إليوت والشعر العربي الملتزم
بدر شاكر السياب
May 21, 2016
ولا بد لنا، في هذا المجال، من الإشارة إلى ما كان للشاعر الإنكليزي
الكبير ت. س. إليوت وخاصة قصيدته «الأرض الخراب»، من أثر كبير على الشعر
الملتزم في الأدب العربي الحديث، الشيوعي منه وغير الشيوعي، والرديء منه
والجيد على السواء.
لعلي لا أغالي إذا قلت إن المدنية الأوروبية الحديثة لم تُهج هجاء أعنف ولا أعمق من الهجاء الذي وجهه ت. س. إليوت إليها في قصيدته «الأرض الخراب» على كثرة ما هجا الأدباء والشعراء الشيوعيون الجانب الرأسمالي من المدنية الأوروبية المعاصرة. وقد لقيت «الأرض الخراب» من اهتمام النقاد ودراساتهم ما لم تلقه أية قصيدة أخرى. إن الشيوعيين يعتبرون كل شاعر يهجو المدنية الحديثة لأسباب غير أسبابهم، ومنطلقاً من وجهة نظر غير وجهة نظرهم، عدواً تجب محاربته، ولم يأل الشيوعيون جهداً في محاربته. بل إن مجلة «ساينس أند سوسيتي» الشيوعية الأمريكية نشرت مقالاً عن ت. س. إليوت نفت فيه عنه حتى صفة الناظم المجيد في نظمه.
غير أن الشيوعيين مصابون، وخاصة في الناحية الثقافية، بعقدة الشعور بالنقص، وأن شعراءهم ليشعرون في قرارة أنفسهم بالتضاؤل أمام جبروت الشعر الإليوتي. وقالوا لأنفسهم إن تكنيك إليوت هو العظيم أما أفكاره فرجعية، استعمارية. وعلى هذا أخذوا يقلدون تكنيك ت. س. إليوت مبدلين محتواه بمحتوى «تقدمي» كما يسمونه.
لست أدري إذا كان الشعراء الشيوعيون في الغرب قد نجحوا في تقليد إليوت أو لم ينجحوا. أما الشعراء الشيوعيون العرب، فقد قرأوا إليوت دون أن يفهموه. كل ما عرفوه عنه أنه يضمّن قصائده أبياتاً لشعراء آخرين فرنسيين أو ألمان أو إنكليز. أما ما يختفي وراء ذلك التضمين من عمق، وما في ورود ذلك التضمين في موضع معين من تناقض يقصده الشاعر مع النص السابق له أو اللاحق، فذلك ما لم يفهموه. عرفوا أنه يضمّن شعره أبياتاً لشعراء آخرين وأنه يستعمل اللهجات الشعبية أحياناً، وأنه قد يلتقط حديثاً سمعه في مقهى، أو حواراً سمعه في الشارع، فقلدوه في ذلك، فأصبحت قصائدهم كأنها جلباب متسول مرقع برقع مختلفة الألوان. هنا بيت يتحدث عن الربيع والخضرة، وبعده مقطع من أغنية شعبية عن موت الكلاب من الجوع، وبعده هتاف التقطه الشاعر من مظاهرة، إلى آخر هذا الخلط العجيب.
لكن هناك فئة أخرى من الشعراء العرب الشباب قرأت إليوت وفهمته وتأثرت بروحه وتكنيكه على السواء. لقد رأى هؤلاء الشعراء في «الأرض الخراب» أعنف هجاء للمجتمع الرأسمالي يتضاءل إزاءه كل ما هجاه به الشعراء الشيوعيون رغم ما في هجائهم من إقذاع وحقد. ورأوا فيها، من جهة أخرى، هجاء للمجتمعات التي تخلت عن القيم الإنسانية الحقة، القيم الدينية الرفيعة، وهو هجاء ينطبق لا على المجتمع الرأسمالي وحده، بل وينطبق إلى حد ما على المجتمع الاشتراكي ـ في الدول الشيوعية ـ أيضاً. بل وينطبق إلى حد ما على المجتمعات المريضة المتخلفة، ومنها المجتمع العربي. لقد رأوا كيف استطاع شاعر غربي أن يفيد من رموزهم، كرموز تموز وأوزيريس، فنبههم إلى أمر كانوا عنه غافلين.
وساعدت الظروف السياسية التي كانت البلدان العربية تمر بها، حيث الإرهاب الفكري وانعدام الحرية، إلى اللجوء إلى الرمز، يعبّرون بواسطته عن تذمرهم من أوضاع بلادهم السياسية والاجتماعية على السواء، وعن أملهم في انبعاث جديد ينتشلها من موتها. هؤلاء الشعراء ملتزمون أيضاً، لكنهم يختلفون عن الشعراء الشيوعيين ـ وكلهم ملتزمون طبعاً ـ في أن الالتزام الشيوعي مفروض على الشاعر من الخارج. أما التزام هؤلاء الشعراء فنابع من داخلهم. وهم لا يتخلون عن الفن ولا يهبطون بشعرهم عن أعلى مستوى يستطيع كل شاعر منهم بلوغه، في سبيل أن يفهمهم المناضل شخنوب أو الرفيق حسن الركاع أو عجرش الزبال.
وتعرضت هذه الفئة من الشعراء الملتزمين التزاماً حقاً، إلى هجوم من اليمين واليسار على السواء، فهي في نظر اليسار فئة تخدم مصالح البرجوازية والإمبريالية ولا تفكر بالجماهير، وهي في نظر اليمين المتطرف فئة تحاول تحطيم الشعر العربي بالخروج عن أوزانه وطرائق نظمه المتوارثة، مدفوعة إلى ذلك بدوافع شتى أعظمها ما يغدقه عليها الاستعمار من مال، وأقلها ضعف أدواتهم الشعرية وقلة حصيلتهم من الإلمام بالأدب العربي القديم.
إنه لأمر مؤسف حقاً ألا يبلغ الشعر العربي المعاصر مستوى الواقعية كما عرفها الشاعر الإنكليزي الكبير والناقد المبدع الموهوب ستيفن سبندر في محاضرة له عنوانها «الواقعية والفن». وخلاصة تعريفه ذاك هو أن الواقعية الحقة هي تلك التي تمكّن الشاعر أو الفنان من تحليل مجتمعه تحليلاً يحوي أكبر قدر ممكن من الحقائق. ولا يهم، بعد ذاك، من أية وجهة نظر انطلق. ولكن الحد الذي بلغه الشعراء التموزيون ـ في الشعر العربي الحديث ـ كان يبشر بمستقبل لامع لهم أو للشعراء الذين سيسيرون على آثارهم على الأقل.
لكن يبدو أن الشعراء التموزيين أصيبوا بخيبة أمل، فأقلعوا عن الالتزام كأنهم اتفقوا على ذلك، وإن لم يتفقوا. يبدو هذا الإقلاع عن الالتزام والانصراف إلى المشاكل الذاتية والشخصية بل وحتى افتعالها، في الآثار الأخيرة لأولئك الشعراء. يتضح لنا ذلك في ديوان يوسف الخال الأخير «قصائد في الأربعين»، وفي قصائد صلاح عبد الصبور الأخيرة، وفي الديوان المخطوط الذي يضم آخر ما كتبه أدونيس، وأرى ذلك في نفسي أنا شخصياً، فكأنني تخمت من الالتزام فأنا أتفلت منه.
ولا أغالي إذا قلت إن نهاية الالتزام الحق في الشعر العربي المعاصر ستكون حين ينتهي هؤلاء الشعراء منه.
أما من هو المسؤول عما أصابهم، أهي مجتمعاتهم أم حكوماتهم أم الأوساط الأدبية المختلفة، فذلك ما نتركه للمؤرخين الذين سيكون لديهم الكثير مما سيقولونه.
ولعل ما يُعاب به الأدب العربي، غلبة الشعر على فنون الأدب الأخرى. ما زال الشاعر يحظى بالمكانة الأولى بين أدباء العرب، وما زال كل أديب عربي، سواء أكان كاتب قصة أم مقالة أم كان ناقداً، يطمح إلى أن يصبح شاعراً أو يتمنى ذلك في قرارة قلبه على الأقل. وعلى هذا الأساس فإن المقاييس السائدة في الشعر فرضت نفسها على فنون الأدب الأخرى. ما جدوى كتابة قصة أو رواية عن عواطف النفس من حب وبغض وحسد في حين يكتب شوقي وحافظ والرصافي قصائدهم عن دنشواي وعن الدستور؟
لهذا كله كان الاتجاه الواقعي في القصة أول ما عرفه الأدب العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
مجلة «الفكر» التونسية، العدد 3، كانون الأول (ديسمبر) 1961
الشاعر في إهاب القديس يوحنا
بدأ الشاعر العراقي الكبير (1926ـ1964) بدأ حياته شيوعياً، ومنافحاً عن «أدب الشعب» و»شعر الالتزام»؛ ثمّ انقلب عن هذا كله لأسباب عديدة ليس هنا مقام استعراضها، فبات خصماً لدوداً إذا جاز القول. ومقالاته، ورسائله، تكشف الكثير من خبايا مواقفه تجاه قضايا عديدة، أدبية وفكرية وسياسية وشخصية، خاصة وأنّ عدداً كبيراً منها كُتب والشاعر في ذروة المرض، حين أخذ وجدانه، المثقل بأعباء الجسد والروح، يتقلب من طور حادّ إلى آخر أكثر حدّة؛ وفي المقابل، بدا أنّ آراءه تصفو وتنصقل وتتضح، أكثر من أية فترات سابقة في حياته.
السياب، الشاعر، ملفّ آخر بالطبع؛ لأن ابن جيكور، وصاحب «أنشودة المطر» و»المعبد الغريق» و»شناشيل ابنة الجلبي» و»غريب على الخليج» و»في المغرب العربي»… كان أحد كبار صانعي الحداثة في الشعر العربي، وتأثيراته ماثلة بقوّة في نتاجات الكبار مثل الشباب. ولقد قال، في توصيف شخصية الشاعر: «لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث، لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه، وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل. وقد حاول الشاعر، مرّة تلو المرّة، أن يتملّص من الواجب الضخم الملقى على كتفيه: تفسير العالم وتغييره. ولكنها محاولات لم يُكتب لها ولن يُكتب لها أن تنجح وأن تستمر، فتهاوت مدارس وحركات شعرية بأكملها، غير مخلّفة سوى شاعر هنا وشاعر هناك، لعلّ لهما من القيمة التاريخية أكثر مما لهما من القيمة الفنية. إننا نعيش في عالم قاتم كأنه الكابوس المرعب. وإذا كان الشعر انعكاساً من الحياة، فلا بدّ من أن يكون قاتماً مرعباً، لأنه يكشف للروح أذرع الأخطبوط الهائل من الخطايا السبع، الذي يطبق عليها ويوشك أن يخنقها. ولكن ما دامت الحياة مستمرة، فإن الأمل في الخلاص باق مع الحياة. إنه الأمل في أن تستيقظ الروح. وهذا ما يحاوله الشعر الحديث».
لعلي لا أغالي إذا قلت إن المدنية الأوروبية الحديثة لم تُهج هجاء أعنف ولا أعمق من الهجاء الذي وجهه ت. س. إليوت إليها في قصيدته «الأرض الخراب» على كثرة ما هجا الأدباء والشعراء الشيوعيون الجانب الرأسمالي من المدنية الأوروبية المعاصرة. وقد لقيت «الأرض الخراب» من اهتمام النقاد ودراساتهم ما لم تلقه أية قصيدة أخرى. إن الشيوعيين يعتبرون كل شاعر يهجو المدنية الحديثة لأسباب غير أسبابهم، ومنطلقاً من وجهة نظر غير وجهة نظرهم، عدواً تجب محاربته، ولم يأل الشيوعيون جهداً في محاربته. بل إن مجلة «ساينس أند سوسيتي» الشيوعية الأمريكية نشرت مقالاً عن ت. س. إليوت نفت فيه عنه حتى صفة الناظم المجيد في نظمه.
غير أن الشيوعيين مصابون، وخاصة في الناحية الثقافية، بعقدة الشعور بالنقص، وأن شعراءهم ليشعرون في قرارة أنفسهم بالتضاؤل أمام جبروت الشعر الإليوتي. وقالوا لأنفسهم إن تكنيك إليوت هو العظيم أما أفكاره فرجعية، استعمارية. وعلى هذا أخذوا يقلدون تكنيك ت. س. إليوت مبدلين محتواه بمحتوى «تقدمي» كما يسمونه.
لست أدري إذا كان الشعراء الشيوعيون في الغرب قد نجحوا في تقليد إليوت أو لم ينجحوا. أما الشعراء الشيوعيون العرب، فقد قرأوا إليوت دون أن يفهموه. كل ما عرفوه عنه أنه يضمّن قصائده أبياتاً لشعراء آخرين فرنسيين أو ألمان أو إنكليز. أما ما يختفي وراء ذلك التضمين من عمق، وما في ورود ذلك التضمين في موضع معين من تناقض يقصده الشاعر مع النص السابق له أو اللاحق، فذلك ما لم يفهموه. عرفوا أنه يضمّن شعره أبياتاً لشعراء آخرين وأنه يستعمل اللهجات الشعبية أحياناً، وأنه قد يلتقط حديثاً سمعه في مقهى، أو حواراً سمعه في الشارع، فقلدوه في ذلك، فأصبحت قصائدهم كأنها جلباب متسول مرقع برقع مختلفة الألوان. هنا بيت يتحدث عن الربيع والخضرة، وبعده مقطع من أغنية شعبية عن موت الكلاب من الجوع، وبعده هتاف التقطه الشاعر من مظاهرة، إلى آخر هذا الخلط العجيب.
لكن هناك فئة أخرى من الشعراء العرب الشباب قرأت إليوت وفهمته وتأثرت بروحه وتكنيكه على السواء. لقد رأى هؤلاء الشعراء في «الأرض الخراب» أعنف هجاء للمجتمع الرأسمالي يتضاءل إزاءه كل ما هجاه به الشعراء الشيوعيون رغم ما في هجائهم من إقذاع وحقد. ورأوا فيها، من جهة أخرى، هجاء للمجتمعات التي تخلت عن القيم الإنسانية الحقة، القيم الدينية الرفيعة، وهو هجاء ينطبق لا على المجتمع الرأسمالي وحده، بل وينطبق إلى حد ما على المجتمع الاشتراكي ـ في الدول الشيوعية ـ أيضاً. بل وينطبق إلى حد ما على المجتمعات المريضة المتخلفة، ومنها المجتمع العربي. لقد رأوا كيف استطاع شاعر غربي أن يفيد من رموزهم، كرموز تموز وأوزيريس، فنبههم إلى أمر كانوا عنه غافلين.
وساعدت الظروف السياسية التي كانت البلدان العربية تمر بها، حيث الإرهاب الفكري وانعدام الحرية، إلى اللجوء إلى الرمز، يعبّرون بواسطته عن تذمرهم من أوضاع بلادهم السياسية والاجتماعية على السواء، وعن أملهم في انبعاث جديد ينتشلها من موتها. هؤلاء الشعراء ملتزمون أيضاً، لكنهم يختلفون عن الشعراء الشيوعيين ـ وكلهم ملتزمون طبعاً ـ في أن الالتزام الشيوعي مفروض على الشاعر من الخارج. أما التزام هؤلاء الشعراء فنابع من داخلهم. وهم لا يتخلون عن الفن ولا يهبطون بشعرهم عن أعلى مستوى يستطيع كل شاعر منهم بلوغه، في سبيل أن يفهمهم المناضل شخنوب أو الرفيق حسن الركاع أو عجرش الزبال.
وتعرضت هذه الفئة من الشعراء الملتزمين التزاماً حقاً، إلى هجوم من اليمين واليسار على السواء، فهي في نظر اليسار فئة تخدم مصالح البرجوازية والإمبريالية ولا تفكر بالجماهير، وهي في نظر اليمين المتطرف فئة تحاول تحطيم الشعر العربي بالخروج عن أوزانه وطرائق نظمه المتوارثة، مدفوعة إلى ذلك بدوافع شتى أعظمها ما يغدقه عليها الاستعمار من مال، وأقلها ضعف أدواتهم الشعرية وقلة حصيلتهم من الإلمام بالأدب العربي القديم.
إنه لأمر مؤسف حقاً ألا يبلغ الشعر العربي المعاصر مستوى الواقعية كما عرفها الشاعر الإنكليزي الكبير والناقد المبدع الموهوب ستيفن سبندر في محاضرة له عنوانها «الواقعية والفن». وخلاصة تعريفه ذاك هو أن الواقعية الحقة هي تلك التي تمكّن الشاعر أو الفنان من تحليل مجتمعه تحليلاً يحوي أكبر قدر ممكن من الحقائق. ولا يهم، بعد ذاك، من أية وجهة نظر انطلق. ولكن الحد الذي بلغه الشعراء التموزيون ـ في الشعر العربي الحديث ـ كان يبشر بمستقبل لامع لهم أو للشعراء الذين سيسيرون على آثارهم على الأقل.
لكن يبدو أن الشعراء التموزيين أصيبوا بخيبة أمل، فأقلعوا عن الالتزام كأنهم اتفقوا على ذلك، وإن لم يتفقوا. يبدو هذا الإقلاع عن الالتزام والانصراف إلى المشاكل الذاتية والشخصية بل وحتى افتعالها، في الآثار الأخيرة لأولئك الشعراء. يتضح لنا ذلك في ديوان يوسف الخال الأخير «قصائد في الأربعين»، وفي قصائد صلاح عبد الصبور الأخيرة، وفي الديوان المخطوط الذي يضم آخر ما كتبه أدونيس، وأرى ذلك في نفسي أنا شخصياً، فكأنني تخمت من الالتزام فأنا أتفلت منه.
ولا أغالي إذا قلت إن نهاية الالتزام الحق في الشعر العربي المعاصر ستكون حين ينتهي هؤلاء الشعراء منه.
أما من هو المسؤول عما أصابهم، أهي مجتمعاتهم أم حكوماتهم أم الأوساط الأدبية المختلفة، فذلك ما نتركه للمؤرخين الذين سيكون لديهم الكثير مما سيقولونه.
ولعل ما يُعاب به الأدب العربي، غلبة الشعر على فنون الأدب الأخرى. ما زال الشاعر يحظى بالمكانة الأولى بين أدباء العرب، وما زال كل أديب عربي، سواء أكان كاتب قصة أم مقالة أم كان ناقداً، يطمح إلى أن يصبح شاعراً أو يتمنى ذلك في قرارة قلبه على الأقل. وعلى هذا الأساس فإن المقاييس السائدة في الشعر فرضت نفسها على فنون الأدب الأخرى. ما جدوى كتابة قصة أو رواية عن عواطف النفس من حب وبغض وحسد في حين يكتب شوقي وحافظ والرصافي قصائدهم عن دنشواي وعن الدستور؟
لهذا كله كان الاتجاه الواقعي في القصة أول ما عرفه الأدب العربي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
مجلة «الفكر» التونسية، العدد 3، كانون الأول (ديسمبر) 1961
الشاعر في إهاب القديس يوحنا
بدأ الشاعر العراقي الكبير (1926ـ1964) بدأ حياته شيوعياً، ومنافحاً عن «أدب الشعب» و»شعر الالتزام»؛ ثمّ انقلب عن هذا كله لأسباب عديدة ليس هنا مقام استعراضها، فبات خصماً لدوداً إذا جاز القول. ومقالاته، ورسائله، تكشف الكثير من خبايا مواقفه تجاه قضايا عديدة، أدبية وفكرية وسياسية وشخصية، خاصة وأنّ عدداً كبيراً منها كُتب والشاعر في ذروة المرض، حين أخذ وجدانه، المثقل بأعباء الجسد والروح، يتقلب من طور حادّ إلى آخر أكثر حدّة؛ وفي المقابل، بدا أنّ آراءه تصفو وتنصقل وتتضح، أكثر من أية فترات سابقة في حياته.
السياب، الشاعر، ملفّ آخر بالطبع؛ لأن ابن جيكور، وصاحب «أنشودة المطر» و»المعبد الغريق» و»شناشيل ابنة الجلبي» و»غريب على الخليج» و»في المغرب العربي»… كان أحد كبار صانعي الحداثة في الشعر العربي، وتأثيراته ماثلة بقوّة في نتاجات الكبار مثل الشباب. ولقد قال، في توصيف شخصية الشاعر: «لو أردت أن أتمثل الشاعر الحديث، لما وجدت أقرب إلى صورته من الصورة التي انطبعت في ذهني للقديس يوحنا، وقد افترست عينيه رؤياه، وهو يبصر الخطايا السبع تطبق على العالم كأنها أخطبوط هائل. وقد حاول الشاعر، مرّة تلو المرّة، أن يتملّص من الواجب الضخم الملقى على كتفيه: تفسير العالم وتغييره. ولكنها محاولات لم يُكتب لها ولن يُكتب لها أن تنجح وأن تستمر، فتهاوت مدارس وحركات شعرية بأكملها، غير مخلّفة سوى شاعر هنا وشاعر هناك، لعلّ لهما من القيمة التاريخية أكثر مما لهما من القيمة الفنية. إننا نعيش في عالم قاتم كأنه الكابوس المرعب. وإذا كان الشعر انعكاساً من الحياة، فلا بدّ من أن يكون قاتماً مرعباً، لأنه يكشف للروح أذرع الأخطبوط الهائل من الخطايا السبع، الذي يطبق عليها ويوشك أن يخنقها. ولكن ما دامت الحياة مستمرة، فإن الأمل في الخلاص باق مع الحياة. إنه الأمل في أن تستيقظ الروح. وهذا ما يحاوله الشعر الحديث».
Comments
Post a Comment