بكائيات ما بعد الغياب
عندما تنشب المنيّة أظفارها ونلفى كل تميمة لا تنفع؛ عندها تجود قرائح الشعراء والباكين حزنًا.. فشبح هادم اللذات يستنطق قرائح ربما كانت صامتة أبد الدهر فتنتج رؤى شعرية تخلد على مرّ الزمان..
حينما نودع مسافراً نعيش على أمل اللقاء ولو بعد حين.. ولكن وداع من توسّد الثرى يقطع كل أمل في العود الأحمد؛ وتصبح أماني اللقيا أرضًا يبابًا كما في قول عبيد بن الأبرص: (وَكل ذي غيبة يؤوب.. وغائب المَوتِ لا يؤوب).
وتغدو مآقي الشعراء ساعتئذ منابع تفيض شجنًا وحزنًا، فيسكب يراعها قوافي تخلّد سيرة المرثي بأجمل الحروف، وتزفر أنفاسا حرى تضرّم نار القصيد..
يتميّز شعر المراثي برقّة الحِس وصدْق العاطفة والميل إلى الواقعية، كما أنّه يمزج بين عاطفتي الأسى والتعظيم..
وتورد كتب السير والتاريخ أنّ صفية بنت عبد المطلب رثت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة:
(ألا يا رسول الله كنت رجاءنا، وكنت بنا برا ولم تك جافيا.. وكان بنا برا رحيما نبينا، ليبك عليك اليوم من كان باكيا.. لعمري ما أبكي النبي لموته، ولكن لهرج كان بعدك آتيا) ..
وقال حسان في قصيدة يرثي النبي الكريم:
ما بال عينك لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهديّ أصبح ثاوياً
يا خيرَ من وطئ الحصى لا تبعد..
فظللتُ بعد وفاته متلدداً
يا ليتني جرعت سم الأسود
أول ما يتبادر إلى ذهن المتلقي عند سماع مفردة المراثي هي أشعار الخنساء بنت عمرو بن الشريد، وبكاؤها أبيها وأخويها صخر ومعاوية، وإن كانت معظم هذه البكائيات جرت على أخيها صخر؛ فقد كان بارًا بها وعطوفا عليها فلما مات جراء علة اصابته في القتال والزمته الفراش زمنا طويلا؛ حزنت عليه حزنا شديدا
وأنشدت مراثيها التي تُصوّر آلامها وتُشيد بمناقبه وفضائله التي جعلته يتزعّم قبيلته منذ الصغر:
قذى بعينك أم بالعين عوار
أمْ ذرفت إذ خلت من أهلهَا الدار
كانّ عيني لذكراهُ إذا خطرت
فيضٌ يسيل على الخدّين مدرار
كما ترثيه في موضع آخر:
أعيني جودا ولا تجمُدا، ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل، ألا تبكيان الفتى السيّدا
طويل النجاد رفيع العماد، ساد عشيرته أمردا..
وتذكرنا أبيات الخنساء من حيث المقاربة والوصف الحسي للمرثي بأشعار بنونة بت المك نمر، حينما تحسّرت على موت أخيها عمارة الذي مات على فراش المرض لا في ساحة الوغى:
ما هو الفافنوس ما هو الغليد البوص
ود المك عريس خيلا بجن عركوس
أحي على سيفه البحت الروس
فالخنساء وصفت أخاها بأنه رفيع العماد، والعماد جمع
مفرده عِمادة ويجمع أيضًا على عَمَد وعُمُد، وهي خشبة تقوم عليها الخيمة، وبمعنى آخر فالعِمَادُ هو كل ما رفع شيئاً وحمله، ونقول فلان رفيع العِماد: أي شريف والأمر هنا كناية عن رفعة المنزلة..
والنجاد هو محمل السيف، وطالما أنّ محمل السيف أو غمده طويل فهذا يعني أنّ صاحبه طويل القامة يملأ العين.
أمّا بنونة فقد وصفت أخاها بأنّه ليس مثل نبات "الفافنوس" ذلك النبات الرخو الذي ينمو على ضفاف النيل ويسهل قطعه، ثم نفت أن يكون (غليدا) وهذا يعني أنّه وسط لا يشتكي من سمنة ولا نحافة، وليس فارغا كالقصبة الجوفاء التي يسهل كسرها وهنا كناية على قوة الشكيمة والجسد والعزم والحزم.. ومثلما وصفت الخنساء سيف صخر وصفت بنونة سيف أخيها الذي تعجب الحداد من ارتوائه بالدم وهنا كناية عن الشجاعة وعدد المعارك التي خاضها وكذلك وصفت خوذته ودرعه الحديدي اللامع في الحرب مثل الشمس المتقدة عند الظهيرة:
كوفيتك الخودة أم عصا بولاد
ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقّاد
وسيفك من سقايته استعجب الحدّاد
وتظهر بنونة أسفها على تلك الميتة السهلة (ما دايرالك الميته أم رمادا شح، دايراك يوم لقى بدميك تتوشّح) والتي تذكرنا بموت صخر نفسه إذ لم يمت في أرض المعركة على الرغم من أنه طلاع أودية وهباط أودية، وبمقولة خالد بن الوليد ساعة احتضاره: (لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما تموت العير، فلا نامت أعين الجبناء)..
إن الأدب الشعبي السوداني يزخر بكثير من المراثي والمناحات فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك مناحة "الوليد الضيف" وكذلك "الواعي ما بوصوه" التي نظمتها بت مسيمس في الشهيد عبد القادر ود حبوبة، والذي رثته أخته رقية أيضًا بأبيات:
بتريد اللطام أسد الكداد الزام
هزيت البلد من اليمن للشام
سيفك للفقر قلام
وهناك أيضا مناحة "حليل موسى" والتي يقال إنّها كانت أول نص غنائي في السودان وإن كان الرواة قد اختلفوا حول موسى هذا.. هل هو موسى أبحجل من "منطقة الرُباطاب " أم هو موسى ودجلى فارس قبيلة بنى جرار إحدى بطون قبائل الشكرية.. وإن كانت الأكثريّة ترجّح أنّه موسى أبحجل فهو الذي قاد جيش الرُباطاب والمناصير ليستشهد في "وادي الكربكان عند الجبل الذى سُمى باسمه لاحقاً " ولتبكيه أخته كما بكت الخنساء وبنونة أخويهما:
حليل موسى يا حليل موسى/ حليل موسى اللي للرجال خوسا/ حليل موسى السيفو لاحوسه..
وفي البال بقية..
الجريدة - حراك
عندما تنشب المنيّة أظفارها ونلفى كل تميمة لا تنفع؛ عندها تجود قرائح الشعراء والباكين حزنًا.. فشبح هادم اللذات يستنطق قرائح ربما كانت صامتة أبد الدهر فتنتج رؤى شعرية تخلد على مرّ الزمان..
حينما نودع مسافراً نعيش على أمل اللقاء ولو بعد حين.. ولكن وداع من توسّد الثرى يقطع كل أمل في العود الأحمد؛ وتصبح أماني اللقيا أرضًا يبابًا كما في قول عبيد بن الأبرص: (وَكل ذي غيبة يؤوب.. وغائب المَوتِ لا يؤوب).
وتغدو مآقي الشعراء ساعتئذ منابع تفيض شجنًا وحزنًا، فيسكب يراعها قوافي تخلّد سيرة المرثي بأجمل الحروف، وتزفر أنفاسا حرى تضرّم نار القصيد..
يتميّز شعر المراثي برقّة الحِس وصدْق العاطفة والميل إلى الواقعية، كما أنّه يمزج بين عاطفتي الأسى والتعظيم..
وتورد كتب السير والتاريخ أنّ صفية بنت عبد المطلب رثت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة:
(ألا يا رسول الله كنت رجاءنا، وكنت بنا برا ولم تك جافيا.. وكان بنا برا رحيما نبينا، ليبك عليك اليوم من كان باكيا.. لعمري ما أبكي النبي لموته، ولكن لهرج كان بعدك آتيا) ..
وقال حسان في قصيدة يرثي النبي الكريم:
ما بال عينك لا تنام كأنما
كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعا على المهديّ أصبح ثاوياً
يا خيرَ من وطئ الحصى لا تبعد..
فظللتُ بعد وفاته متلدداً
يا ليتني جرعت سم الأسود
أول ما يتبادر إلى ذهن المتلقي عند سماع مفردة المراثي هي أشعار الخنساء بنت عمرو بن الشريد، وبكاؤها أبيها وأخويها صخر ومعاوية، وإن كانت معظم هذه البكائيات جرت على أخيها صخر؛ فقد كان بارًا بها وعطوفا عليها فلما مات جراء علة اصابته في القتال والزمته الفراش زمنا طويلا؛ حزنت عليه حزنا شديدا
وأنشدت مراثيها التي تُصوّر آلامها وتُشيد بمناقبه وفضائله التي جعلته يتزعّم قبيلته منذ الصغر:
قذى بعينك أم بالعين عوار
أمْ ذرفت إذ خلت من أهلهَا الدار
كانّ عيني لذكراهُ إذا خطرت
فيضٌ يسيل على الخدّين مدرار
كما ترثيه في موضع آخر:
أعيني جودا ولا تجمُدا، ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل، ألا تبكيان الفتى السيّدا
طويل النجاد رفيع العماد، ساد عشيرته أمردا..
وتذكرنا أبيات الخنساء من حيث المقاربة والوصف الحسي للمرثي بأشعار بنونة بت المك نمر، حينما تحسّرت على موت أخيها عمارة الذي مات على فراش المرض لا في ساحة الوغى:
ما هو الفافنوس ما هو الغليد البوص
ود المك عريس خيلا بجن عركوس
أحي على سيفه البحت الروس
فالخنساء وصفت أخاها بأنه رفيع العماد، والعماد جمع
مفرده عِمادة ويجمع أيضًا على عَمَد وعُمُد، وهي خشبة تقوم عليها الخيمة، وبمعنى آخر فالعِمَادُ هو كل ما رفع شيئاً وحمله، ونقول فلان رفيع العِماد: أي شريف والأمر هنا كناية عن رفعة المنزلة..
والنجاد هو محمل السيف، وطالما أنّ محمل السيف أو غمده طويل فهذا يعني أنّ صاحبه طويل القامة يملأ العين.
أمّا بنونة فقد وصفت أخاها بأنّه ليس مثل نبات "الفافنوس" ذلك النبات الرخو الذي ينمو على ضفاف النيل ويسهل قطعه، ثم نفت أن يكون (غليدا) وهذا يعني أنّه وسط لا يشتكي من سمنة ولا نحافة، وليس فارغا كالقصبة الجوفاء التي يسهل كسرها وهنا كناية على قوة الشكيمة والجسد والعزم والحزم.. ومثلما وصفت الخنساء سيف صخر وصفت بنونة سيف أخيها الذي تعجب الحداد من ارتوائه بالدم وهنا كناية عن الشجاعة وعدد المعارك التي خاضها وكذلك وصفت خوذته ودرعه الحديدي اللامع في الحرب مثل الشمس المتقدة عند الظهيرة:
كوفيتك الخودة أم عصا بولاد
ودرعك في أم لهيب زي الشمس وقّاد
وسيفك من سقايته استعجب الحدّاد
وتظهر بنونة أسفها على تلك الميتة السهلة (ما دايرالك الميته أم رمادا شح، دايراك يوم لقى بدميك تتوشّح) والتي تذكرنا بموت صخر نفسه إذ لم يمت في أرض المعركة على الرغم من أنه طلاع أودية وهباط أودية، وبمقولة خالد بن الوليد ساعة احتضاره: (لقد شهدت مائة زحف أو نحوها، وما في بدني موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما تموت العير، فلا نامت أعين الجبناء)..
إن الأدب الشعبي السوداني يزخر بكثير من المراثي والمناحات فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك مناحة "الوليد الضيف" وكذلك "الواعي ما بوصوه" التي نظمتها بت مسيمس في الشهيد عبد القادر ود حبوبة، والذي رثته أخته رقية أيضًا بأبيات:
بتريد اللطام أسد الكداد الزام
هزيت البلد من اليمن للشام
سيفك للفقر قلام
وهناك أيضا مناحة "حليل موسى" والتي يقال إنّها كانت أول نص غنائي في السودان وإن كان الرواة قد اختلفوا حول موسى هذا.. هل هو موسى أبحجل من "منطقة الرُباطاب " أم هو موسى ودجلى فارس قبيلة بنى جرار إحدى بطون قبائل الشكرية.. وإن كانت الأكثريّة ترجّح أنّه موسى أبحجل فهو الذي قاد جيش الرُباطاب والمناصير ليستشهد في "وادي الكربكان عند الجبل الذى سُمى باسمه لاحقاً " ولتبكيه أخته كما بكت الخنساء وبنونة أخويهما:
حليل موسى يا حليل موسى/ حليل موسى اللي للرجال خوسا/ حليل موسى السيفو لاحوسه..
وفي البال بقية..
الجريدة - حراك
Comments
Post a Comment