بَنْبَر الرَّحِيل
صلاةٌ أخيرةٌ لصَالحِ الرَّحيلِ الأخضرِ، رحيلٌ حسيٌّ كُتِبَ على عينيها اللَّتين أرهقتَا دوائرَ الشَّمس والقمرِ.
قالتْ بَخِيتَة للعَيدَرُوس الذي طال حزنُه على فراق بِتْ القُوزْ، معلمةِ الأساسِ، التي نُقلِت إلى قريةٍ أخرى، قالتْ بعد أنْ جلَسَتْ على الكُرسي الوَثيرِ: "أنَا الجُوَّاكْ حَافْظَاهُو".
ولكنَّك تشعرُ بالخَواءِ واللاَّفهم من حولِكَ، حتَّى الأُغنياتُ لا تُنصفُك كلماتُها، ولا نكاتُ العابرينَ تُضحِكُكَ، ولا تجدْ شخصاً واحداً يفهمُك جيِّداً، كما لو أنَّ العالمَ كُلَّه في كفَّةٍ وأنتَ في كفَّةٍ، تحاولُ تغييرَ الكثيرِ من الأشياءِ حولَكَ، تزدادُ وعياً وتزدادُ مُعاناتُك، تُخبر مَنْ حولَكَ بفلسفتِكَ العاديةِ فلا يهتَمُّون، ولكنّ نفسَك تغرقُ فيها مَليَّاً وتزدادُ تساؤلاتٍ كثيرةً، هل هذِي حياةٌ - التي نعيشُها – هل حياةٌ حقَّاً؟! شغفُكَ تطفئُه رياحُ المارِّينَ بكَ، وحبُّكَ الكبيرُ لأشيائِك تقتلُه السُّنونُ حينَ تكبرُ. وتتساءلُ: هلْ أنتَ الجَاني أمِ العالمُ من حولِكَ؟! تكون أوَّلَ مُشتبَهٍ بهِ في هذهِ القضيةِ، وفي المُرافعةِ الأُولى يُغشى عليكَ. حينَ تُعرضُ تمثيليةُ الجريمةِ أمامَ عينيكَ، في غيبوبتِكَ تعودُ للتَّساؤُلاتِ: هلْ شغفُكَ كانَ وَهْماً أم حُلُماً؟ أم حقَّاً كنتَ كذلكَ؟! ولكنَّكَ تعلمُ أنَّها مرحلةٌ ومرَّتْ، لا تعلمُ إنْ كانتْ ستعودُ أم لا. أنتَ لا تُريدُها أنْ تعودَ بالفعلِ، أنتَ تُريدُ أنْ تتغيَّرَ ويتغيَّرَ العالمُ من حولِكَ، أو لا يتغيَّرُ، ما عَادَ يُهمُّكَ كالسَّابقِ.
قال العَيدَرُوس: "يا بَخِيتَة أنا أتأجَّجُ الآنَ بينَ الانعتاقِ المُرهِقِ والاندهاشِ الكثيفِ".
العَالمُ والنَّاس، لا أحدَ يفهمُ جيِّداً، العالمُ يزدادُ انحداراً يوماً بعدَ يومٍ، الطُلابُ دمىً مُتحركةٌ لإرضاءِ رَغَبَاتٍ دُنيويَّةٍ ذَاتيَّةٍ وغَيْرِيَّةٍ، جامعاتٌ لا تشبهُ الصُّروحَ العِلميَّةَ في شيءٍ. تنظرُ من بعيدٍ إلى مراكزِ الأبحاثِ والدِّراسَاتِ وحياةِ العِلمِ، تندبُ حظَّكَ جيِّداً وتلطُمُ وجْهَ أحلامِكَ. وتستمرُّ تباتيلُ الشُّعورِ فِي عينيَّ بينما أمرُّ عَبْرَ الأزِقَّةِ وَحْدِي، أمسحُ وَجْهِي وأُطلقُ تَناهيدَ اللَّوعَةِ مِن فَمِي، ويَحُثُّني الشَّوقُ لإحداثِ خَرْخَشةٍ صُامتةٍ عندَكَ، ثم لا أملكُ الجُرأَةَ ولا القوَّةَ على ذلكَ، وأعودُ أدْراجِي خائباً كُلَّ مرَّةٍ يدفعُني فيهَا الحَنينُ، وَحْدي أنا مَنْ يعلمُ كَمْ مِن المرَّاتِ حاولتُ، وكَمْ من المرَّاتِ اِنْدفعتُ بلا شُعُورٍ، وكَمْ من المرَّاتِ فكَّرتُ بعقلي ورَكلتُ قلبي!
وكَمْ من المرَّات الكَثيرةِ صرخَ في داخلي صوتٌ يُريدُني أنْ أركضَ إليكَ بكلِّ ما أملكُ، ثمَّ أتعثَّرُ بصخرةٍ حقيرةٍ توقِعُني على وَجهِي، أرفعُ وَجْهِي وما هو إلاَّ واقعي معكَ، واقعي الّذي أرفضه بدرامية: "إنك تحس بي"، وإيمان: "إنّك رُبما تُحبني، آه آه آه آه آه، نعم ربما تحبني. أحقاً رحلت بت القوز حدثني يا الله لأشكرك بزاف".(1)
تقول بَخِيتَة، وكانت قد أغمضت عينَها اليُسرى، هَل أحاسبُ تلكمُ التراكماتِ الآنَ وبعدَ هذا الوقتِ بعد أنْ أفسحتُ لها المجالَ مراراً لتكونْ؟ يعني هلْ أملكُ الحقَّ من الأساسِ أصلاً؟! أم أتركُها تزدادُ يوماً بعد يومٍ؟. تشدُّني إليكَ وتجعلُني أفكِّرُ فيكَ وحدَكَ، وغيرُك لا أُعيرُه اهتماماً. أُطلقُ تناهيدَ الشَّوقِ مرَّةً ثانيةً وثالثةً. هذا الشُّعورُ الأعمى المُسْتَعِرُ في داخِلي لا ينطفئُ.
يَتْكلُ العَيدَرُوسُ ظهرَهُ على التُّكُل(2)، وكانَ قد حَنْبَكَ(3)، ويقولُ: "كنتِ تَسألينَ مَا بِكَ؟". وأُجيبُ بـِ: "لا شيءَ". وَفي دَاخلي كُلُّ الأشياءِ من أوَّلِها إلى آخرِها بكُلِّ تفاصيلِها اللاَّمُهمَّةِ والتَّافهةِ والهامشيَّةِ. ليس ذنبُكِ ألاَّ تعلمينَ مَا بي. أنا اعْتَدتُ الكتْمانَ والصَّمتَ والإخفاءَ يا بَخِيتَة، أحياناً، وكثيراً، نَنْزِعُ الشَّوكَ من داخلِنا، ونُزيلُ الرُّصاصَ من أعماقِنا بصمتٍ مُطْبِقٍ، خَشْيةً على قُلُوبِ من يُحبُّونَنا أنْ تُجرحَ من أجلِنا! ثُمَّ نُتَّهمُ في صدقِِ مَشاعرِنا ونُحرَقُ بنارِ الكلماتِ، ونُحاولُ أنْ نتعايشَ فيها، ولسنا هِيَ، ونعتذرُ عنها، بُغيةَ الإكمالِ وتقديساً للعِلاقةِ والمحبَّةِ، نحنُ نُكملُ هكَذا! لو لمْ نكُنْ هكذا لَجلسْنا وحدَنا على الطُّرُقاتِ نَهِشُّ على الهَواءِ، ونَنْكِشُ رأسَنا من شدَّة الخَواءِ. الآنَ لا نَعلمُ أيَّ الحالَين أفضلُ. يبدو أنَّ خياراتِ الحياةِ جميعَها هكذا، حتَّى قلوبُنا صارتْ خاويةً على عُرُوشِها، يَقضُّ مضاجعَها بُعدُكم. ويتبرَّأُ جلدُها من كُلِّ شيءٍ يذكِّرُها بكُم. تُريدُ نسيانَكُم وما استطاعتْ إلى تلكَ القَّوةِ سبيلاً! يا مَنْ عَزَّ عَلينا فِراقُهمُ، وأبَتِ الأيَّامُ والسُّنونُ والظُّرُوفُ إلاَّ ذلكَ، ووقفنا في سيلِ الأقدارِ الجَارفِ فما الْتفَتَ إلى صُراخِنا.
العدمُ هُوِيَّتُنا، والخَوضُ في كونٍ لا نهايةَ لهُ، السِّباحةُ في مَلكُوتِ الـ(لاشيءَ) صَارتْ مِن بعدِكُم هُوايتُنا الجديدةُ، اِسْتبدلْنا الموسيقى والطُّقُوسَ بالسَّهتَانِ(4) وحدَه. نحنُ لا نبكِي، فقطْ ذَرَّاتِ الحياةِ عَلِقتْ في جُفُونِنا. قاطعتْهُ بَخِيتَة: "كَفَاكَ هُياماً بِها!!!". قالَ العَيدَرُوس: "عيناها كانتا بِساطَ نهرِي في رؤيةٍ خضراءَ تتمدُّدُ في بَصرِي. أذهلَني الرَّحيل يا بَخِيتَة. أنا دمعٌ هَطَلَ على خدِّ عابدٍ في ليلٍ حالِكٍ، عن إذْنِك يا أُختي". مضى العَيدَرُوس في سبيلِهِ ولسانُهُ يردِّدُ في صمتٍ ما قاله لبخيتة توَّاً. ضَاقت بهِ الحَياةُ وانْسلختْ عن ذاتِهِ الرَّاحةُ وصَارَ الفرحُ له حُلماً، فكان عَلى سجَّادتِهِ يبثُّ زفَراتِ التَّعبِ، متخلِّياً عنها، فِي كَنفِ اللهِ أودَعَهَا. يثقُ باللهِ فيطْمئنُّ! ثم نسيَ أنَّ دُمُوعَه مَن آسَاهُ، وانطلقَ في حياتِهِ ولم يشكُرْها يوماً، وهي جُندُ اللهِ التي سخَّرَها لكلِّ إنسانٍ، تكونُ بجانبِهِ دائماً حينَ يتركُه النَّاسُ، ولا تسأمُ مِن حُزنِه إذا قلاهُ الأقربُونَ، وكأنَّها تُطَبطبُ على رقَّةِ خدِّهِ بنُعومةِ جريانِها، وتَخلقُ ممشىً للأحزانِ لترحلَ من عينيه وقلبِهِ! أنا السَّطرُ المنسيُّ في نَصٍّ طويلٍ، لم يسألْ عنهُ أحدُ ولمْ يفتقدْه واحدٌ، تطايرتْ حُرُوفُهُ حُزناً فكانَ في كلِّ وادٍ وحيداً، فما انفكَّ عن العطاءِ، وكانت حُروفُه "المكسورةُ" جزءاً من نصوصٍ أخرى! أنا السَّمفونياتُ المُتردِّدُ صدَاها في قلبِ عاشقٍ اعترفَ له محبوبُه بِحبِّهِ لأوَّلِ مرَّة، بالرُّغمِ من أنّها أعطَّت للموقفِ طَعْماً ولوناً، ولكنَّها هُمِّشتْ ولمْ تكِلّْ عن الوجودِ في قلبِهِ، كلُّ مرَّةٍ لتُشعرَه بتلكُمُ اللَّذَّةِ المُحبَّبةِ. أنا العطاءُ بلا سببٍ وبلا مَنٍّ، العطاءُ المُستمرُّ إلى حدِّ الاعتيادِ، أنا التفاصيلُ الصَّغيرةُ، التي ننْساها وننْسى أنْ نشكرَها.
لستُ أخجلُ، أنا دائماً الحَلْقةُ الفارغَةُ فِي العِلاقاتِ، الهَامشُ في الغلاب، كائنٌ غيرَ مرئيٍّ، الطَّرفُ الأقلَّ حظَّاً والأعمقَ شُعُوراً، أنا دائماً مع الجُنودِ المجهولينَ! مَع الكثيرِِ منِ الهُتافاتِ غيرِ المعروفةِ على المسرحِ، مع التَّصفيقِ الحارِّ والدُّمُوعِ الثَّخينةِ، مع التَّضامنِ والتَّكافلِ. أنا صوتُ اليَدِ الواحدةِ، والمجموعةُ الواحدةُ والفريقُ الواحدُ، رحيلٌ متواصلٌ ما بينَ جبيني المُضيءِ وأَخمُصِ قدمِها المخضَّبةِ.
قولُ أحدِهم: "مُتُّ مراراً في سبيلِ أنْ أعيشَ، كانتِ الهاويةُ تلتقطُني كلَّما قفزتُ عالياً، ممَّا يزيدُ من حدَّة الارتطامِ، فلا تتعجَّب من هُدُوئي، هدَرتُ طاقتي وأنا أَستنجدُ".
متُّ كثيراً وأنا أُحاولُ الحياةَ مَع أحلامِي، واجهتُ كثيرَاً مِن البَرازِخِ في حياتي، وكانت تَجْهدُ أنْ تسحَبَني، وجَهَدْتُكي أمنعَها من ذلكَ. لقد اِعْتدَتُ على الصَّمتِ بعدَ أنْ نَفِدَ صوتي من كَثْرةِ الصُّراخِ، وهَأَنَذَا أعيشُ أيامِي بلا صوتٍ. وجدتُ فى طريقي قارورةَ ماءٍ لعلَّ أحدَ المُزارعينَ قذَفَ بها وهو عائدُ من المشروعِ، اِرتشفتُ منها قليلاً أحسستُ بأنِّي نيلٌ عادَ إلى مجراهُ بعد طولِ غيابٍ.
لستُ جيّداً بِما يكفي، يا اللهَ، لِتَهَبَني كُلَّ تلكَ النعم، واحدةً تِلْوَ الأُخرى. وتُحيطُني بأفضالِكَ من كُلِّ جانبٍ، ولكنّي يا اللهَ أعلمُ أنّ في داخلي بذرةَ إخلاصٍ، تقولُ لي دائماً: إنّ اللهَ لا يخذلُ. وكم من مرَّاتٍ حاولتُ إثباتَ عكسِها قُنُوطاً منِّي ولم أستطعْ، حتَّى اللَّحظاتِ الّتي كُنتُ أظنُّني خُذلتُ، كنتَ تعدُني بقادمٍ أجملَ وأفضلَ. أنا أعرفُ ذلكَ يا اللهَ، ولكنّي بطبيعتي في كُلِّ مرَّةٍ أستعجِلُ فرحي، فيكون عليَّ إحباطاً، وأنسَى يا ربِّ أنَّ كلَّ شيءٍ في وقتِهِ جميلٌ، في وقتِهِ المُناسبِ الّذي وضعتَه بعينِكَ التي لا تنامُ.
في داخلي صوتٌ مُستمرٌّ، ينظرُ لي ويضحكثُ بملءِ فِيهِ متشدِّقاً من ضَعْفِي، وينظرُ إليَّ بعينين دامعتَيْن لفَرطِ السُّخريَةِ. أُطُبقُ على أجفاني فتظهرُ صورةُ نهايةٍ أمامِي، أَمَلُّ النَّهاياتِ، والمُشتقَّاتُ تقتحمُ خُصُوصيَّتي، ترافقُني حتَّى في الأوقاتِ الخاصَّةِ، يتمثَّلُ إليَّ طيفُها حينَ ألمحُها، كلمةٌ في جُدرانٍ ما وانهَدَّ، معظمُ الذي نُفكِّر بِهِ سَحَابَةَ النَّهارِ حقيقةً ينامُ داخلَ أعيُننا ويظهرُ حينَ نغمضها.
جرّب أن تُغمضَ عينيك خالياً مِن كُلِّ شيءٍ
هَذا القلبُ حَتَّى منك،
مَن قالَ إنَّ في الفراغَ وحشةً؟
وهُوَ الممتلئُ حدَّ السُّكُون بالطُّمأنينة
ألوذُ إليهِ كُلَّ دقيقةٍ
أُداعبُ امتلاءَ وجنتيهِ،
وأمسحُ على صفاءِ وجهِهِ
وأبتسمُ لأجلِهِ
فارغاً مُشرقاً
في الحَقيقةِ أنَّنا كُلُّنا نَستطيعُ الحُزنَ جيِّداً، وثَمَّة قائمةٍ طويلةٍ سبباً لذلك الذي فكرتُ به حِين خَلدتُ إلى فِراشي.ونُتَفٌ مِن الأفكارِ تَهِيجُ داخل قلبي حُرقةً عليه وَلوعةً، انتابتني حَالةُ صفِّ أشياءٍ تُضايقُني، عاملُ التَّعب والإجهادِ الطَّويلِ تحتَ الشَّمسِ كان سبباً للتفكير بذلكَ! ولكنّي وفي غَمرةِ تضجُّري كُنتُ أُدركُ ذلكَ، أنا أعلمُ أنِّي أقطعُ شوطاً طويلاً من الإدراكِ الفعليِّ لمَا يصيبُني حتَّى وأنا في مُنتصفِ حُزنِي، أشياءٌ لا أستطيعُ قولَها حقَّاً لأنِّي قد أبخسُها حقَّها أو لا أستطيعُ وصفَها جيِّداً. أُدركُها جيِّداً ودائماً ومطوَّلاً! خلاصةٌ لطيفةٌ دائماً تلوح في ذهني بَعدَ ساعاتٍ من التَّفكيرِ العشوائيِّ اللامبنيَّ على أساسٍ، لأنَّه حقَّاً لا يجبُ أنْ أفكرَ في الأمرِ وأحملّه فوقَ مَا يحتملُ. كُلُّ لحظةٍ تُعاشُ بوقتِها، التفكيرُ المستمِرُّ فيها لنْ يغيِّرَ حقيقتَها، الوقتُ كفيلٌ بأنْ يُعالجَ كُلَّ شيءٍ، كلَّ شيءٍ، حَتَّى الجِراحَ.
رَحِبةٌ هَذه الليالي الأولى بَعد فُقداني لـ"معلمةٍ شكَّلتْ للحياةِ مذاقَ الخُلاصةِ التَّامَّةِ"، لا شيءَ يستحقُّ العَيشَ! وَالحقيقةُ المُطلقةُ أنَّنا نَعيشُ لنموتَ وما نَحنُ إلاَّ أمواتٌ على قائمةِ الانتظارِ، فِي رُدْهَة وَاسعةٍ اسمُها "الحياة" نجلسُ، ننتظرُ موعدَنا في الموتِ! غُرباءُ لا يعرفُ بعضُنا بعضاً، وَفي الانتظارِ نَعيشُ وننسى وعْدَنا المُساقونَ إليه، يغتبُّ بعضُنا بعضاً، نقتلُ، نبخسُ النَّاس أشياءَهم، نخونُ الأماناتِ، نكرهُ، نتجسَّسُ، نُحبُّ، نُقاتلُ، نتفاءلُ، نيأسُ، نحلُمُ، نتمنَّى، نعيشُ في الحياةِ وَكأنَّها الفُسحةُ المُطلقةُ، وننسى ما ينتظرُنا.
الساعاتُ بدونِها بَطيئةٌ، كُلُّ لحظةٍ أرى فيها خطَّ سيرِ الحياةِ وكأنَّهُ دراما من ستِّ عشْرةَ حلْقةً، بسرعةٍ تامةٍ، بلحظةٍ كاملةٍ، كُلُّ تفصيلةٍ لا تضيعُ، دمعةٌ، شعورٌ، لمعانُ عينين، خيبةُ أملٍ، انكسارٌ في الدَّاخلِ، دعواتُ وصلواتُ ما بعدَ منتصفِ اللَّيلِ، أرقٌ، استيقاظٌ متكرِّرٌ كلَّ ليلةٍ. كُلُّ ذلكَ لا تُضيعُه مَشَاهدي.
ما زلتُ في عَدميَّتي حتى لا أجيدُ إنهاءَ الحديثِ، لو استطيعُ تركَه مفتوحاً ولتضعَ بِه ما شئتَ لكانَ سهلاً، ولكنْ كيف أقولُ ذلك، أفعلُ ذلك. حتَّى العربيةُ لمبتدإِ كلامِها أوجدتِ الخبرَ، وأنا بغرابتي أخالفُ الحياةَ تواصلاً واتِّصالاً.
أصبحتُ مثلَ درويشٍ جاءَ يسألُ شيخَه مستفتياً: ما حُكمُ مَنْ سَرقَ الفُؤادَ وهاجَرَ؟
مَا من أحدٍ سرقَ الفُؤادَ لقد كُنتُ - كَعادتي - آنسُ جيّداً لممتلكاتِي، فَما عرّضتُ ذاك الفُؤادَ لخطفٍ خلسةً، لقدّ مسَّه من الخُدُوشِ ما مسَّه، وضاقتْ به الوُجُهاتُ، وصارَ كأنَّهُ الوهْنُ يُحملُ عَلى كَتِفِ السَّاعاتِ، ومعَ ذلكَ ما سُلِبَ.
كَيف للإنسانِ أنْ يتغاضَى عَن شخصٍ يُحبُّه، كَيفَ له ألاَّ يُعطيْهِ - ولو لِماماً - من الاهتمامِ شيئاً؟ هل سُنَّةُ "الّذين نحبُّهم ما أحبّونا والّذين أحبّونا ما أحببناهم"! أصحابُ التَّأسِّي المُطلق، "لا يشعرُ إلا إذا فقَدَ" و"لا يعتبرُ إلا إذا خَاضَ". ألاَّ يعلمونَ أنَّ الّذينَ يحبُّونَهم سيخوضُون معهم الحياةَ من أصعبِ أبوابِها! ألاَ يتساءلُ الفردُ مَتى سيشعرُ به الآخرُ؟. يتساءلُ ولكنّه في نهايةِ المطافِ! يتعبُ فيخبُو ما بداخلِهِ ويمضِي. يُمسكُ الصَّورَ القديمةَ وكأنّها مشاعرُهُ، فيكونُ عليها صقيعاً لا حرارة تُعيد فيها ولو "الدِّفءَ"! هل تعلمُ ماذا يعني ذلكَ؟ يعني - باختصارٍ - موتاً سريريَّاً للقلبِ.
الّذي أمسكَ قلبَكَ من خاصِرتِه وأوحَى إليكَ برقَّتِه كَانَ يُمارسُ سَخْطَه عليكَ، ويمهّدُ الطَريقَ ليخدشَكَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمال! ما كَان يُحبُّ. كَان يُجرّبُ كَيف يكونُ الإنسانُ سيئاً عليكَ! ستمرُّ الأيَّامُ وسينسَى متقلِّباً في نعيمِهِ غيرَ آبهٍ أو ذاكرٍ حتى لِمَا كان منه، وستبقى أنتَ في كلِّ ليلةٍ - وسيطولُ ليلُك – وحدَكَ، وحُزنُك وتفكيرُك الطويلُ ينعي بعضُكم بعضاً، على سُطُوحِ البيتِ أو تحتَ الفِراشِ الصَّامتِ أو أمامَ كتابِكَ اللَّيليِّ، بِلا أدنى فكرةٍ عمَّا حدثَ، سوى أنّك حزينٌ! ستسرحُ وتفكّرُ، تأكلُ وتفكّرُ، تقرأُ وتفكّرُ، تدرسُ وتفكّرُ، تنامُ وتفكّرُ، تسمعُ وتفكّرُ. بماذا أخطأتَ ليكونَ نصيبُكَ من الإساءةِ تشوهاتٍ واضحةً في قلبِكَ لا عملياتِ تجميلٍ قادرةً على تعديلِها؟! ولنّ تجدَ الإجابةَ.
مثلما يَنعي الزَهرُ ساقيهِ، كَانت نُصوصي تنعي خَيبتي فِي كلِّ مَرَّةٍ، ولكنْ الآنَ وَبعدَ أنْ فقدتَها جُرعةً كاملةً مُشبعةً! من سِينعاني؟!
التَّذوقُ يُبطلُ العجبَ أحياناً، بلْ وقد يقتلُه! فَكيفَ بقلبي ما بُطلَ سحرُ دواخلِه وما قُتِلَ، وكأنَّ عينيكَ روايةٌ وكأنَّني فيهما قَارئٌ وَفيٌّ، مَا حِدّتُ عَن النَّهجِ وما ارتأيتُ أفضلَ منهُ، مُلهماً لدواخلِي ووطناً آمناً لكلماتي! هلِ الحُبُّ نتاجُ أيدينا أم قلوبِنا؟! ما زلتُ حائراً في ذلكَ.
حدَّثني اللهُ ذاتَ ليلةٍ، أنَّك أُنثى لن تأتيَ إلاَّ في أزمنتي الخاصَّة، ولا أتذكرُ جيِِّداً حينما كنتُ أتنزَّهُ في أزقَّة نفسي الجريحةِ من غيابِكِ.
اِحترقَ مسائي، ولا تطلعُ شمسٌ إلا عندما تُعطي نهديكِ إشارةَ الاستئذانِ.
لمَاذا أنا هُنا يا اللهَ؟؟!
أنتَ تعلمُ أنَّ الرَّحيلَ مطرٌ وعصائدُ(5) وقصائدُ. كلِّمني يا الله، فبعضُ الاستفهاماتِ خناجرٌ.
تمت ......
ملحق
1| بِزاف: كلمة مأخوذة عن العامية المغربية وتعني الكثير.
2|التُّكُل: مكان لتحضير الطعام في الريف السوداني.
3| حَنْبَكَ: عامية سودانية تعني اشتاطَ غضباً.
(4) السَّهتان: كلمةٌ منحوتةٌ من السَّرحانِ والتَّوهَانِ، وهي من اجتراح الشاعر السوداني عثمان البشرى، وردت في كذا نص من نصوصه الشّعريّة.
(5) عصائد: واحدتها عصيدة، ضرب من طعام شائع بين سواد السودانيين، يتخذ من دقيق الذرة الرفيعة أو الدخن.
جمال يوسف احمد الشيخ
موسكو - روسيا
Comments
Post a Comment