Skip to main content

من الاستعصاء السوري الداخلي إلى الاستعصاء الخارجي



حرص البيت الأبيض على تأكيد أن باراك أوباما لن يغيّر، في الشهور الأخيرة من ولايته الثانية، سياسة عدم الانخراط عسكرياً في سورية. وكان بذلك يردّ على مذكّرة «صحوة الضمير» التي وقّعها بضع عشرات من الديبلوماسيين الذين عملوا على الملف السوري في الخارجية الأميركية. يعرف أوباما، إذاً، أن سياسته تلك لم تكن أخلاقية، لكنه يستطيع أن يجادل بأنها كانت «لمصلحة أميركا». والمفارقة أن أوباما وجون كيري لم يهاجما المذكرة، بل رحّبا بها ولم يوبّخا ديبلوماسييها بل أظهرا انفتاحاً على أفكارهم، وهو تصرّف لا يمكن أن يُتوقع من فلاديمير بوتين لو قدّر لديبلوماسيين عنده أن ينتقدوا سياساته، حتى أن وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين انبرتا للتنديد بمذكّرة الديبلوماسيين الأميركيين، تحديداً لأنهم طلبوا من رئيسهم شن ضربات عسكرية ضد نظام بشار الأسد. وقد تولّى ناطق الكرملين الردّ على هذه النقطة بمصطلحات الأسد نفسه قائلاً إن أي محاولة لإسقاط النظام «لن تساعد على مكافحة الإرهاب وستغرق المنطقة في فوضى شاملة»...
هذا التلويح بالفوضى الشاملة في الشرق الأوسط لا يقلق واشنطن، فهو يشير ظاهرياً إلى تمسّك روسي بورقة محروقة هي نظام الأسد، لكنه يرتبط واقعياً بتصاعد التوتر الروسي - الأطلسي وهذا بدوره لا يقلق واشنطن. إذ يستطيع بوتين أن يناور في سورية ويكسب نقاطاً كيفما يشاء، لكنه ذهب أصلاً إلى سورية ليكسب استراتيجياً وليس مجرد نقاط في مواجهته مع «الناتو». ويتّضح الآن أن الكلام الأميركي طوال الأعوام الأخيرة عن ضرورة تغيير روسيا حساباتها كان يتعلق شكلياً بسورية وجوهرياً بالسياسات الدفاعية الغربية. لذلك لا يمانع الأميركيون أن يستحوذ الروس على سورية في شرق أوسط ملتهب مقابل أن يكسب حلف الأطلسي في أوروبا. وانطلاقاً من ذلك، لا ينزعج أوباما من تسليط أضواء الإعلام على الإخفاقات الأميركية في سورية ولا من استغلالها روسياً، ففي نهاية المطاف كان خطاب بوتين في منتدى سان بطرسبورغ ضعيفاً إزاء ما يعتزمه «الناتو» من نشر كتائب عسكرية متعددة الجنسية في خمس دول أوروبية شرقية، بعدما استكمل نشر منظومة الصواريخ الدفاعية.
على رغم ذلك، لا تستطيع إدارة أوباما إنكار أن التحذير الداخلي جاء في لحظة حرجة، فقد ظهر بوضوح أن بوتين يتحدّاه ويستغلّ ضعفه وهشاشة سياساته خصوصاً في سورية، والأهم أن هذا الضعف يتسبّب بمآسٍ إنسانية مروّعة. ذاك أن «عدم التدخل» فشل، و «التفاهم» مع روسيا فشل، و «التوافق» مع الحلفاء فشل، و «صون مصالح» الأصدقاء فشل، و «مجاملة» إيران فشلت. ثم إن هذه الخيارات لم تمنع استشراء الإرهاب ولم تردع النظام المجرم بل انعشته وأبدت «سرّاً» الاستعداد لإعادة تأهيله عبر «اقتراح أميركي بضمّ معارضين إلى حكومة الأسد» وفقاً لما كشفه بوتين وللنفي الشكلي الخجول الذي أصدرته واشنطن. ولا داعي للتدقيق في أي الطرفين أكثر صدقيةً، طالما أنهما يتنافسان في كذب يترجم يومياً في سورية بمزيد من الضحايا. حتى أن ردود الفعل الهازئة لم تختلف كثيراً إزاء قول جون كيري أن «لصبر أميركا حدوداً»، أو قول بوتين إن روسيا لا تسعى إلى توسيع سلطة الأسد، بل إلى «تعزيز الثقة بين مكوّنات الشعب السوري». فلا واشنطن تلوّح بأي «خطة باء» ولا موسكو مؤهلة لبناء الثقة بين أي «مكوّنات» بوجود الأسد ونظامه.
لعل مذكرة الديبلوماسيين الأميركيين وجّهت الأنظار إلى واقع أن الروس والإيرانيين والنظام يدّعون محاربة الإرهاب، لكنهم يركّزون ضرباتهم على فصائل المعارضة وبالأخص على المدنيين والمرافق المدنية ويواصلون القتل والتهجير والدمار، فيما الأميركيون يتفرّجون ملتزمين «محاربة الإرهاب» من دون أن يكون لديهم أي تصوّر لـ «ما بعد» إخراج «داعش» من الرقّة كما لو أن إدارة أوباما عازمة على إهداء مجهودها هذا إلى نظام الأسد وحليفه الإيراني تحديداً، أو إلى مشروع الإقليم الكردي. فوق ذلك قصف الروس مواقع «جيش سورية الجديد» الذي تأسس بإشراف أميركي - بريطاني لمقاتلة تنظيم «داعش» حصرياً، وكان الاحتجاج الأميركي غير العلني أقوى من أي احتجاج سابق على استخدام البراميل المتفجّرة أو القصف الوحشي لمستشفيات حلب، لكن الروس تذرّعوا بـ «صعوبة» التمييز بين المعارضين «المعتدلين» و «المتطرّفين»، علماً أن موقع التنف الذي ضربوه لا ينطوي على إشكالٍ كهذا، وبالتالي فإن القصف كان ردعياً. وعلى رغم أن الدولتين توصلتا إلى اتفاق جديد لتنسيق ضرباتهما الجويّة لم يكن واضحاً ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى وضع المعارضة، أو إلى «الهدنة» واستئناف المفاوضات.
كانت مواقف القوى الخارجية استثنائية أخيراً في كشف تناقضات كامنة أو مستجدّة في ما بينها، كما في التنافس الأميركي - الروسي على «أبوّة» تحرير الرقّة من سيطرة تنظيم «داعش»، أو في سجال بين الدولتين في شأن وقف إطلاق النار واقتراحات للتسوية سياسية، حتى أن إيران صار وزير خارجيتها يقول إن الحل في سورية «ليس عسكرياً». وفي المقابل، برزت تناقضات بين النظام وحلفائه سواء في اشتباكات قواته مع مقاتلي ميليشيات كـ «حزب الله» و»أبو فضل العباس»، أو في عدم احترامه ولو لساعة واحدة هدنة أعلنها الروس لثمانٍ وأربعين ساعة في حلب.
هذه التعارضات كانت متوقعة وستبقى عرضة للتصعيد لأسباب عدة: 1) استحالة ضبط العمليات العسكرية وفقاً لـ «تفاهمات» هشّة بين أميركا وروسيا من دون توافق واقعي على المصالح على المخرج السياسي الأنسب من الأزمة. 2) سوء إدارة روسيا للملف الذي تقوده باعتراف دولي، فهي غير متحكّمة بحركة النظام وخياراته، لارتيابه بأهدافها وعدم حصولها على ضمان أميركي لبقاء الاسد. 3) غموض التنسيق بين موسكو وطهران، فهما لا تعملان على موجة واحدة، ولا مؤشّرات ملموسة إلى اتفاقهما على الأهداف في سورية. 4) طالما أن موسكو متمسّكة بالتحاور والتنسيق مع واشنطن فإن طهران ستواصل البحث عن تفاهم محتمل بينها وبين واشنطن، أما النظام فيرى أن المجال مفتوح أمامه للاستفادة من الدورَين الروسي والإيراني في آن.
في السابق، ساهمت القوى الدولية في هندسة الاستعصاء السوري وفقاً لمعادلة «لا المعارضة تُسقط النظام ولا النظام يصفّي المعارضة»، واعتُبرت هذه المعادلةً بمثابة إرادة دولية تحضّ الطرفين على «الحل السياسي»، غير أن أصحاب الإرادة الدولية هم الذين قوّضوا ذلك الحل وتركوا الوضع السوري يراوح مكانه ويتعفّن، إلى أن تحرّكت المعارضة في ربيع 2015 لتغييره. وبعد التدخل الروسي رجحت كفّة النظامين السوري والإيراني اللذين اعتبرا أن المبرّر الوحيد لوجود الروس هو تعزيز الفرصة المتاحة للحل العسكري، وهذه نظرة قاصرة لأن لموسكو حسابات مختلفة، فهي قد تحقق بعض رغبات حلفائها بشرط أن تتوافق مع مصالح كبرى تريد اقتناصها بملاعبة أميركا سياسياً وعسكرياً على الساحة السورية.
وهكذا انتقل الاستعصاء إلى الأطراف الخارجية نفسها، حين تبادلت إحباط أهداف بعضها بعضاً، وراحت تراكم الإخفاقات في إدارة المفاوضات وفرض احترام الهدنة كما في إخضاع المساعدات الإنسانية لابتزازات النظام. وبما أنها تدّعي جميعاً محاربة الإرهاب فقد وجدت أن السبيل للخروج من المأزق بالذهاب إلى «تحرير الرقّة». وعلى رغم اتفاقها المفترض على هذا الهدف سادت الخلافات على أدوات «التحرير» وأساليبه، إذ عمدت أميركا وروسيا إلى تلغيمها بالأكراد، كلٌّ على حدة، ولغايات خاصة مختلفة، وبالتالي بات الطريق إلى الرقّة محفوفاً باحتمالات اصطدام ميليشيات روسيا (النظام وايران) بميليشيات أميركا («قوات سورية الديموقراطية»). وفجأة تذكّرت تركيا وإيران أن تنافرهما لا يلغي التقاء مصالحهما ضد صعود الدور الكردي. كان نظام الأسد وإيران دعما الأكراد ليكونوا ورقة في مساوماتهما من جهة وقاطرة للتقسيم الذي يحقق مصالحهما السورية من جهة أخرى. بل أنهما استخدما الورقة الكردية لتهديد تركيا ظنّاً منهما أنهما بمنأى عن خطرها، غير أن أميركا اختطفت هذه الورقة بفضل «داعش» ثم دخل الروس لمنافستهم عليها متعهّدين ما لا يتعهّده الأميركيون تلبية لطموحات الكرد
.* كاتب وصحافي لبناني

Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m not sure I believe