سيرة في الشعر: لقاء مع محجوب كبلو
يحلق في هذا اللقاء، الشاعر والكاتب محجوب كبلو، بجناحَيْه الشاعرَيْن عابراً أسئلتنا، ويحطُّ عند كل سؤال، ثم يقول: انظروا إنه المحيط فأيكم سيختار الغرق؟.. وهو ما زال يمرُّ على طفولته الذهبية ويُحيل الروائح إلى ألوان، والأصوات إلى روائح والألوان إلى حرائق أو ينابيع، مُلهَمَاً بمنحة الطبيعة.. تحدثنا كثيراً عن (الشاعر/ المرأة / الحرية / السلطة/ الراهن الثقافي والاجتماعي). يقول محجوب: “النصوص مشاريع بعدد أنفاس الشعراء”.. والشاعر لديه هو الغافل الأعظم عن كون هذا الوجود، ما هو إلا مصهر، بسعة الدهر، للكواكب الكبيرة بل للمجرات. أما عن مستقبل الشعر فيدفع بالجملة التالية: “سيصبح حوار الناس في الشوارع شعريَّاً، ومشيهم سيصير (الباليه)”.. وعند سؤالنا عن اتهامه بتمرده باغتنا: “أنا متمرد على المجتمع البشري جميعه، هذا البشري وحشي”.
*أظن أن المسألة برمتها قد أنجزت قبل سن الخامسة: الدهشة الكبرى من الوجود، ومحاولة اكتشافه ومكاشفته، ماذا رأيت؟
سؤال اليفاعة الذهبية هذا، أظنه عن أوراق اعتمادي لدى بلاط صاحبة الجلالة: الشعرية.
حسناً:
لقد صادقت طريقاً فضياً نحيلاً يجري من مرسى معدية شمبات إلى موقف الشاحنة النباتية العملاقة. لا زلت أبحث عن ذلك الطريق بالكاد أعثر عليه في مسادير الرسامين.
ثمَّ رأيت، حقيقة لا مجازاً، من تحت الغطاء طفلات الحور وهن منغمسات في لعبة الحبل، فيثير دورانه أزهاراً وكراتٍ ملونةً تستقرُّ فوق أغطيتنا الليلية، ولقد شربت من المعصرات ما له (طعم النافذة)، على طريقة تعبير أصدقائي السرياليين، وأكلت ما له نكهة النزهة. كنت أسمع زئير الأسد قبيل الشرق يأتي من حديقة الحيوانات، وكنتُ أراه على طريقتي: سحابةً تشبه ذلك الخط الذي تصنعه طائرة الرش الصباحية، نعم، كنت أراه – الزئير – بقدر ما أسمعه.
يبدو أن ما دعاه (غاستون باشلار) قصر الطفولة المسحور، يتأتَّى من وحدة الحواس التي تتيح لنا أن نرى أصواتاً أو أن نصغي إلى لون غريب أو أن نرتشف خصلة كالقهوة. قد نبلغ الغاية في المعرفة دون شعرية، علماً أو فلسفةً أو ديناً، ذلك لأن لكل جنس معرفي أقنومه الذي يحدد وجهته. أما الشعرية في نضجها؛ فتتمثل في التعبير عن وحدة الحواس تجاه الموضوعات، مطلق موضوع يقع داخل أنطولوجيا الوجود. ذلك، ما سبق، في ما يلي الأشياء التي يطلق عليها مُدرِّسو الرسم الطبيعة الصامتة، وما هي صامتة بحال في تلك المرحلة السحرية. لقد كانت، أيضاً، كائنات أسفل سلَّم الأحياء المدرسي: الحشرات، تجترح حضارتها الفريدة التي كنا نستقبلها بحواسنا المتوحِّدة التي تُحيل الروائح إلى ألوان، والأصوات إلى روائح والألوان إلى حرائق أو ينابيع. وأخص حشرة طفولتي المفضلة: الكُدُنْدَار، هذه السيدة بالغة الأناقة، التي أظن أنها أثرت طفولتي إلى حدود العاطفة الطفولية، التي أزاح عنها فرويد القناع. ألوانها ورفرفتها وبالذات عبقها – إذ تقتات على أوراق الحناء – وقد يكون هذا سر عِشْقِيَّتِنَا لأفياء هذه النبتة العاطفية بامتياز. يخفف حسية هذه الجميلة، تقشُّفُ لون قديسة الجراد، فرس النبي أو الطهَّارة، الأخضر الفقير، التي يُشكِّل اقتناؤها وإطعامها لأيام (هي عمرها القصير بعد وقوعها في الكيد الطفولي المبرر إنسانيَّاً باتفاق غامض وغير واضح المعالم)؛ يشكل تجربة رعوية قبل الأوان. ما كنا نحفل بالفراشات المتعالية عن أشجارنا الشعبية من النيم والحناء، وإن كنَّا لا نتردد في رفعها على الخازوق بغية رفيفها الأخير.
ماذا عن الطير؟
اقتله وخذ أنثاه
يأتيك ذليلاً
اقتله وخذ أنثاه، خذ الوقت يأتيك الطير.
حسناً، هناك طائر، في تلك الآونة يختزل كل أبهة الطيران. سيمورغ حقيقي. كنت أتمثل هيئته وأنا في تصعيدات معراج نامه لسيدي فريد الدين، ذلك هو طاؤوس الشريفة. لم لا يتعهد البشر مشية هذا الكائن النبيل ويدربون عليها الأطفال في المدارس؟
كان لهذا الطائر حومة موسمية قصيرة، فوق أرجاء الحي، يحطُّ بعدها فوق شجرة النيم في دارنا، قبل أن يعود إلى مقامه في (القصر).
هناك أيضاً القُمْرِي بلون (موية المطرة)، وسجعه الذي كنت أظنه مصنوعاً من صوت (نَقَّاع الزِّير). سأكتفي بهذه النباتات والطيور البريَّة، لأن الداجنة منها تجربتها متشابهة وتتسم بالبراءة.
كان فراغ الصور (عامية أم درمانية للسور)، مكان حي الملازمين الحالي، هو سهوب طرائدنا، وقد كانت قبل فترة قصيرة ميداناً للقنص الحقيقي المحترف للأرانب والقطا والغزلان الشحيحة. يقول ذوونا الكبار إن هذه آخر أسراب الظباء التي كانت إلى عهود قريبة تمر بزرائبهم واردةً النيل.
ثم تأتي ترهات الكبار الذهبية، التي تُحيل وعي الأطفال إلى طاقة شعرية صِرْفة، لا تصلح لإنتاج غير المجازات مستقبلاً. ولعل هذا يفسر تخلف العالم العربي على صعيد الإنتاج المادي. ولهذا نحن نصلح – وعلى الأخص السودانيين – لرفد بقية العالم بكل ما يحتاجه من الخامات الروحية.
ذلك أن تلك الترهات التي أشرت إليها تقطع الصلة تماماً بين السبب والنتيجة، وتجعل الحياة مسرحاً للمفاجآت.
قد يحاجج البعض بأفواج علمائنا الكُثر، ولكنهم على مدى قرن أو يزيد، لم يحدثوا اختراقاً علمياً يضعهم في الصفوف المتقدمة من المساهمين في معالجات تهيئة هذا الكوكب المريض.
إن الأمر – وأوافق فرويد في زعمه – يعود إلى السنوات الخمس الأولى التي يتشكل فيها سلوك الإنسان نهائياً. وما الشخصية الإنسانية إلا سلوك ولغة.
إننا نفتقد الأمانة في تعاملنا مع الأطفال، وهذا هو سرُّ بؤسنا.
عندما أنظر، إلى ذلك الزمن من نقطة الآن، أراه ملتحقاً بعصور سحيقة، بعصور الفراعنة. كانت أم درمان قريةً فرعونية، بحق، قرب النيل. أشجار الدوم واللبخ والنخيل والبيوت من الطين اللَّبِن، لا تدع لغير الفرعونية طابعاً.
ربما كانت تلك الفرعونية هي مفتاح شخصيتي الشعرية، وألاحظ ذلك في بعض المقاطع:
عند جسر الملوك الجوعى/ كانت الشمس طاهية العدم/ تلقي إليّ بقطع السراب الشهية.
ولم يخلُ مِزاجي الشعري من موسوية ما:
أُكاثر قطعاني وذريَّتي
على سهوب غفلتك
مُهدَّدَاً بانتباهك.
فرعونية ما، أو موسوية ما، كانت جِذراً خفياً من هذه المقاطع، شأن الحالة الإنسانية المتأرجحة بين هذين القطبين: المادة والروح.
* كيف ترى (الشاعر/ المرأة / الحرية / السلطة)؟
الشاعر هو الغافل الأعظم، لذا هو الأكثر تشبثاً بالحياة، وكم يبدو هذا التشبث بالحياة على درجة من الغرابة! إنه جدير بأن ندعوه بالغفلة الكبيرة عن كون هذا الوجود، ما هو إلا مصهر، بسعة الدهر، للكواكب الكبيرة بل للمجرات فما بال حيواتنا؟! أحياناً أتصوَّرها كفقاعة في هذا المرجل الكوني.
لقد ذهب أسلافنا المعتزلة، إلى فناء الجنة والنار. رغم كل هذا الكساد والفساد والخزي الكوني، يُحسُّ الشاعر في أعماقه السحيقة، بأن هذا الخراب لا يمكن أن يكون مطلقاً أو قديماً.. لذا يمكن أن تعبر به إيماءة خنصر إلى فردوس الجمال المفقود.
لا أرى كشاعر فردوساً متحقِّقاً على الأرض سوى المتاهة: الأنثى. ولا أرى لها متاهة غيري. الأنثى تذكارات من الجنة، زَوَّدَ بها إلهُنا البديع آدمَ ليخفِّف عنه وطأة الطرد المؤقت. تذكار من الجنة بكل ما ارتفع منها وما انخفض، وما لان منها وما صلب. وما سال وما انحبس من بحيراتها وأنهارها ودنانها وأكوابها.. صلى الله على نبِّينا وعلى من صلح من ذراريها وذرارينا.
لا يُحمد تناقض، إلا ذلك الذي بينها وبين آدمها. وفي هذا يقول عقل الأسلاف: إن الأنثى ليست زوجة الرجل، بل هي أليفة كائن آخر من الضواري، قتله الرجل واستأثر بها مُكرِهَاً إيَّاها على سلوك طريقته البشرية. وهي دائمة الحنين إلى ضراوتها النبيلة، ولذا ربما كان هذا التناقض هو مبعث لا نهائية المرأة لدى الرجل، الذي لا يتوفر على معالجة سرها إلى الأبد.
أما عن الحرية؛ فإن أسمى تجلياتها في نظري، هو حرية اتحاد الإنسان ومعشوقه. وقاع العبودية أن يكال للإنسان، بما ترى التسلطات المختلفة أنه يناسبه، حشفاً وسوء كيل.
إن نقيض الحرية هو السلطة – المطففة على مدى تاريخها – إن أي اقتراب منها هو تضحية بالشعر. وهي الأشعة الحارقة التي تذيب شمع أجنحة ديدالوس الشعر، ليهوي في لا نهايات بلا انقطاع، وفي هذه الحالة يتفتت الشعر إلى نظم.
ومطلقاً: الشاعر/ الشاعرة / يغني / تغني، لحبيبته / لحبيبها.
*أنت شاعر تكتب قصيدة النثر، وتنافح عنها، وهي في أعلى غاياتها قصيدة الحريَّة، وفي ذات الوقت أنت تنتمي للطائفة الختمية في السودان، وقد يرى البعض من رواد تلك القصيدة وهواتها تناقضاً في ذلك، كيف تنظر إلى (التناقض أو التقاطع) بين الطريقين؟
أودُّ توضيح نقطتَيْن شكليَّتَيْن، وإشكاليَّتَيْن، في هذا السؤال، قبل الشروع في الإجابة.
إن وُرود صفة طائفة مضافةً إلى الختميَّة يجانب الدِّقَّة. فالمعلوم بالضرورة، أن السودان لا يوجد به نظام يقوم على أساس طائفي، وحتى على مستوى العالم، لا يوجد نظام طائفي، إلا في الهند ولبنان حسب كراسات درس علميْ الاجتماع والسياسة.
تلك فريةٌ مهجرةٌ من مخاشنات الحوار السياسي، في الخمسينيات من القرن الماضي.
النقطة الإشكالية الثانية، هي رؤية البعض لوجود تناقض بين الشعر والصوفية، تلك التي أفرد لها كولن ولسون سِفْراً موسوعياً، مُتَتَبِّعَاً سيرة الرائين وتاريخ الاستنارات.
إن حقيقة هذا الكون (الذي يستحيل استيعابه على أسس أمبريقية بالطبع)، لا يمكن إزاحة الغطاء عنها عبر لحظات التنوير الخاطفة التي لا تنعكس إلا من مرآة التصوف.
ويبدو لي أن هذه الرؤية للتناقض هي ذاتها متناقضة. فلقد تجد هذا البعض يحتفي بشعرية كُلِّ المِلَلِ عدا المُسْلِمَة، وينسى أن هذه الثقافة أنتجت جلال الدين الرومي والنفري وفريد الدين العطار وابن عربي والحلاج والسهروردي، وكأن هذا السؤال يزعم بإمكانية التربية الذاتية، في الوقت الذي لم يُعْرَف على مدار التاريخ، وجود لهذا المذهب؛ فحتى الذين يدَّعون أنهم أنصاف آلهة مثل آخيل وهيركيوليس، كان لهم أساتذتهم، وللمفارقة كان أغلب هؤلاء المربين من فصيل النسطورات، الذين هم من أنصاف البشر، برأس رجل وجسد حصان، ولا جدال في أن التصوف لا يخرج عن كونه عهادة بالتربية، التي هي التثقيف عن كثير من عناصر البداوة والتوحش اللذين هما لازمة الحرية المطلقة.
إن الحرية المدينيَّة، هي حرية مشروطة، وهي على نحو آخر الوجه العلماني للدين. ولعلَّه من ذكاء اللغة العربية، أن صاغتهما من مادة واحدة: دال، ياء، نون.
وعلى كونها (أي الحرية) مشروطةً، فالحرية على أقنومين: حرية العارف وحرية المحجوب، وهي للأخير في حقيقتها سجن في الأنا السفلى بمثل ما هي فناء للأول في ذات العليِّ الكبير، وهذا عين الحرية. إن ما يراه المحجوب فردوساً، تتمرغ فيه أناه السفلى، يعني لدى العارف عين الجحيم.
أما عن الطريقة الختمية، فلقد عرفتها قبل أن أعرف اسمي. فنحن نقع داخل دائرة جذب صوفي عالٍ.
شُرف حيُّنا بأنْ قطنه قُطْبَانِ فَردانِ عَلَمَان من العمادة الميرغنيَّة: سيدي عبد الله المحجوب الميرغني، وسيدي علي الميرغني.
واتصلت بالطريقة الختمية جديَّاً في أواخر السبعينيات، وكان ذلك بمثابة فيض انتشلني من أزقة جحيم العلمانية والإسلام السياسي. ولمحبَّة متأصِّلة منذ اليفاع لمولانا السيد محمد عثمان، الذي لاحت منه لي باكراً شمائل (سيدَيْ شباب أهل الجنة). هناك خاصية فريدة لدى السادة المراغنة، إذ أنهم مبذولون للعامة طعاماً وشراباً ومالاً، وحتى خوضاً في سيرتهم بلا احتراس، وهنا تتوافر فيهم صفة البحر الذي يغتسل فيه الناس من أدرانهم.
أما لدى الخاصة، وخاصة الخاصة من العارفين بالله، فهم في مراقي جلال مهيبة، ولا يقتربون من أعتابهم إلا حبْواً.
بعد تجربتي في الطريقة، وانكشاف تجلياتها الفارهة، صرت أحس بأن ما كان يضيق به صدري ورأسي من فيضان المعارف، ومن حدَّة في الذائفة، صار قاصراً عن استيعاب ما تجلَّى لي بعدها من فراهة وفخامة وجلال، وطفقت أخصف على سوأة جهلي بكل ما تقع عليه يداي وعيناي من ضروب الفن والمعرفة، لأتوازن مع ما انفتح لي – على قدر طاقتي – من كنوز علم الذات.
لا أتصور أن هناك عالماً يمور بالشعرية مثل خاتمة (نقشجم) المباركة. إن علاقة الختمية بالحرية تتجلَّى آصرتها الأصلية بالسلام. فعلاقتها بالسلام السياسي والاجتماعي أوضح من أن يشار إليها، فقد كانت ومنذ دخولها الديار السودانية لُحْمَة لعراها ودرءاً لكوارثها، وضياء لالتباساتها السياسية والفكرية على مر العهود.
*(السبعينيات – الثمانينيات – التسعينيات)…
في السبعينيات كانت ظهيرة شموليَّة نميري رغم علمانيتها، واجتمعنا ونحن عصبة على أصابع اليدَيْن، كأننا على موعد مع نشدان الحرية، فتكونت على نسق بري تماماً جماعة الغجر، وهي متزامنة مع حركات الشباب العالمية.. محمد عثمان عبد النبي، سامي يوسف، سعد الدين إبراهيم، بلة النفيدي. وكان لسامي تأثير كبير على الجماعة، فهو من عرَّفنا ببعضنا. وأعتقد أن وفاته خسارة كبيرة للشعر والقصة، ولو كان موجوداً لما انتهت هذه القصة الجميلة، التي كنا نتحرَّر فيها بحسب قدراتنا.
بعد هذه المرحلة، أحسستُ بأزمة قصيدة التفعيلة وطفولتها، فأنا أخاف على الشعرية من أي نظام، حتى لو كان هذا النظام شعرياً، وهذا ما جعلني أصمت لأكثر من عشر سنوات، كانت تلك فترة الثمانينيات، التي كانت فترة قراءة كثيفة وخلوة. أما في الفترة التسعينية، فكنت منافحاً عن قصيدة النثر عن طريق نشر النصوص والتنظير لها بالمقالات، ومعي مجموعة من الشباب: محمد الصادق الحاج، وخالد حسن عثمان، وغيرهما، وكنت مُرحِّباً جداً بالبداية خارج أطر النشر.
*المشهد الثقافي السوداني الراهن، كيف تراه؟
تبدو لي كل تفصيلة حياتيَّة في اليومي المُعاش، دلالةً فصيحةً على هول الخسارة المزلزلة، التي ضربت الوجود السوداني، بكل مستوياته الظاهرة والعميقة. وإذا بدأنا – على سبيل المثال – بمجرد دخولي هذه الحديقة العامة للالتقاء بكم أيها السادة.. لم يعطِني العامل تذكرة للدخول، بعد أن دفعت الرسوم، ووجدت عند المدخل عاملاً آخر انحنى لي وقال: (تفضل). حقيقةً استفزّني أن لم يسألني عن التذكرة، وكلمة (تفضل) المزيَّفة وأعدت عليه السؤال عن التذكرة، فحاول أن يدخلني باستغفال بدونها، ولما لمس إصراري على أخذ الورقة من أمامه، مزَّقها ورماها كيفما اتفق. هذه ليست أقل من طعنة على ظهر المجتمع، إذا كان لا زال مجتمعاً، وليس مجرد تجمع بشري بلا حقوق ولا واجبات أو منظومة قيم.
هذا النموذج شاهدٌ على الانحسار الإجرامي للحسِّ الاجتماعي، ويمكن أن ينسحب على سلوك كل المؤسسة الاجتماعية، بل هو انسحب بالفعل على مجمل عناصر بنيتنا، فلا أقول: لم يسلم الواقع الثقافي من انحسار الحس الاجتماعي والأخلاقي، بل صار مُنتجاً يومياً له، فصِرنا نسمع عن جوائز تُبذل لمتّهمين في أماناتهم، ولجان تحكيم تسند إلى أمثال هؤلاء، وروايات خاثرة تُدبَّج، وقصائد تكتب بقراءة أيِّ كتاب رأسياً، واتحادات محللة ومستحلة، وناشرين يفخرون أمام الملأ بأنهم لم يعطوا كاتباً مليماً. لن أربط ذلك بكارثة التحرير الاقتصادي فقط، الذي هو ذاته ناجم عن خللٍ ما في الشخصية السودانية، التي دهمتها الدولة الحديثة وهي في عنفوان رعويتها، فأزهقت قيمها الرعوية الإيجابية، كالحرية وقيم الفروسية، لتحوصلها في جرثومة الأنا السفلى، بل وصل التفتت الأنوي إلى شباب قصيدة الحرية والحب والصداقة – قصيدة النثر – وشهدنا مولد (برانا) من بعض معالجيها – أي قصيدة النثر – وبعد مرور ثلاث سنوات صار كل واحد منهم (براهو). ولظلمة خلفيَّة الواقع، بدا هذا الاسم بريئاً وأخلاقياً ومقبولاً.
ولما كان الراهن مهرجانيَّاً وإعلامياً بامتياز، تُوَّجت شاعرةٌ لم تملك صوتاً شعرياً بعد، خنساء هذه الجيرونيكا العبثية، وهذا ناتج عن التحوصل الأنوي والمؤسسي – إذا صح التعبير. والأشطن من ذلك، شطارة إحدى المؤسسات التي لعبت برمزنا الوطني والأدبي، وجعلت من صورته مبتذلاً دعائياً على هيئة صورة إعلان (شاي الشيخ الشرِّيب)، وكنت قد ناشدت تلك المؤسسة في مقال في أحد الملاحق الثقافية، وتدرَّج المقال حتى وصل مرحلة البروفة، فتكرم مدير التحرير بانتزاعه قبل ذهاب الصحيفة للمطبعة، مُزبداً: (تنشروا الكلام دا وحنجيب مرتبات من وين؟)! وانطبعت صورة هذا الرجل في ذهني إلى الآن، على هيئة البوستر الشهير للشمبانزي جالساً على مقعد المرحاض وهو يقشر إصبع الموز.
لنا أن نتساءل: هل تجرؤ هذه الجهة متعددة الجنسيات على أن تعبث بأحد رموز الدولة البترولية التي تملك أغلبية أسهمها؟
بل لنا أن نتساءل: إذا ما كانت هناك سابقة في العالم فيها مثل هذا الاختطاف لأي رمز ثقافي أو تاريخي؟ وحتى في جوارنا القريب، هل يمكن استثمار نجيب محفوظ على سبيل المثال بكل هذا الابتذال الإعلاني؟
إن الرعاية هي واجب على مثل هذه المؤسسات الرأسمالية تجاه محيطها الاستهلاكي، ولكن الرعاية ليست هي الهيمنة على هذا النحو من تكوين مجلس أمناء الجائزة واللجان التنفيذية وهيئة تحكيمها، واستثمارها الإعلاني على هذه الفسولة من الاستغلال الفاحش، بل كان يجب عليها رعاية إحدى المؤسسات الثقافية الرصينة، وتقوم بدعمها الذي يعني أن تكون هي من خلف تلك المؤسسة لا أمامها، حتى لا تُبتذل وتُنتهك شخصية من تُسمَّى الجائزة باسمه، ولكي تُقابل بكل ما يليق بجلال وهيبة رمزيته.
إن الأمل ضعيف، ولكنه موجود في تلك الساحات، التي لم تسقط في شروخ الزلازل. الأمل الآن في تجسير تلك الشروخ، وربطها على نحو معافى. وتبدو ومضات هنا وهناك، من بعض المبدعين ذوي الضمير والحس الأخلاقي. إن ارتباط هذه الفئة القليلة ببعضها وتآزرها للخروج من مركز العاصمة وإعلاء قيم الشرف والحرية والصداقة، يمكن أن يعيد دفء الحياة للجسد الثقافي المحتضر.
*هل تعتبر نفسك رائداً لقصيدة النثر في السودان؟
يبدو أن هذا السؤال قد ضلَّ طريقه إليّ، ولكن لا بأس من الإجابة عليه. تاريخياً، لقد كتبت عند منتصف الثمانينيات نص: (الخباز الإيراني يسخر من فأر ميت)، وبعدها بقليل كتبت: (نوستالجيا الاستقلال)، في وقت كانت تهيمن فيه روح محمود درويش متداخلةً مع أطلال نزار قباني على مساحات الشعر العربي من المحيط إلى الخليج، ولم يكُن هناك صوت لقصيدة النثر إلا صوت الماغوط النحيل الحاد والغريب. وإن النقد المتساهل كان يعد أدونيس من شعراء هذه القصيدة. وبعودتي إلى السودان، في أوائل التسعينيات، كان المناخ الشعري صدى للسائد العربي من أجواء درويشية بخاصة، ونزارية.
كان نص (نوستالجيا الاستقلال) ذا قصديَّة ومتحرِّراً، كما أنه ذو قطيعة واضحة مع النص التفعيلي. أعتقد أن نشر هذا النص كان له أثره، حيث اتَّجه إلى شعرنة ما لا يُشعرن (التاريخ على سبيل المثال)، وانتقل بعده جيل من الشباب كان يعاظل التفعيلة في شكوكية حول جدِّيتها في هذه المرحلة. ومن ناحية قصيدة النثر، فأنا زعيم بأني أول من دافعت عنها في السودان وجهدت في التنظير حولها.
*ماذا يقترح نصك؟
النصوص مشاريع بعدد أنفاس الشعراء. وهناك نقطة جديرة بالإشارة إليها، وهي أن الشعراء السودانيين مقلون، لأنهم لا يحوِّلون حالاتهم الشعرية إلى مقامات. ربما كان ذلك زهداً سودانياً.
*كيف ترى مستقبل الشعر؟
سيصبح حوار الناس في الشوارع شعريَّاً، ومشيهم سيصير (الباليه).. اللغة الفرنسية الآن تتجه نحو الشعر.. وأعتقد كذلك العربية.
*أنت أكثر الناس التصاقاً بالكتاب، ولم تنشر حتى الآن مجموعةً شعريةً أو كتاباً؟
النشر ليس مهمَّتي، وإذا لم يوجد ناشرون فهذه مسؤولية المجتمع. لديّ مجموعة شعرية واحدة (سكرتير الحقول) ولديّ 600 مقال عن الشعر. أعتقد أني دعمت اتجاهاً وحركةً أدت غرضها ونشرت عبر الصحف.
أنا أكره النظم جميعها من نظام المدرسة وحتى نظام المستشفى.. ومهمتي أن أبحث عن المجاز فقط. وأقول إن أزمة النشر هي أزمة اجتماعية، فالمجتمع الذي لا يوفر سبيلاً لحياته وعيشه هو مجتمع فاشل.
*ما الذي يقتل الشاعر؟
الشعر ذاته.. إن الأمم لا تلد عظماءها إلا مُجبرة كما قال بودلير.
*السخرية؟
السخرية رد فعل للألم، فهي تنبع من خداع الآخر الذي يظن أن الأشياء هي الأشياء. السخرية دفاع. وحقيقةً، العالم مثير للضحك.
*كيف ترى المشهد الشعري الآن؟
هذه هي مرحلة زئير وردة الشعر، وأعتقد أن ما يكتب الآن قد حقق نبوءتي التسعينية. ولديّ رأي بأن الشعر السوداني منذ التيجاني يوسف بشير كان يعاني فراغاً كاملاً من الشعرية، حتى ظهور كتابات قصيدة النثر التسعينية وفي الألفية الثالثة.
وعموماً، أعتقد أن التقدم قهري، والإنسان محكوم بالحرية والتطور مهما كان السقف العالي للمستبد، لكنَّه لا يستطيع أن يدخل جدرانك.
ورهاني في الحياة هو صداقتي مع البسطاء، فالعالم والمجتمع ثري جداً.. أرى نفسي مُحتجباً بالبسطاء عن الطبقة المدعية.. وربما كان لفترة الغجر تأثيرها عليّ.
*كيف يكون العالم بلا شعرية؟
جحيماً.
*جمهور الشعر؟
يقول أدونيس: (كلما كثرت جماهير الشاعر تدنَّى نصه) وهذا لديَّ مؤكد. فالجمهور دائماً ذو ذائقة متخلِّفة، وأقصد بالطبع الجمهور الذي لم يتربَّ شعرياً.
*متهم أنت بالتمرد على المؤسسة الثقافية؟
أنا متمرد على المجتمع البشري جميعه، هذا البشري وحشي. إن ما رُصِدَته البشريَّة في أبحاث الفضاء كان يمكن أن يجعلنا من حاضري الفردوس الأرضي. يقول الله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، ويقول المتصوفة: (آخر ما يُنزع من قلب العارف هو السلطة). وهناك أمر آخر يتعلق بالفنون الحديثة، وهو أن آلية تذوقها غامضة وغير محددة، ولذلك فهي غير قابلة للتدجين عبر أيِّ مؤسسة.
*الرواية والشعر؟
الرواية استصحبت الشعر، فأيُّ فنان ناجح هو بالضرورة شاعر ناجح، وهو القادر على التقاط البوطيقيا. فالعنصر السائد في العالم هو الشعرية.
والرواية تقدمت بانفتاحها على الشعر، وانفتحت على شعرية كل الفنون، حتى إنها صارت كاتدرائية للفنون، ولكن مع ذلك لا يستطيع جنس إزاحة آخر، وتتم لكلٍّ امتصاصات متبادلة.
* آخر مقطع؟
نعم يا سيدي،
أنا الذي يرعى الياسمين
الذي ينبت على الأرض التي تطأها قدماك.
من: المغيرة حسين، الأصمعي باشري، حاتم الكناني – فبراير ، مارس 2015
(نادي التجديف – حديقة البحيرة – سودان كافيه – أتينيه)
نشر من قبل بـ(مجلة البعيد)
Comments
Post a Comment