الذين أتوا باجتهاد مخالف، أو اعترضوا على الحاكم. وقد طال العسف بأصحاب الرأي، أعلام الفقهاء كمالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، وأبو حنيفة الذي كفره خصومه، واستتيب من تهمة الكفر، في حياته، بضع مرات 20. ويُروى عن سفيان الثوري، أنه حين بلغه نبأ وفاة أبي حنيفة قال: "الحمد لله الذي أراح المسلمين منه، لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة. ما وُلد في الإسلام، مولود أشأم، على الإسلام، منه 21". ولقد ردد نفس تلك العبارة المروية عن سفيان الثوري، عددٌ من مخالفي أبي حنيفة من كبار أهل الرأي. منهم، على سبيل المثال، أيوب السختياني، ومالك، والأوزاعي، ووكيع، وجرير بن حازم، وابن المبارك.
أما في بدايات القرن العشرين، فقد تعرض كل من علي عبد الرازق، وطه حسين لهجمات الأزهر. وفي نهايات القرن العشرين، بلغ الأمر حد القتل. فقُتل فرج فودة غيلةً، نتيجة لفتاوى صدرت ممن يسمون رجال الدين 22. كما قُتل حسين مروة، غيلة، أيضًا، وهو في عقر داره. وفي السودان أعدم في عام 1985، المجدد الديني محمود محمد طه، بتهمة معارضة السلطة القائمة، سرعان ما تحولت إلى تهمة بالردة عن الإسلام. وفي النطاق الشيعي أفتى الإمام الخميني، بإباحة دم الكاتب سلمان رشدي على أثر نشر روايته المثيرة للجدل، "آيات شيطانية". وأوردت وكالة رويترز للأنباء، على أثر نشر الرسوم الكارتونية المسيئة للنبي الكريم في الدنمارك عام 2006، أن الشيخ حسن نصر الله قال: "لو قام مسلم ونفذ فتوى الإمام الخميني بالمرتد سلمان رشدي، لما تجرأ هؤلاء السفلة على أن ينالوا من الرسول؛ لا في الدنمارك، ولا في النرويج، ولا في فرنسا 23". أيضا كفر بعض العلماء الكاتب السوري، حيدر حيدر، بعد نشره روايته، "وليمة لأعشاب البحر". وجرى تكفير الأكاديمي والكاتب المصري، نصر حامد أبوزيد، بدعوى حسبة جرى تقديمها أمام القضاء المصري، انتهت بتكفيره، وأُردف ذلك بقرار قضائي ينص على تطليق زوجته منه، ما اضطره وزوجته للهجرة إلى فرنسا. وجرى في الجزائر في فترة الحرب بين الإسلاميين، والدولة، قُتل، أكثر من ستين من المثقفين.
هذا الخيط الممتد من الإرهاب للفكر وللمفكرين، الذي استمر منذ العصور الوسطى، وحتى نهاية القرن العشرين، كان له أثره الكبير على مواقف المثقفين العرب. فقد نتج من هذا الإرهاب الممتد، الذي اشتد كثيرًا في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، فبلغ درجة القتل، إلى أن يصبح المثقفون أكثر حذرًا في الخوض في مسألة الدين. وهكذا أضحت ساحة تجديد التراث، وساحة الإصلاح الديني، وإعادة بناء الهوية الحضارية، عقب التغريب الاستعماري الطويل، خلوًا من الجهود، باستثناء ذلك القليل، الذي أُخرس بالعنف. وبطبيعة الحال، ليس من المعقول أن يُطلب من عموم المثقفين حمل رؤوسهم على أكفهم، وأن يواجهوا الموت، بجعل أنفسهم هدفًا للبنادق، والقناصين الذي أصبحوا يترصدونهم عند مداخل دورهم، ساعة الصباح، وهم خارجين إلى أعمالهم. أو أن يصبحوا هدفًا سهلا للذين يقتحمون عليهم منازلهم ويقتلونهم وهم على أسرتهم. ولذلك، من الطبيعي جدًا، أن تدفع حالة الإرهاب المتجذرة في المفاهيم الدينية التي لم تناقش، ولم تصحح، إلى تعطيل دولاب النهضة بحبس المثقفين والعلماء خارج ساحة المعركة الحقيقية. مثل هذا الوضع، لا يترك للمثقفين مخرجًا سوى الاستعصام بحني الرؤوس، وكبت الأفكار التي تسائل السائد، والزلفى إلى الحكام، واستخدام التُّقيَّات. فنحن أمام اشكالية حقيقية تعترض الفكر الحر، وتعترض النهضة السياسية، والفكرية، والثقافية، والاجتماعية.
أما الآثار الأكثر فداحة، لهذا الارهاب الديني المزمن، فتتمثل في انحياز بعض المثقفين، بطرق، وأساليب، ودرجات مختلفة، إلى حصان الإسلام السياسي، بوصفه الحصان الرابح، والملجأ الآمن، ومجال الناشطية المرضي عنه لدى عدد من الدول، وكذلك من المؤسسات الدينية العريقة كالأزهر، وما تمثله وزارات الشؤون الدينية والأوقاف بمختلف مسمياتها في مختلف الأقطار العربية. ويجري ذلك الانصراف الاختياري عن دور المثقف الحقيقي بناء على استنتاج مفاده أن الإسلام السياسي هو الحصان الرابح، في كثير من الدول العربية، في مرحلة التحول الراهنة التي تشهدها المنطقة الآن. فالمؤشرات تشير إلى رجحان كفة الإسلاميين، منذ تراجع اليسار العربي، وفشل أنظمته العسكرية، المسنودة بنظام الحزب الواحد. وحتى حين تخنق السلطات الإسلامين فإنها لا تصل معهم حد التصفية أو تهديد الرزق، ما جعل العمل وسط منظومتهم مأمونًا أكثب بكثير من غيره.
..................................................
14 يقول عزمي بشارة، إن العلوم العربية تطورت فرديًا، في مسار خاص بها، خارج المؤسسات، ويكاد ذلك التطور أن يكون سريًا، في مراحل معينة. غير أن نتائج ذلك التطور عادت وأثرت في سير التدريس في المؤسسات القائمة في العصر الإسلامي الوسيط. ويرى بشارة ان تلك هي خصوصية العلم التجريبي في تاريخ الحضارة الإسلامية من ناحية عدم انتاجه طرائق نظر فكرية على غرار ما حدث لاحقًا في أوروبا. ويرى بشاره أن الكتب العربية في العلوم التي وصلت إلى أوروبا من الأندلس، أصبحت تدرس في الجماعات، إلى جانب اللاهوت والطب والقانون. هذا في حين كانت ممنوعة من التدريس في مؤسسات التدريس الإسلامية، أولا في المسجد، ولاحقًا في المدرسة. فقد انحصرت مادة التدريس في الشريعة وحدها، وهنا تكمن، وفقًا لوجهة نظره، مأساة التاريخ العربي. راجع: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، المجلد الأول، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، (2015)، ص، ص، 43 - 44.
155 عبد الرزاق الدواي، في الثقافة والخطاب عن حرب الثقافات: حوار الهويات الوطنية في زمن العولمة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة وبيروت، (2013)، ص 59
16 برهان غليون، اغتيال العقل، المركز الثقافي العربي، بيروت لبنان، والدار البيضاء، المغرب، (ط 5)، 2009، ص 28.
177 فهمي جدعان، العدل في حدود ديونطولوجيا عربية، في: ما العدالة: معالجات في السياق العربي الراهن، (مجموعة مؤلفين)، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، بيروت، (2014)، ص 76-77.
18 المصدر السابق، ص 29.
19 حسن عبد الله، الاغتيالات في الإسلام: اغتيال الصحابة والتابعين، دار الانتشار العربي، بيروت، لبنان، (2006).
200 أبو بكر أحمد بن علي البغدادي، تاريخ بغداد: أو مدينة السلام، (تحقيق مصطفى عبد القادر عطا)، (ج 13) دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، (2011)، ص، ص 398.
21 المصدر السابق. ص، ص، 380-381.
22 حين استدعي الشيخ محمد الغزالي، القيادي البارز في تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وهو شيخ يرفعه كثيرون كنموذج للاعتدال، للشهادة في قضية اغتيال الكاتب فرج فودة، بناء على طلب من فريق الدفاع، وهي شهادة أراد بها فريق الدفاع عن المتهمين في القضية أن تكون في مصلحة المتهمين. قال الشيخ الغزالي في شهادته: إن فرج فوده مرتد، ويستحق القتل، ولكن الذين اغتالوه افتأتوا على السلطة. مضيفا أن الحاكم هو الجهة الوحيدة المنوط بها تطبيق حكم الردة على المرتدين، حتى لا يؤول الأمر إلى فوضى. ولم يخالف الشيخ يوسف القرضاوي الشيخ محمد الغزالي في الإفتاء بكفر فرج فودة. فهو قد استشهد بشهادة الشيخ محمد الغزالي في محاكمة فرج فودة، بوصفها من المواقف المشرفة. فقد أوردها في فصل من كتابه عن الشيخ الغزالي، اختار له عنوان: "الغزالي رجل المواقف. والشيخ القرضاوي ممن يرفعهم البعض رمزًا للوسطية الإسلامية والاعتدال. راجع: يوسف القرضاوي الشيخ الغزالي كما عرفته: رحلة نصف قرن، (ط 3)، دار الشروق، القاهرة، ج ع م، (2000)، ص 280-285.
23 حديث للشيخ حسن نصر الله، بثته قناة المنار، وقناة الجزيرة، في 2 و3 شباك/فبراير 20066.
....يتواصل...
Comments
Post a Comment