Skip to main content

ترجمة خاصة : عبير حماد--------موت عصر ما بعد الحداثة وما وراء ذلك

3532317510808832

يقول آلن كيربي بأن عصر ما بعد الحداثة مات ودُفن، ويأتي بديلًا عنه وفي مكانه نموذجٌ جديد من السلطة والمعرفة تشكلَ تحت ضغط التكنولوجيا الجديدة والقوة الاجتماعية الحديثة.

ويوجد هنا أمامي توصيف لأحد المقررات مُحمل من الموقع الإلكتروني لقسم اللغة الإنجليزية في إحدى الجامعات البريطانية، ويتضمن التوصيف تفاصيل للواجبات وقائمة القراءة الأسبوعية للمقرر الاختياري ” الأدب الخيالي في عصر ما بعد الحداثة”. وإذا بقي اسم الجامعة هنا مجهولًا فليس لأن المقرر مخجل بأي شكل من الأشكال بل لأنه و بكل سهولة يمثل المقررات أو أجزاء من المقررات والتي فعليًا ستدرس في كل أقسام اللغة الإنجليزية في هذه البلاد العام الأكاديمي القادم، والذي يعتبر أن عصر ما بعد الحداثة حيٌ و مزدهرٌ ونشيط، والذي يقول بأنه سيستعرض “المواضيع العامة لـ “ما بعد الحداثة” و “ما بعد الحداثي”  باختبار علاقاتهم مع كتابة أدب الخيال الحديثة”، و لربما اقترح هذا كون عصر ما بعد الحداثة هو الحديث والمعاصر، ولكن المقارنة في الحقيقة تظهر بأنه –أي ما بعد الحداثة- ميت ومدفون.

تؤكد فلسفة عصر ما بعد الحداثة على مراوغة المعنى والمعرفة، وعادةً ما يُعبر عن هذا في فن عصر ما بعد الحداثة كقلق معروض في العمل مع الوعي بالذات اللا تهكمية، كما أن الجدال الذي أنهاه ما بعد الحداثة تحول الآن إلى جدال فلسفي. هناك مجموعة من الأشخاص أكدت حقيقة كوننا آمنا لفترة من الزمن بأفكار ما بعد الحداثة ولكن ليس بعد الآن، ومن الآن فصاعدًا سنؤمن بالواقعية النقدية. ويكمن الضعف في هذا التحليل في كونه يركز على ما هو أكاديمي، وعلى ممارسات و فرضيات الفلاسفة الذين ربما لا يغيرون تلك الخلفية أو على وشك تغييرها، و عدد من الأكاديميين سيقررون ذلك ببساطة ،وأخيرًا سيفضلون أن يختاروا فوكو (من الحداثيين القدماء) على اختيار أي مادة أخرى. أيًا يكن فإن حالة أخرى قسرية يمكن أن تظهر كون عصر ما بعد الحداثة ميت ومنتهي بالنظر خارج النطاق الأكاديمي ووفقًا للإنتاج الثقافي الحالي.

معظم الطلاب الجامعين الذين سيدرسون “أدب ما بعد الحداثة الخيالي” هذه السنة هم من مواليد سنة 1985 أو بعدها، وكل نصوص المقررات الأساسية إلا واحدٌ منها كُتبت قبل حياتهم، وبالنأي عن كونها “حديثة” فهذه النصوص نُشرت في عالم آخر قبل ولادة هؤلاء الطلاب كالروايات التالية : أنثى الملازم الفرنسي، ليالي في السيرك ،لو أن مسافرًا في ليلة شتاء ،هل يحلم أندرويدز بخروف كهربائي؟ العداء الحاد، و الضجيج الأبيض، فهذه الأعمال هي من ثقافة الآباء والأمهات، فبعض هذه النصوص كالقصة (مكتبة الإنجيل) كُتبت حتى قبل ولادة آبائهم.

استبدلوا هذه الأعمال المندثرة بالأعمال الموثوقة لما بعد الحداثة كالروايات : المحبوب ،بغباء فلوبير ، أرض المياه ، بكاء الجزء 49،الحريق الباهت ، المسلخ 5، لانارك ، نيورومانسر وأي عمل لبراين ستانلي جونسون ومن يشابهه. فهي كلها حديثة كحداثة فرقة ذا سميثز وتُحدث كما تُحدث صيغة البيتاماكس التسجيلية. فهذه النصوص تضاربت مع وجود موسيقى الروك والتلفاز، فهم على الأرجح لم يحلموا حتى باحتمالية وجود التقنية و الاتصالات الإعلامية كالجوالات والبريد الإلكتروني وشبكة الإنترنت والحواسيب في كل منزل لتكون قوية بما فيه الكفاية لتضع شخصًا ما على سطح القمر، والتي يعتبرها الطلاب الجامعيون اليوم من المُسلمات.

يعود السبب وراء كون النماذج التي تُوضع للقراءة الأساسية في أدب ما بعد الحداثة الخيالي قديمة جدًا أنها لم تجدد، فلنقي نظرة على السوق الثقافي: اشتري رواية نُشرت خلال الخمس سنوات الفائتة ،شاهد فيلمًا من القرن الواحد والعشرين، استمع إلى آخر ما صدر من الموسيقى، قبل هذا كله اجلس وشاهد التلفاز لمدة أسبوع ستجد وبصعوبة لمحات من ما بعد الحداثة. على نحو مماثل يمكن أن يذهب الشخص إلى مؤتمر أدبي (كما فعلت أنا في شهر يوليو) والجلوس بين دزينة من الأوراق التي لم تأتي مطلقًا على ذكر نظرية أيًا من دريدا ، فلوبير، بودريار. وحس الإعفاء المنتشر بين الأكاديميين لأهمية عددٍ كبيرٍ من النظريات وانعدام ترابطها يتجه إلى الإقرار بتجاوز ما بعد الحداثة، فالأشخاص الذين ينتجون المواد الثقافية التي يقرأها ويشاهدها ويسمعها الأكاديميون وغيرهم أحجموا ببساطة عن ما بعد الحداثة. ستظهر عرضيًا نصوص الوعي بالذات والقص الماورائي لتنتشر بلا مبالاة كـ حديقة لونار لبريت إيستون إيلس، ولكن الروايات الحداثية منسية الآن منذ وقت طويل والتي كانت تكتب في الأطفال الكارتونية كـالغول شريك والخارقون ،كرشوة لجلوس الآباء الواجب مع أطفالهم ،و عند هذا المستوى غرق عصر ما بعد الحداثة، بكونه مصدرًا للفجوات الجانبية في ثقافة البوب والتي استهدفت من هم تحت الثامنة.

 

ما هو عصر ما بعد الحداثة؟

أعتقد بأنه لا يوجد تحول أكبر من تغيير بسيط في الطراز الثقافي، فمصلحات كالسلطة والمعرفة ، الفردية ،الواقع والوقت والتي لها تصور معين غُيرت فجأة وللأبد. فهناك الآن ثغرةٌ بين معظم المحاضرين وطلابهم شبيهة بتلك التي ظهرت في أواخر الستينيات ولكنها ليست لنفس السبب. فالتحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة لم ينبع من أي إعادة تشكيل عميقة لحالة الإنتاج والاستقبال الثقافي، فكل هذا حدث للمبالغة الثقافية كالتي كانت عند من كتب رواية عوليس ،و الحريق الباهت والحجة الدموية كبديل. ولك وخلال وقتٍ ما في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية أعادت ضرورة التقنية بعنف وإلى الأبد تشكيل طبيعة الكاتب والقارئ والنص والعلاقة بينهم .

وتشبه ما بعد الحداثة والرومنسية –الإبداعية- من قبلها في تعظيمها للكاتب ووضعها في منزلة سامية في الأهمية ،حتى عندما يختار الكاتب أن يُتهم أو أن يدعي إلغاءه لنفسه أو نفسها، لكن الثقافة الآن عظمت من شأن المتلقي للنص لدرجة أن يصبح هو كأنه المؤلف لكامل النص أو لجزءٍ منه. ولربما يرى المتفائلون هذا كإدخال للديموقراطية على الثقافة، والمتشائمون سيشيرون إلى الابتذال الموجع والخواء في الإنتاجات الثقافية المستحدثة (على الأقل إلى حد الآن).

دعوني أشرح لكم الأمر: تصور الثقافة الحديثة عصر ما بعد الحداثة كمشهد أو فُرجة قبل جلوس الأفراد بلا حول ولا قوة حيث كان السؤال عن الحقيقة إشكالًا. وبالتالي فقد أبرزت شاشة التلفاز أو السينما ،كما جعل الوارثون لها والذين سأسميهم الحداثيون المزيفون أفعال الأشخاص هي الشرط الضروري للمنتج الثقافي. وهؤلاء الحداثيون المزيفون ضموا جميع برامج التلفاز والمذياع أو بعضًا منها، و كل “النصوص” والتي صُنع محتواها وحركياتها و وجه بمشاركة من المشاهد أو المستمع (وعلى الرغم من كل ما يحمله المصطلحان الأخيران من سلبية وتأكيد على المتلقي فإنهما لاغيان : فمتى ما اتصل مصوت للمسلسل (Big brother) أو معجب بالبرنامج الإذاعي (6-0-6) فإن ذلك لا يعني ببساطة أن يُشاهدوا أو يُسمعوا).

يمكن أن يُعرف الإنتاج الثقافي للحداثة المزيفة بأنه لا يمكن أن يوجد بدون إدخال الأفراد فيه فيزيائيًا. رواية الآمال العظيمة ستوجد ماديًا سواءً قرأها أحدهم أم لا، فمتى ما أنهى ديكنز كتاباتها وأصدرها الناشر في العالم بـ “نصها المادي” – الاختيارات الموجودة فيها من الكلمات- حتى لو كان معناها سيختلف وفقًا لتفسير الأشخاص فإنها ستبقى في متناول يد الجميع دائمًا، فإنتاجها المادي وبنيتها قررها المجهزون لها أي الكاتب، الناشر والمرتب التسلسلي لها وغيرهم لوحدهم، والمعنى هو المحور الوحيد الذي ترك للقارئ. على صعيد آخر فإن نص المسلسل (Big Brother) والذي يمثل نصًا ثقافيًا مطابقًا للحداثة المزيفة، لم يكن ليوجد لو لم يتصل أي مصوت للمتسابقين، فالتصويت هو الجزء المادي من نص البرنامج- فالمشاهدون المتصلون يكتبون البرنامج بأنفسهم، و في حال لم يتكمن المشاهدون من كتابة أجزاء من المسلسل السابق فإنه سيشابه بشكل خارق أفلام آندي وارهول :عُصابي، والمتباهون الشباب يتبادلون الشكوى بخمول ويتحدثون لا هدف لساعات وساعات ،ونقول هذا لنبين أن ما يجعل مسلسل (Big Brother) ما هو عليه هو مشاركة المتفرج باتصال.

كما تشمل الحداثة المزيفة برامج الأخبار والتي يتكون محتواها وعلى نحو متزايد من رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية المُرسلة كتعليق على أخبار أخرى، فالمصطلح: “تفاعلي” غير مناسب هنا إطلاقًا لعدم تواجد تبادل، فالمشاهد أو المستمع يدخل – يكتب بعضًا من البرنامج- ومن ثم يغادر مما يعيدنا إلى الدور السلبي. بالإضافة إلى ذلك فإن الحداثة المزيفة تتضمن ألعاب الحاسوب، والتي بالتشابه تضع الفرد في سياق صناعته للمحتوى الثقافي بقيود محددة مسبقًا، فمحتوى كل فرد بناءً على لعبه يختلف باختلاف اللاعب.

الظاهرة الثقافية التي لا يشق لها غبار في الحداثة المزيفة هي شبكة الإنترنت ،فعملها المركزي هو أن الفرد ينقر بفأرته ليتحرك خلال الصفحات بطريقة لا يمكن أن تكون مزدوجة ،وبصنع مسارٍ خلال منتج ثقافي لم يوجد مسبقًا ولن يوجد مرة أخرى أبدًا، وهذا التدخل في العملية الثقافية أكثر حدةٍ من أي ما يمكن أن يقدمه أي منتج أدبي آخر ، وتعطي الإحساس (أو الانطباع) الذي لا ينكر بأن الفرد يتحكم، ويدير ويشغل ويصنع مشاركته في المنتج الثقافي. إن الصفحات الموجودة على شبكة الإنترنت “مؤلفة” بالشكل الذي لا يجعل أي أحد يعلم من كتبها أو حتى يهتم، فمعظمهم يتطلب أن يشغلها الفرد كخرائط الطرق أو تخطيط المسارات، أو تأذن له بالإضافة مثل ويكيبيديا – الموسوعة الحرة- أو بإضافة ردود وتعليقات كالمواقع الإعلامية. وبكل الأحوال فإنه من الأساسي في شبكة الإنترنت أنه يمكنك وبكل سهولة أن تصنع صفحاتك الخاصة بك (مثل المدونات).

 

إذا كانت شبكة الإنترنت واستخدامها تُعرف وتسيطر على الحداثة المزيفة ،فإن العصر الجديد يُرى كتجديد للنماذج الأقدم بنفس الأساسيات. فالسينما في عصر الحداثة المزيفة تبدو أكثر وأكثر كألعاب الحاسب، حيث يأتي العنصر من العالم “الحقيقي” يحبكه ويضيئه ويدمج به موسيقى تصويرية مجتمعة كلها ويعدلها مخرجون بارعون ليرشدوا أفكار المشاهد أو مشاعره والتي وعلى نحو متزايد تُصنع الآن باستخدام الحاسب ليظهروها بعد ذلك. عندما يُتوقع أثرٌ معينٌ لجعل المظهر المستحيل قابل للتصديق، فإن الواجهة البينية للبوابة المشتركة عادةً وسهوًا تعمل على جعل المستحيل يبدو اصطناعيا كما يحدث في فيلم (Lord of the Rings) أو (Gladiator)، فالمعارك التي فيها الآلاف من الأفراد حدثت حقيقةً ولكن سينما الحداثة المزيفة تجعلها تبدو كما لو حدثت فقط في الفضاء الوهمي ،ولذا فإن السينما لم تعطي الخلفية الثقافية لأجهزة الحاسب فقط كمولد للصور ولكن للألعاب الحاسب كنموذج لعلاقتها بالمشاهد .

يشابه ذلك أن تفضيل التلفاز في عصر الحداثة المزيفة لا يقتصر فقط على برامج الواقع (مصطلح غير ملائم آخر) ولكن أيضًا قنوات التسوق والمسابقات التي يتصل فيها المشاهد ليحزر أجوبة الألغاز رغبةً في ربح المال، كما يفضل أيضًا ظواهر مثل برنامج المعلومات (Ceefax) أي برامج بث النصوص تلفزيونيًا، ولكن عوضًا عن التحسر على الوضع الجديد فمن الأفضل أن تجد طرقًا أكثر فائدة لجعل هذه الأوضاع الجديدة تنخرط في الإنجازات الثقافية بدلًا عن الخواء الواضح والجلي الآن. ومن المهم هنا أن نرى أين يمكن أن يتغير النموذج (فمسلسل Big Brother قد يأفل شمسه ويذوي) وهو ما نقصد به ارتباط الأفراد بشاشات تلفازاتهم وبالتالي يغير المذيعون بشكل قاطع ما يعرضونه.

أصبحت الوظيفة “الاستعراضية والمبهرة” للتلفاز مع كل أنواع الفنون هامشية، فما يركز عليه الآن هو عمل الفرد النشط والمشكل والذي يشغله والذي كان قبلا يسمى المتلقي، ففي كل هذا يشعر “المشاهد” بقوته وأهميته القصوى، أما “المؤلف” وبشكله المعتاد فهو إما مُبعد للحالة التي يصبح فيها هو من يضع المعايير وغيرها يتحكم، أو أن يصبح وببساطة لا علاقة له، مجهول ومهمش، ويصبح تشكيل “النص” وفقًا لاستمراريته القصوى و تقلباته. فـ”المشاهد” هو من يصنعه إن لم يكن في المحتوى فبتسلسل الأحداث، فأنت لن تقرأ رواية مدل مارش بالقفز من صفحة 118 إلى 316 إلى 401 وصولًا إلى 501، ولكن ربما تقرأ وبشكل قابل للتبرير برنامج (Ceefax) بهذا الشكل.

 

تدوم نصوص الحداثة المزيفة وعلى نحو استثنائي لوقت قصير، فعلى عكس فلنقل برنامج الواقع (Fawlty Towers) والذي لا يمكن إعادته بنفس شكله الأصلي لأن مكالمات الهاتف المشاركة في البرنامج لا يُمكن إعادة إنتاجها، و مع انتفاء إمكانية المكالمات المشاركة فإن هذه المواد تصبح بعيدة عن هدفها الأساسي وأقل جاذبية، أما برنامج (Ceefax) فمات بعد ساعات قليلة. إذا أعطى العالم التاريخ الذي رجع فيه إلى إحدى صفحات الإنترنت فذلك لأن هذه الصفحات تختفي أو يُعاد صياغتها بشكل جذري بسرعة. من الصعب جدًا أن تحتفظ الرسائل النصية رسائل البريد الإلكتروني بشكلها الأصلي ،فطباعة رسائل البريد الإلكتروني تحولها إلى شيئًا ثابتًا أكثر كالرسائل ولكن ذلك يحدث فقط بعد تدمير حالتهم الأصلية والأساسية أي الصيغة الإلكترونية. كذلك برامج الإذاعة والتي تتطلب مكالمات للمشاركة فيها وألعاب الحاسب تملك عمرًا تخزينيًا قصيرًا ،فسرعان ما تصبح لاغية. إن ثقافة تستند على هذه الأمور وتقوم عليها لا تملك أي ذاكرة، تحديدًا حسًا غير مرهق أو مجهد بكونها تسبق إرثًا ثقافيًا يبلغ عن الحداثة وما بعد الحداثة. عدم القابلية للإنتاج وسرعة الأفول اللذان تتصف بهما الحداثة المزيفة هي أيضًا فقدان للذاكرة، فهذه الأفعال الثقافية في الوقت الحاضر لا علاقة لها لا بالماضي ولا بالمستقبل.

كما أن المنتجات الثقافية للحداثة المزيفة مبتذلة بشكل استثنائي حسب ما لاحظت، فمحتوى أفلام الحداثة المزيفة اتجهت إلى توحيد الأعمال إلى التركيز إما على بدأ الحياة وإنهائها، وهذه الصبيانية البدائية للسِيناريُوهات تقف كتناقض حاد للحنكة والخبرة بالتأثيرات التقنية للسينما المعاصرة. كثير مما تحويه الرسائل النصية ورسائل البريد الإلكترونية يعد تافهًا إذا ما قُورن بما اعتاد الناس باختلاف مستوياتهم التعليمية لكتاباته في الرسائل ،حيث تسيطر عليها الابتذال والضحالة. إن عصر الحداثة المزيفة وحتى الآن على الأقل هو صحراء ثقافية، وبالرغم أننا قد ننشأ على الاعتياد على المصطلحات الجديدة والتي يمكن أن نتبناها لمعناها وتعبيرها الإبداعي (ومن ثم فإن الوصف الإزدرائي الذي منحته للحداثة المزيفة لن يعود مناسبًا)،فنحن الآن معرضين لعاصفة من النشاطات الإنسانية والتي معظم إنتاجها مما لن يدوم أو حتى ينتج أي قيمة ثقافية ،أي شيء قد ينظر إليه الانسان مرة أخرى ويقدره خلال خمسين أو مئتي سنة.

يمكن تتبع جذور الحداثة المزيفة بالرجوع إلى السنوات التي كانت فيها السيطرة لما بعد الحداثة، فعلى سبيل المثال موسيقى الرقص و وصناعة الإباحية هي منتجات من أواخر السبعينيات والثمانينيات، والتي اتجهت إلى أن تكون زائلة ،فارغة وتافهة على مستوى المحتوى، وغير مؤلفة (موسيقى الرقص أكثر في ذلك من موسيقى الروك أو البوب). كما أنهم جعلوا نشاط “متلقيهم” في الصدارة :فموسيقى الرقص ليرقص عليها، والإباحية ليست لتقرأ أو تشاهد ولكن لتتطبق بطريقة تنتج للحداثة المزيفة وهم المشاركة. ألغت الحداثة المزيفة في الموسيقى سيطرة الألبومات الفنية بكونها نصوص أحادية وذلك عن طريق التحميل والدمج والجمع بين المقاطع على أجهزة الآيباد والتي يختارها المستمع، والتي تُنبأ بها بالمجموعات التي كان يضعها المعجب على الأشرطة في السنوات الماضية، ولكن تحولًا حدث في ما كان هامشيًا من تصرفات المعجب في الماضي أصبح الطريقة المسيطرة الآن والحاسمة لاستهلاك الموسيقى، بالتخلي عن فكرة الألبوم كعمل فني متكامل ،كمجموعة من المعاني المتربطة ليصبح مهجورًا.

إلى درجة ما  لا تعد الحداثة المزيفة أكثر من محفز تقني لتحويل التركيز الثقافي على شيء لطالما وجد( كالفن القص الما ورائي الذي لطالما وجد ولكنه لم يعظم أبدًا كما حد قي عصر ما بعد الحداثة). فالتلفاز استخدم دائمًا مشاركة الجمهور كما فعل المسرح قبلا وغيره من الفنون المؤدية ولكن كخيار وليس كضرورة، فبرامج التلفاز في الحداثة المزيفة جعلت المشاركة جزءً منها. لطاما كانت هذه النماذج الثقافية “نشاطية” أيضًا من الكرنفالات وحتى التمثيليات الصامتة، ولكن لم يضمن أي منها نصوصًا مكتوبة أو مادية، في حين أن نصوص الحداثة المزيفة بكل خواصها تقف كتركيز وسيطرة ونماذج استبدالية للمنتج الثقافي اليوم، بالرغم من كون الثقافة بكل هوامشها تعرف أنواعًا أخرى، ولا شيء من هذه الأنواع الأخرى يجب أن يوسم بـ”السلبية” في مقابل “نشاط” الحداثة المزيفة. للقراءة، والاستماع والمشاهدة دائمًا أنواعها الخاصة من النشاطات، ولكن هناك مادية لأعمال كاتبي نصوص الحداثة المزيفة، فضلًا عن ذلك السيطرة التي غيرت ميزان القوى الثقافي (لاحظ كيف أن السينما والتلفاز –عمالقة الأمس-  انحنت قبلها)،فهي تشكل النفوذ الاجتماعي التاريخي الثقافي للقرن الواحد والعشرين.  بالإضافة إلى ذلك فلنشاطات الحداثة المزيفة خصوصيتها: صيغتها الالكترونية والنصية ولكن الزائلة.

صوت هذه التغييرات

في ما بعد الحداثة يقرأ الشخص، ويشاهد ويستمع كالسابق، أما في الحداثة الزائفة فإن الشخص يتصل، و ينقر، ويضغط ويتصفح، ويختار ويتحرك ويحمل، وهذا يوجد فجوة في الأجيال تفصل بقسوة الأشخاص المولدين قبل سنة 1980 وبعدها. فهؤلاء المولودين لاحقًا قد يرون أقرانهم متحررين، مستقلين ، مبدعين ،معبرين، حركيين ،مفوضين ،أصواتهم فريدة مرتفعة ومسموعة، بينما ما بعد الحداثة وكل ما قبلها يُضاد ذلك كله حيث يبدو كل شيء نخبوي ،بليد ،معزول يثقل عليهم ويحبسهم. هؤلاء المولودين في سنة 1980 قد يرون النصوص الحديثة وليس الأشخاص عنيفة بالتناوب ، إباحية ، غير حقيقية ، مبتذلة ،مُنصاعة ، تافهة ، داعمة للاستهلاك ، بلهاء، وبلا معنى (راجع الترهات المنشورة في بعض صفحات الموسوعة الحرة –ويكيبيديا- أو انعدام السياق في برنامج Ceefax)، وبالنسبة لهم يبدو ما وجد قبل الحداثة المزيفة و على نحو متزايد كعصر ذهبي من الذكاء والإبداع والتمرد والأصالة. بالتالي فالاسم “الحداثة المزيفة” يعني ضمنًا أيضًا التوتر بين حنكة ما تعنيه التقنية والتفاهة أو الجهل الذي يوصله المحتوى عبرها، تُلخص تفاهة مستخدم الجوال لجملة ” أنا في الحافلة” لحظة ثقافية.

بينما تسمي ما بعد الحداثة “الواقع” في سؤال، تعرف الحداثة المزيفة حقيقة المتضمن لنصوصها بنفسي والآن و”التفاعل”. بالتالي فإن الحداثة المزيفة تقترح أي شيءٍ يصنع حقيقتها ،و ربما ازدهر نص الحداثة المزيفة ظاهريًا و واقعيًا في شكل بسيط: فبرنامج (docu-soap) بكاميراته المحمولة باليد (والتي تظهر الأفراد على علم بكونهم مقدرين ليشعر ذلك المشاهد بوهم المشاركة)و كمسلسل (The Office) وفلم(The Blair Witch Project) اللذان هما برنامجي واقع وإباحية تفاعليين، وكُتاب سينما ميشيل مور أو مورغان سبورلوك.

بالتزامن مع النظرة الجديدة للواقع فمن الواضح أن الإطار الثقافي المسيطر قد تغير ،فبينما أودع الإنتاج الثقافي للحداثة المزيفة في نفس الحالة التاريخية كالحداثة والرومنسية، فإن الميول الثقافي (النسوية ،ما بعد الاستعمارية وغيرها) وجد نفسه منفصلًا في بيئة فلسفية جديدة. فالأكاديمي اليوم -على الأرجح في بريطانيا- غارق في توقعات وممارسات اقتصاديات السوق و غير القابلة للتصديق وبشدة ليخبر الأكاديميون طلابهم أنهم مقيمون في عالم ما بعد الحداثة حيث يمكن أن تُسمع عدة اعتقادات، وجهات نظر وأصوات، فكل خطوة من خطواتهم تطاردها اقتصاديات السوق، فلا يمكن أن يبشر الأكاديميون بالتعددية بينما يسيطر حجم تعصب المستهلكين على حيواتهم. خلال العشر سنوات الماضية ضاق العالم ثقافيًا ولم يتسع، فبينما رأى ليوتار انحسار السرديات الكبرى، فإن الحداثة المزيفة رأت ارتفاع عولمة اقتصاديات السوق إلى مستوى التشغيل المنفرد والكلي كمراقب لكل النشاطات الاجتماعية احتكاريًا، ووفيرًا، وتوضيحيًا، وتنظيميًا كما يجب أن يلاحظ كل أكاديمي. إن الحداثة المزيفة منهج استهلاكيٌ وانصياعيٌ، من قبيل الدوران حول العالم كما هو مُعطى أو مُباع.

بينما يفضل جيل ما بعد الحداثة السخرية ،العلمية ،والهزلية مع تلميحاتهم إلى المعرفة و التاريخ مع كل التعارض الموجود، فإن حالة الحداثة المزيفة الثقافية النموذجية هي الجهل والتعصب والقلق، حيث بوش وبلير وبن لادن و لو بان ومؤيدوهم في جهة، والجماهير الأكثر تنوعًا وعددًا و الأقل قوة في جهة أخرى. إن الحداثة المزيفة تنتمي إلى عالم يتخلله اصطدامات بين  أقسام التعصب الديني في الولايات المتحدة، جزء كبير منها علماني ولكنه ديني جدًا و بشكل حاسم، والجزء الأصغر و المتعصب من المسلمين مشتت في أنحاء العالم. لم تولد الحداثة المزيفة في 11 سبتمبر من سنة 2011، ولكنها كانت مدفونة في الأنقاض. وفي هذا السياق فإن الحداثة المزيفة تجلد بغرابة الحنكة التقنية لاتباعها وحشية القرون الوسطى وذلك برفع مقاطع قطع الرؤوس على شبكة الإنترنت، أو باستخدام الجوالات لرفع مقاطع التعذيب في السجون. وأبعد من ذلك كله أن يكون قدر الجميع أن يعانوا من القلق بسبب النيران المتقاطعة حولهم، لكن هذا القلق القسري يتسع ليتخطى الجغرافيا السياسية ويدخل في كل محور من محاور الحياة الحديثة، فمن الخوف العام من الانهيار الاجتماعي وخسارة الهوية، إلى الاضطراب الشديد حول نظام الأكل والصحة ،و من الشعور بالحزن بسبب الدمار الحاصل نتيجةً لتغير الطقس إلى الآثار عدم الكفاءة الجديدة والعجز ذلك الذي تكسبه برامج التلفاز للشخص بعرضها لطريقة تنظيف منزلك وتربية أبنائك أو البقاء مُقتدرًا ماديًا.

هذا الجهل الناتج عن التقنية هو بأكمله حديث، فهذه الحداثة المزيفة تتصل باستمرار بالجزء الآخر من الكوكب، حتى تخبرك أن تأكل الخضراوات لتبقى بصحة جيدة والتي هي حقيقة بدهية من العصر البرونزي. فهو وأو هي بإمكانهما أن يعرفا كيف يختاران من برامج التلفاز الوطني ولكنهما لا يعرفان كيف يحضران الطعام لنفسيهما وهي صفة تدمج بين الصبيانية والبلوغ وبين القوة والعجز. إن هؤلاء الأشخاص ولعدة أسباب عاجزون عن “الإيمان بالسرديات الكبرى” التي جادل فيها لوتار مجسدًا فيها أتباع ما بعد الحداثة.

إن عالم الحداثة المزيفة مخيفٌ جدًا و على ما يبدو غير قابل للسيطرة ،ويغذي حتمًا الرغبة في العودة إلى اللعب الصبياني بالألعاب والذي يُشكل أيضًا العالم الثقافي للحداثة المزيفة. والحالة الانفعالية الأساسية هنا جذريًا  هي إلغاء الإدراك المفرط للسخرية، أي الغيوبة أو الحالة التي تتجرع فيها نشاطاتك وتبتلعها. في مكان يتكون من اتجاهات متعددة كالحداثة ونرجسية ما بعد الحداثة، فإن الحداثة المزيفة تأخذ العالم بعيدًا بخلقها لمكان عديم الوزن وغير موجود من الذاتية الصامتة، فأنت تنقر على المفاتيح، أي أنك “مقحم” و مُبتلع ومُقرر، فأنت النص ولا أحد غيرك، ولا وجود لمؤلف، ولا مكان ولا زمان آخر.

mm

عبير حماد

مترجمة من الأردن أقرأ وأتطوع وأُترجم لجعل هذا العالم مكانًا أفضل للعيش .

abeer.hammad@hotmail.com

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe