الأمان التائه بين الداخلية و"كشافة الكنيسة" في ليلة القداس
كرفاقه في الكشافة، لا يرى مينا في الموت المحتمل مدعاة للخوف، فالموت في الكنيسة شهادة يعتز بها. لكن يعكر صفوه؛ أنه لم يعد يركز في القداس والتسابيح، وإنما ينشغل بمراقبة من حوله خوفًا من اندساس انتحاري بين المصلين المكلف بالمشاركة في حمايتهم.
" من يوم القديسين بادخل القداس وأنا عارف إني ممكن أطلع شهيد. بس في الأغلب كنت باستني الشهادة وأنا خارج، بس إن التفجير يبقى جوا الكنيسة!.. ده اللي كان جديد عليّ" بهذه الكلمات بدأ مينا – اسم مستعار - احد كشافة كنيسة مارجرجس الملاصقة لمطرانية شبرا الخيمة وتوابعها حديثه مع المنصة.
انضم مينا لرفاقه في كشافة الكنيسة في سن صغيرة، ربما لم يكن قد بلغ العاشرة بعد، لكن الاشتراك في المهام التامينية بدأ عندما بلغ السادسة عشرة، تضلّع وقتها بأدوار صغيرة تعاظمت مع تقدمه في العمر حتى وصل للنصف الأول من عشريناته. يقول مينا -تم تغيير اسمه بناء على طلبه-: "أخدم في كنيسة كبيرة قريبة من قسم الشرطة وهو ما يعني تأمين جيد، ولكن يعني أيضا أنها هدف جيد، خاصة بعد البطرسية الملاصقة للكاتدرائية، ولا يمكن أن يكون تأمين مطرانية شبرا الخيمة أفضل من الكاتدرائية بأي حال من الأحوال".
كرفاقه في الكشافة، لا يرى مينا في الموت المحتمل مدعاة للخوف، فالموت في الكنيسة شهادة يعتز بها "يا بخت اللي استشهدوا"، إلا أن ما يعكر صفوه؛ أنه لم يعد يركز في القداس والتسابيح، وإنما ينشغل بمراقبة من حوله خوفًا من اندساس انتحاري بين المصلين المكلف بالمشاركة في حمايتهم، مثلما حدث في الكنيسة البطرسية، حسب الرواية الرسمية.
وقع تفجير البطرسية الذى وقع في 12 ديسمبر المنتهي، وأسفر عن مقتل 27 شخص كلهم تقريبًا من النساء والأطفال عدا رجل واحد. وفتح التفجير بابًا للجدل حول تأمين الكنائس في مصر.
حراسة دائمة
لا توجد إحصائية حديثة لعدد الكنائس في مصر، طبقًا لدراسة "وصف مصر بالمعلومات" الصادرة عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء المصري في 2008، فإن مصر تضم نحو 2069 كنيسة، كانت تُؤمَّن قبل ثورة 25 يناير طبقًا لشهادة "زكريا المقدس" خادم كنيسة مارمرقص بشبرا الخيمة، بفردي أمن، أحدهما بزى رسمي والآخر بلباس مدني ويتبع وحدة المباحث بالقسم الذي تقع في نطاقه الكنيسة.
وأضاف المقدس أن المرة الأخيرة التي شاهد فيها تلك الحراسة الكنسية الدائمة عند كنيسته، كانت في 28 يناير/ كانون ثان 2011. وفي أثناء اقتحام الأقسام والانفلات الأمني، ترك فردا الأمن سلاحهما والزي الرسمي داخل كشك الحراسة وهربا. ومنذ ذلك الوقت اقتصرت حراسة الكنيسة على الأعياد الرسمية، وأيام قداسات الأعياد فقط.
نقلة نوعية
وفقًا لتوثيق "المنصة"، شهدت السنوات الست الأخيرة 87 حادث اعتداء على الكنائس المصرية، كان أعنفها حادث القديسين بالإسكندرية الذي وقع في الساعات الأولى لعام 2011، بتفجير 3 سيارات مفخخة أمام الكنيسة، أثناء خروج المصلين من قداس رأس السنة الميلادية، وأسفر التفجير عن مقتل 24 شخص.
وفي شهر مايو من العام نفسه، أشعل مجهولون النار في كنيسة العذراء بحى إمبابة بمحافظة الجيزة، عقب اشتباكات بين أقباط ومسلمين تجمهروا أمام الكنيسة بعد انتشار شائعة باحتجاز فتاة مسيحية أسلمت. وأسفرت الاشتباكات عن مقتل 10 أشخاص.
وفي أغسطس/ آب 2013، وتحديدًا عقب فض اعتصامى رابعة والنهضة، وقع نحو 83 اعتداء على الكنائس ودور العبادة المسيحية طبقًا لتوثيق مبادرة "ويكي ثورة" في 17 محافظة مختلفة. وهي حسب المبادرة 4 حالات هدم، 39 حالة حرق، و 5 حالات اقتحام ونهب، و 4 حالات إطلاق أعيرة نارية، و22 حالة القاء حجارة أو مولوتوف على دور العبادة نفسها. وكان لمحافظة المنيا النصيب الأكبر في تلك الاعتداءات بنحو 30 حالة، يليها أسيوط: 12 اعتداء، ثم الجيزة بعشر حالات، والفيوم بـ 6 حالات، فيما سجلت عدة محافظات كالإسكندرية والسويس حالات فردية.
وفى أكتوبر من العام نفسه، سجلت مصر حالة اعتداء جديدة على كنيسة العذراء بحي الوراق، بعد استهداف حفل زفاف في الكنيسة بإطلاق نار أسفر عن مقتل 4 أشخاص بينهم طفلة. وكان الحادث الأخير هو تفجير الكنيسة البطرسية.
وتعد حادثتي القديسين والبطرسية هما الحالتان اللتان تم استخدام المتفجرات فيهما، بينما مثلت البطرسية نقلة نوعية في العمليات، بسبب استهداف الكنيسة بالمتفجرات من داخلها. والجدير بالذكر انه لم يتم إحالة أي عنصر شرطي للتحقيق ولا حتى بتهم التقصير أو الإهمال في حالات الاعتداء الـ86.
هنا الكشافة..
"أنا لا اخشى الموت في الكنيسة قدر ما اخشى حزن أمي" هكذا تقول مارينا جورج ابنة كنيسة "السيدة العذراء" الواقعة بمطقة مسرة بحي شبرا، " لا يوجد مسيحي لا يتمنى الشهادة في الكنيسة، فهو بوابة ذهبية للملكوت أن نموت ونحن نسبح الرب، ولكن صورة والدة الشهيدتين مارينا وفيرونيا وهي متعلقة بالنعشين لا تفارق ذهني. وأرى أمي دائما مكانها".
انضمت مارينا لحركة المرشدات الكنسية في صغرها كالمعتاد. حفاظًا على تقليد كنسي بدأ في خمسينات القرن الماضي في كنيسة "العذراء" بالفجالة، حين تأسس فريق الجوالة بقيادة عريان حكيم، وقال الأب دكتور صموئيل ماتياس قائد الأمانة العامة للكشافة والمرشدات بأسقفية الشباب، في تصريحات صحفية: إن الكشافة الكنسية تأسست ضمن حركات الجوالة في مصر وكان من ضمن برامجها رحلة حول الجمهورية لتعريف الشعب بأهداف ثورة يوليو وتبنتها هيئة التحرير حينها. وهي لا تزال خاضعة كغيرها من أنشطة الجوالة للمجلس الأعلى للشباب التابع لرئاسة مجلس الوزراء.
وبعد ظهور عدد من فرق الكشافة، قام الأنبا موسي أسقف الشباب بتوحيدها في الأمانة العامة للكشافة والمرشدات بأسقفية الشباب بدعم من البابا شنودة الثالث، بابا الاسكندرية الراحل.
مثل كثير من زملائها بحركة الجوالة تشارك مارينا في الأعياد في تنظيم الدخول للكنيسة، كما هو متبع. ألا أنها تؤكد أن دورها الذي يقتصر على تنظيم الدخول وأحيانا تفتيش الحقائب أو النساء، لا يمكن الاعتماد عليه في تأمين الكنيسة، "الكنيسة تبتبقى ممتلئة عن آخرها"، كما أن الكشافة والمرشدات غير مدربين على التأمين، وهو ما تعرفه الداخلية على حد قولها.
العرف الكنسي
يقول جرجس فكري، صحفي مصري مختص بالشأن القبطي: إن هناك نوعان من تأمين الكنائس المرحلة الأولي خارج الكنيسة، وهي مسئولية وزارة الداخلية. والمرحلة الثانية؛ داخل الكنيسة "أو بمعني أدق أمام البوابات، ومسؤوليتها الكشف عن هوية المصلي، وذلك متروك لكشافة الكنيسة" . مبينًا أن إسناد هذا الدور لأفراد الكشافة يأتي استجابة لعرف كنسي لا يسمح لأفراد الداخلية بدخول الكنائس، احترامصا للخصوصية الدينية، وتخوفًا من "تغول الأمن داخل المؤسسة".
ويكمل فكري أن أهم عيوب المرحلة الأولى – المُسنَدة للداخلية- هي ضعف التأمين، خاصة إذا كانت الكنيسة في منطقة عشوائية أو في الصعيد. لكن الوضع يختلف لو كانت الكنيسة هي المطرانية، أي الكنيسة الأكبر في المنطقة، والتي يسكن فيها الأسقف المسؤول عن إدارة كنائس المنطقة المحددة له. بينما أهم عيوب المرحلة الثانية – المسندة للكشافة والمرشدات-هي ضعف خبرة الكشافة في التأمين، والاكتفاء بالاطلاع علي إشارة الصليب وهو ليس دليل قاطع.
وأوضح فكري أن الكشافة تُمارس دورها التأميني فقط في الأعياد والمناسبات. وفي الأيام العادية والقداسات الأسبوعية، لا يُسأل زائري الكنيسة عن هوياتهم، ما خلا المسئولين عن نظافة الكنيسة، وهو أمر متروك –غالبًا- للصدفة. مضيفًا أن قوات الأمن تتواجد بقوة في الأعياد، حيث يزيد أفراد الأمن أمام أبواب كافة الكنائس. "لكن في الأيام العادية فإن كل كنيسة لها طبيعتها، ويأتي تأمينها حسب مكانها. فالكاتدرائية المرقصية هي الأكثر تأمينا بسبب تواجد البطريرك داخلها، وكلما كانت هناك قيادة كنسية داخل كنيسة زاد التأمين".
تنظيم أم تأمين؟
يميل الأب صموئيل متياس مسئول الكشف بالكاتدرائية منذ عهد البابا شنودة لتدقيق المصطلحات، نافيًا ممارسة الكشافة لأي دور تأميني "وإنما دورها تنظيمي فقط".
وأضاف متياس أن الكشافة تقوم فقط بتنظيم قداسات الأعياد والمناسبات الهامة. وأن دورها التأميني في هذه المناسبات لا يزيد على مساعدة رجال الأمن.
وحول معدات التأمين التي يتم استخدامها في الكنائس، يقول متياس إنها لا تزيد عن بوابة كشف المعادن، والعصي الكاشفة للمعادن. "وهي معدات لا توفرها وزارة الداخلية، وإنما تشتريها كل كنيسة من ميزانيتها".
الداخلية: الكنيسة ترفض التأمين
في الوقت ذاته يقول اللواء أشرف أمين مساعد وزير الداخلية الأسبق، أن وزارة الداخلية سبق وطلبت من الكنيسة إتاحة تفتيش مرتادي الكنائس من المصلين، ولكن قوبل طلب الوزارة بالرفض. وتعاملت الشرطة مع هذا الرفض باعتباره حق للكنيسة.
وحول معدات التأمين قال أمين أن الكنيسة تعتبر مؤسسة خاصة، و"المؤسسات الخاصة في مصر هي المسؤولة عن توفير معدات تأمينها، خاصة وأن المؤسسة الكنسية ترفض التدخل الشرطي في التفتيش باعتبارها حساسية يمكن أن تثير أزمات بين الأمن والمصلين".
ورفض مساعد وزير الداخلية السابق ما يشهد به مرتادون للكنائس بوجود تفريق بين دور العبادة المسيحية من حيث الحراسة واصفًا تلك الشهادات بكونها "غير صحيحة"، مضيفًا: "كافة الكنائس تؤمَّن أثناء إقامة الشعائر، لا فرق في ذلك بين كنيسة كبيرة أو صغيرة". وفي الأوقات الأخرى، تعتمد الداخلية على ما أسماه "تباديل وتوافيق"، لتوزيع الحراسة والقوات بين الكنائس المختلفة.
وشدد أمين على أن حالة البطرسية هي الأولى التي يتم فيها التفجير داخل الكنيسة. مشيرًا إلى أن الخطط الأمنية السابقة كانت تعتمد على أن التفجير يأتي من الخارج، "بواسطة سيارة مثلاً"، ولذلك يتم منع السيارات من الاصطفاف أمام الكنائس في الأعياد، كما يجري تفتيش الأماكن الملحقة بالكنيسة كأكشاك الحراسة.
ويرى مساعد الوزير سابقًا أن الحل الأول لمواجهة العمليات الإرهابية داخل دور العبادة القبطية، هو تكثيف عمل الجهاز المعلوماتي لوزارة الداخلية لمنع عمليات استهداف الكنائس قبل تنفيذها. بالإضافة إلى ضرورة مراجعة إجراءات التأمين مع الكنائس للسماح للعناصر الشرطية بالتفتيش.
التأمين بالاتفاق
من جانبه أوضح اللواء طارق عطية مساعد وزير الداخلية للإعلام والعلاقات لـ "المنصة"، أن تأمين وزارة الداخلية للكنائس يكون بالاتفاق والتنسيق مع قيادات الكنيسة. مؤكدًا: "الأمن لا يتواجد في كل الكنائس وكل البوابات إلا برغبة قيادات الكنيسة، التي قد تكتفي في كثير من الأحيان بالأمن الإداري أو الكشافة الكنسية".
وأضاف عطية، أنه في حالة تواجد قوة من الداخلية فإنها تصبح "المسؤولة" عن أجهزة كشف المعادن. إلا أنها تستعين بالأمن الإداري للتفتيش، "حتى لا تثير أية حساسيات أو مشاحنات مع المصلين".
وقال مساعد وزير الداخلية الحالي لشؤون الإعلام، إن كافة الكنائس يتم تأمينها خلال فترة الأعياد، وان وزارة الداخلية وضعت خطة تأمين كافة المنشأت الحيوية خلال فترة أعياد الميلاد في ضوء عملية البطرسية.
الكنيسة لا ترد
وحاولت "المنصة" التواصل مع القس بولس حليم المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية للحصول على تأكيد ما ورد على لسان مسؤول الداخلية، ولكن لم يتسن لنا الحصول على الرد حتى لحظة نشر هذها التقرير.
وكشف حليم في تصريحات لبرنامج "هنا العاصمة"، المذاع على فضائية "سي بي سي" عقب حادث البطرسية، عن أن الكنيسة المستهدفة لم يكن بها أجهزة كشف عن المعادن، وأن تأمين بوابات الكنيسة من الخارج مهمة وزارة الداخلية، بينما التأمين الداخلي تقوم به شركات خاصة.
وفي تصريحات منفصلة لصحيفة الأخبار المصرية قال حليم: "يجري حاليا تغيير خطة تأمين الكنائس عقب الحادث الإرهابي الذي شهدته الكنيسة البطرسية. وسيتم إعداد خطة جديدة بالتنسيق بين الكنيسة ووزارة الداخلية وستشمل كل المنشآت الكنسية في أنحاء الجمهورية، موضحا أن مقترح الاستعانة بشركات تأمين داخل الكنائس أصبح مطروحا على الساحة ومن الوارد تطبيقه ولكن كل الاحتمالات مازالت تحت الدراسة".
Comments
Post a Comment