القراءة "النبوية" المزعومة تتزامن مع اعلان الرئيس الاميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لاسرائيل في 6 ك1 2017. "نبوءة زكريا تتحقق"، وفقا لما تتناقله "منصات" دينية اميركية داعمة لاسرائيل. وتعزز مزاعمها بأحداث اعقبت القرار الاميركي: تظاهرات احتجاجية فلسطينية وعربية، وايضا تصويت الجمعية العمومية للامم المتحدة ضد القرار الاميركي...
"شيء جديد ومثير يحدث للقدس"، وفقا للاقاويل. ويشطح بعيدا مطلقوها في شرح نبوءات لانبياء من العهد القديم، وفقا لرؤيتهم الدينية الخاصة. ووقعها ليس مرحبا به اطلاقا. "الكتاب المقدس يمتلىء بصور وارقام كثيرة ونبوءات. وتلك التفسيرات التي تعطى لها كل فترة، سطحية. من المؤسف ان ينخفض تفسير الكتاب المقدس الى هذا المستوى"، على ما يقول النائب العام للرهبانية الانطونية الباحث في الكتاب المقدس الدكتور الاب انطوان عوكر لـ"النهار". من هو النبي زكريا؟ ماذا عن سفره؟ من يقف وراء تسويق نبوءته عن القدس؟ وهل فعلا تتحقق؟
زكريا
ما يجب معرفته عن سفر زكريا هو انه "لا يمكن، كسفر اشعيا، ان يُنسَب الى نبي واحد. فالفصول 1-8 تختلف كليا عن الفصول 9-14، وتكوّن كتابا واضح الحدود يُنسب الى النبي زكريا، المعاصر لحجّاي، في زمن العودة من الجلاء. اما القسم الثاني، فانه من عمل كاتب جاء بعد زكريا، ويسمّى عادة زكريا الثاني"، وفقا لشرح الكتاب المقدس– دار المشرق.
اوّلا النبي زكريا، و"يكاد لا يُعرف شيئا عنه، ويتوارى وراء عمله. يعرّف عن نفسه بانه حفيد عدّو، وربما ابن عدو، ويبدو انه كان نحو العام 500 (ق.م) رئيس اسرة عدّو الكهنوتية... هذا الكاهن ينتمي صراحة الى السلالة الروحية للانبياء القدماء، ويكرر دعوتهم الى التوبة، ويتصل بهم بعدد من الاقتباسات الادبية".
في "زكريا الثاني"، "تتغيّر الحالة السياسية"، وفقا للملاحَظ، وايضا "المؤشرات الادبية". في هذا الكتاب، "قسمان متوازيان يتحقق فيهما عمل الخلاص في حركة مزدوجة: انزلاق الشعب الى الفشل، وتجديد تام يأتي بالخلاص"، وفقا للشرح. في القسم الاول (9/1- 11/17)، "ينبىء النبي، كما في بلاغ الانتصار، بتدخل نهائي لله". وفي الثاني (12/1- 14/21)، "يبدو كل امل مفقودا، فتحدث ذبيحة المطعون انقلابا... الخلاص يشمل العالم كله، وعلى كل الشعوب ان تلحق باسرائيل فتعترف بملك الرب". في هذا القسم تحديدا، نجد النبوءة المسوَّقة: "ها ان يومًا للرب يأتي وتُقسَّمُ غنيمتك في وسطك وأجمع كل الامم على اورشليم للقتال، فتؤخذ المدينة، وتُنهَب بيوتهم وتوطأ نساؤهم، ويخرج نصف المدينة الى الجلاء، لكن لا تنقرض بقية الشعب من المدينة، ويخرج الرب ويحارب تلك الامم، كما يحارب في يوم القتال" (زكريا 14: 2-4).
"من اجل اسرائيل"
ما يُسوَّق لنبوءة زكريا هو "انها تتحقق" الآن. ومن يقف وراء هذه المزاعم فئة في الولايات المتحدة تعرّف عن نفسها بـ"اننا مسيحيون، وهدفنا الوقوف مع اسرائيل، عبر الدعم والصداقة، وتثقيف الكنيسة في كل ارجاء العالم حول اهداف الله من اجل اسرائيل والامم في الشرق الاوسط...".
هذه الفئة يترأسها الدكتور جورغن بوهلر. واعلنت تأسيس "السفارة المسيحية الدولية في القدس" العام 1980، "اعترافا بالاهمية التوراتية لجميع القدس، وصلتها الفريدة بالشعب اليهودي"، وفقا للموقع الالكتروني للسفارة. مقرها الرئيسي في القدس، و"تصل إلى أكثر من 170 بلدا في جميع أنحاء العالم، ولها مكاتب فرعية في أكثر من 90 دولة". وتدخل في الحلقة نفسها مجموعة "مسيحيون من اجل اسرائيل"، ومجموعات اخرى لديها التوجهات نفسها: "الوقوف مع اسرائيل".
6 ك1 2017. الرئيس ترامب قرر أن "الوقت حان لأن نعلن رسميا الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، ونقل السفارة الاميركية من تل ابيب اليها. الاعلان الاميركي قوبل بعاصفة من الاستنكارات الدولية والعربية والتظاهرات الاحتجاجية، في مقابل ترحيب اسرائيلي حار، وصولا الى تصويت الجمعية العمومية للامم المتحدة في 21 ك1 على رفض قرار ترامب بتأييد 128 دولة، في مقابل 9 دول معترضة، و35 ممتنعة.
الكلام ديني. "من وجهة نظر الكتاب المقدس، يؤكد قرار ترامب أهمية القدس في اهداف الله"، على قول رئيس "مسيحيون من اجل اسرائيل" القس ويليم ج.ج غلاشوير في بيان. ويستند الى كلام النبي زكريا (الثاني) بهذا الشأن، ليخلص الى ان هذا القرار "يمكن أيضا أن يكون علامة على قرب انتهاء زمن الأمم الوثنية، وبدء إنشاء القدس كعاصمة العالم، المكان الذي ستخرج منه كلمة الرب عندما يأتي المسيح، ويحكم بين الأمم".
قرار ترامب وكل ما تسبب به من توترات في الشرق الاوسط وتصويت الامم المتحدة، "علامة من علامات الازمنة"، وفقا له ولغيره من الحلقة نفسها. "شيء جديد ومثير يحدث للقدس نفسها، ويدفعها الى مصيرها النبوي ويطلقها فيه"، وفقا لنائب رئيس "السفارة المسيحية الدولية في القدس" ديفيد بارسونز. ويشير الى نبوءة زكريا وانبياء آخرين من العهد القديم، و"نعرف ان هذا ما ينتظرنا".
الخلفية اللاهوتية واضحة"
القدس والنبوءات عنها. والشرح مغاير كليا لما تزعمه تلك الفئات وتسوّق له. "النبوءة التي أُشيرَ اليها حول اورشليم ليست الوحيدة بهذا الشأن في سفر زكريا. انها موجودة في كل افكار الانبياء. ونجدها ايضا لدى اشعيا وارميا وحزقيال ويوئيل في "يوم الرب"، على ما يوضح عوكر.
لتلك الافكار خلفية لاهوتية "واضحة جدا"، في تعبيره. "في الماضي، عندما كان شعب يحارب بني اسرائيل وينتصر عليهم، كان الانبياء يقولون لهم انه لا يمكن إله ذلك الشعب ان ينتصر على إلهنا، لانه قوي. ويدعونهم بالتالي الى ان يبحثوا عن خطيئتهم ليتوبوا عنها. اما اذا انتصر بنو اسرائيل، قالوا لهم ان إلههم اقوى من إله ذلك الشعب، فحققوا النصر". ويتدارك: "الفكرة التي سادت في ذلك الزمن ان إله بني اسرائيل اقوى إله، وهو الإله الحقيقي، ومدينتهم لا تسقط. وبالتالي فان مصير كل الشعوب التي ستحاربهم هو الهزيمة لا محالة".
عن "شوق" لدى هؤلاء الانبياء يتكلم، عن "توق" الى ان "تصبح اورشليم يوما ما محجة الامم كلها التي ستعرف ان إله اورشليم هو الإله الحقيقي". في هذا الاطار، تبرز نبوءات عدة في العهد القديم، بينها نبوءة زكريا (الثاني) تحديدا التي أُخرجت الى الضوء. ما يقوله النبي عبرها هو "انها تتم بفكرة لاهوتية او اسكاتولوجية (رؤيوية)، اي انه يجب ان تعرف كل الامم، في نهاية الزمن، ان إله اسرائيل هو الإله الحقيقي"، على ما يشرح.
مطاط
اورشليم ستسقط وتشهد حروبا ودمارا... صحيح. لكن في الفكرة النبوية تلك، "سيحارب إلهها عنها، وينقذها، ويرد اليها الاعتبار، لانها مدينته الالهية الوحيدة، وقد جعلها موطىء قدميه. ولانه الاله الحقيقي، لا يمكن ان تنتهي الامور الا بانتصارها"، على ما يتابع عوكر.
"في شكل رؤيوي او جلياني"، يكتب انبياء العهد القديم. وهذا الاسلوب تحديدا "مطاط"، في تعبيره. وهذا يعني انه "كل ما نضعه فيه، يمكن قوله. هل سيتحقق الامر ام لا؟ نتكلم بالرموز، وليس عن نبوءة ستتحقق"، على ما يشرح. على سبيل المثال، نقرأ في تكملة نبوءة زكريا تلك (16: 6-7): "في ذلك اليوم، لا يكون يوم صاف، ثم يوم غائم. ويكون يوم واحد، وهو معلوم عند الرب، ولا يكون نهار ولا ليل، بل يكون وقت المساء نور".
هذه الصورة نجدها ايضا في سفر رؤيا القديس يوحنا (22: 5)"، على ما يوضح، ونقرأ انه "لن يكون ليل بعد الآن، فلن يحتاجوا الى نور سراج ولا ضياء الشمس، لان الرب الإله سيضيء لهم، وسيملكون ابد الدهور". والمقصود بذلك القول، "ليس ان الشمس ستظلم والقمر سيزول، بمعنى ان كوارث ستحصل، بل انه لن تعود حاجة الى نورهما، لان الهنا هو النور الحقيقي".
استكمال قراءة سفر زكريا حتى نهايته امر ضروري لفهم الامور في ضوء كلام يسوع المسيح لاحقا في العهد الجديد. الصعود الى اورشليم، عيد الاكواخ، تقدمة المذبح، "ولا يكون تاجر في بيت رب القوات في ذلك اليوم" (زكريا 14: 16-21). "ما اراد يسوع المسيح قوله يوم طرد باعة البقر والغنم والحمام والصيارفة من الهيكل (يوحنا 2: 13)، هو ان هذه الآية تمت به. وبالتالي لا لزوم لذبائح. الفكرة هي انه اصبح الذبيحة الحقيقية. لا يُفهَم عمله ذلك الا في ضوء ما اراد قوله، وهو انه لم تعد هناك سوى ذبيحته هو". ويتدارك: "الاسلوب رؤيوي في زكريا. وقد فهمته الكنيسة الاولى انه تم مع يسوع المسيح. والباقي تفاصيل".
يوبيل القدس؟
نبوءة زكريا ونبوءات انبياء العهد القديم لتسويق علامات نبوية حول القدس وقرار ترامب بشأنها. وتضيف اليها تلك الفئة الاميركية الداعمة لاسرائيل ما تسميه "اليوبيل الخاص بالقدس". ما تؤمن به وتعلنه هو ان "القدس دخلت دورة من 50 سنة". وتدعم رأيها بان عالم الآثار البريطاني تشارلز وارن اكتشف قبل 150 عاما مدينة داود الأصلية. وبعد 50 عاما (1917)، استولى الجنرال إدموند اللنبي على المدينة، منهيا بذلك 400 سنة من الحكم العثماني.
العام 1967، استولت إسرائيل على مدينة القدس القديمة وجبل الهيكل، للمرة الأولى منذ أكثر من 2000 عام. ثم جاءت سنة 2017. "آمنّا بان الله قد يفعل شيئا مهما في القدس هذه السنة... وفي نهايتها، اعلنت الحكومة الاميركية القدس عاصمة لاسرائيل"، وفقا لبوهلر. بتعابير اخرى لبارسونز، "كان الرب يظهر لنا، منذ بداية 2017، ان دورة يوبيلية تتحقق للقدس في العصر الحديث، بحيث يحصل امر مهم، كل 50 سنة، ويطلق المدينة أكثر في مصيرها النبوي".
في شرح اليوبيل، وفقا للعهد القديم، "قد يكون اسبوعيا، بحيث يعمل المرء 6 ايام ويرتاح السبت. وهناك اليوبيل السنوي، بحيث يعمل 6 سنوات ويستريح في السنة السابعة. وهناك ايضا اليوبيل الـ50، بحيث يشتغل الشخص 49 سنة، ويستريح في السنة الـ50". ما يقصده عوكر، في كلامه، هو ان "اليوبيل ليس من اجل ان يجري الله احداثا لبني اسرائيل، بل هي احداث يتوجب عليهم القيام بها، كتذكار لنعمة الله عليهم، وليس نتيجة قدراتهم الذاتية". ويتدارك: "سنة اليوبيل هي سنة افعال خير يقوم بها الشعب، وليست سنة تحوّل في بني اسرائيل".
ملاحظة اخرى. في اسفار عدة في العهد القديم (دانيال، ارميا...)، "اليوبيل يمتد على 70 سنة، وليس 50"، على ما يقول. وهذا يفتح ايضا الباب امام تذرع مستقبلي بان "امرا ما سيحصل بعد 20 سنة، وان اليوبيل الـ70 حان". وبالتالي على قراء النبوءات ان يفهموا ان الكتاب المقدس "يمتلىء بصور وارقام ونبوءات كثيرة"، وان "تلك التفسيرات التي تعطى لها، كل فترة، سطحية. من المؤسف ان ينخفض تفسير الكتاب المقدس الى هذا المستوى".
توضيح اخير. في ضوء الافكار التي تسوّقها تلك الفئةالاميركية، التشكيك جدي في "انها مسيحية كما تزعم"، على قول عوكر. في وضع النقاط على الحروف، "انهم مجرد اشخاص يستخدمون المسيحية لنشر الافكار اليهودية".
Hala.homsi@annahar.com.lb
المصدر: النهار
Comments
Post a Comment