محمد بن طارق آل الرشيدي- صحفي تخرج في كلية الإعلام جامعة القاهرة.---سلمان العودة.. شيخٌ أغضب الملك كلما تحدث أو صمت
حكومات الخليج تقاتل الديمقراطية العربية، لأنها تخشى أن تأتي إلى هنا، انظروا إلى ما فعلوه في مصر بعد الانقلاب.. الحكومة السعودية تفقد أصدقاءها بتلك السياسات، وإذا استمر الوضع فسيفقد الملكُ شعبه. تصريح لسلمان العودة.
أوشك الشيخ النحيل صاحب الستين عامًا أن يبدأ أسبوعه الثاني داخل محبسه، ضمن حملة الاعتقالات الأخيرة التي طالته إثر تغريدة دعا فيها الله أن يؤلّف بين قلوب حكام المسلمين، بعد الاتصال الذي تم بوساطة أمريكيّة بين أمير قطر وولي العهد السعودي، لكنّ السلطات السعودية لم تكد تحتفل بفشل حراك 15 سبتمبر، حتى كشف المغرّد الشهير «مجتهد» أن الداعية سلمان العودة مُنع عنه الاتصال تمامًا، وأنّه بدأ إضرابًا مفتوحًا عن الطعام من أجل إطلاق سراحه، وهكذا عادت موجة الغضب ثانية على الإنترنت.
في مدينةٍ صغيرة غرب منطقة القصيم ولد طفلٌ مولعٌ بالشعر والأدب، يذكرُ عن نفسه أنه حفظ في صباه القصائد الشعرية المُطولة بداية من الشعر الجاهلي وصولًا إلى شعراء العصر الحديث، وهو الرصيدُ الذي سيظهر فيما بعدُ في فيديوهاته القصيرة التي يتابعها على تويتر وحده أكثر من 14 مليون متابع.
(مصدر الصورة: تويتر)
وفي المعهد العلمي في بريدة، حيث سيتتلمذ على يد الشيخين عبد العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين، واللذان يشار إليهما باعتبارهما من أقطاب عصره في العلم الشرعي اللذان وضعا قيودًا تعجيزية للخروج على الحاكم، كما أنَّهما هاجما الديمقراطية باعتبارها «نظامًا أرضيًا يعني حكم الشعب للشعب، وهو بذلك مخالف للإسلام»، لكن الشاب وقتها يبدو أنه لم يحذُ حذو شيخيه، إذ لمع اسم العودة الذي طالما أحب الظهور كأحد أهم رموز الصحوة الدينية، فقد كان ضمن المجموعة التي انتقدت الحكومة السعودية حين سمحت للقوات الأمريكية بدخول المملكة للدفاع عنها خلال حرب الخليج الثانية عام 1990، فيبنما أفتى ابن باز بجواز الاستعانة بالكفار – يقصد الولايات المتحدة – من أجل تحرير الكويت، اعترض سلمان العودة على أستاذه قائلًا: «ما يحدث في الخليج هو جزء من تصميم غربي أكبر للسيطرة على العالم العربي والإسلامي بأسره»، وكان التجرؤ على السُلطة الدينية والسياسية هو مجرد بداية لما سيحدث بعد ذلك.
التحوّل البطيء.. من الحديث في السُنة إلى معارضة الحاكم
كان سلمان بن فهد العودة جزءًا من التحولات السياسية التي مرت بها الممكلة في التسعينيات؛ فالشيخ الذي كان يمرّ بمرحلة عنفوان الشباب وقتها يحكي في لقاءٍ تلفزيوني كيف تبّدل دوره فجأة، فيقول: «كنتُ مُعيدًا في كلية أصول الدين في قسم السنة النبوية ألقي دروسًا في موضوعات علمية تقليدية مثل الأحلام والرؤى، والأسماء والصفات، والسُنة النبوية»، ثم يتوقف لحظة ويستأنف كأنه يُمهد للتحول: «انقلبت الأمور رأسًا على عقب بعد احتلال العراق للكويت، فالناس يريدون أن يسمعوا موضوعات ذات بُعد سياسي واجتماعي تعلق بمخاوفهم»؛ ومن هنا جاء الدور الجديد، إذ تحوَّلت الخطب المُسجلة عبر الشرائط إلى رسائل غضب سرعان ما انتشرت عبر أرجاء الممكلة – ويُشبه هذا كثيرًا ما حدث في الثورة الإيرانية عام 1979بتأثير الأشرطة -، إذ هاجم ممارسات قوات الأمن في إحدى خُطبه غاضبًا: «النقاش هو الحل الوحيد لكي نخرج من الظلام.. العنف سيؤدي إلى تعقيد المشكلة وسيجعل الناس أكثر جرأة»، وهو ما حدث بالفعل.
تولى العودة حملة توقيعات العلماء على بيان يرفض أن تطأ أقدام جنود أجانب أراضي شبه الجزيرة العربية، لكنّ رد فعل السلطات كان فقط استدعاءه للتحقيق؛ وفي يونيو (حزيران) عام 1992 كان العودة واحدًا من أبرز الموقعين على «مذكرة النصيحة» التي وجهها علماء وأساتذة جامعات للملك الراحل فهد بن عبد العزيز، وتضمنت المطالبة بإعادة أسلمة الدولة عن طريق مراجعة قوانين المملكة لضمان توافقها مع الشريعة الإسلامية، إضافة لوقف الاعتقال التعسفي، لكن التصعيد هذه المرة لم يمرّ مثل المرة الأولى، فبعد ثلاثة أشهر فقط، مُنع العودة من التدريس وإلقاء المحاضرات العامة، وبعد أقل من عام دخل السجن ليمكث فيه خمس سنوات دون محاكمة – وربما هذا يُفسر الأخبار المتداولة بإضرابه عن الطعام حاليًا خوفًا من تكرار التجربة التي أثرت فيه، بحسب قوله.
أحدث خبر اعتقال العودة صدمة لأتباعه الذين نظموا تمردًا في «البريدة» قبل أن تسيطر عليه قوات الأمن، لكنّ المفاجأة أن ضيق السجن سرعان ما أثر في الشيخ الذي أعلن أنه راجع أفكاره على يد عددٍ كبير من العلماء، وبعد خروجه فاجأ أتباعه في مقطع تليفزيوني تحت عنوان «نعم أتغير»، وبذلك سقطت الأفكار القديمة التي تدعو للجهاد، والفصل بين السلطة الدينة والسياسة، وعدم وجوب التعاون مع الولايات المتحدة بكل الفتاوى التي تعلقت بها، نافيًا أن يكون قد عقد صفقة «هدوء» مع السلطة، وبذلك عاد الشيخ إلى الحديث التقليدي مرة أخرى تحت مُسمى «الوسطية» في مقابل أحداث العنف التي شهدها العالم منذ مطلع الألفينيات، ولكن هل تغيّر فعلًا؟
2011.. الربيع العربي و«أسئلة الثورة»
يعترف سلمان العودة بأنَّه في البداية كان يرفض الظهور على الشاشات؛ لأنه لم يكن مُستعدًا لمواجهة المجتمع في ذلك الوقت لافتًا: «هذا هو الذنب الذي لا يُغتفر»، لكنّ السلطات سمحت له فيما بعد بالظهور في قناة «المجد» عام 2001؛ ثم انتقل إلى قناة «إم بي سي» على برنامج «حجر الزاوية» في عام 2004، واستمر به خمس سنوات، ثم ظهر على قناة روتانا الخليجية في برنامج «ميلاد»، قبل أن يبدأ برنامجه الجديد «الحياة كلمة» على قناة إم بي سي، وهو الذي أوقفتهالسلطات، بعدما أعلن العودة انحيازه لثورات الربيع العربي، وتأييده للشعوب التي خرجت على حكامها، ولأنّ المملكة السعودية ترفض مثل تلك الأفكار، لذلك قامت بإيقاف برنامجه، ومنعه من السفر.
لكنّ العودة عاد مرة أخرى إلى الهجوم على سياسات المملكة في إجهاض الثورات قائلًا: «حكومات الخليج تقاتل الديمقراطية العربية، لأنها تخشى أن تأتي إلى هنا، انظروا الى ما فعلوه في مصر، حيث أرسلوا مليارات الدولارات بعد.. هذا مشروع خليجي وليس مشروعًا مصريًا»، ثم أصدر كتابه «أسئلة الثورة»، والذي دخل في قائمة الحظر على الفور.
والكتاب المحظور في الرياض يحمل أسئلة جريئة لطالما هاجمتها المملكة عقودًا، فالعودة يقنع القارئ بأن الديمقراطية تعترف بعيوبها وبقدرتها على تصحيح نفسها، وهي بذلك أفضل من النظم الاستبدادية، وبالرغم من أنه يعترض على النظام الغربي، إلا أنه يرى أن الإسلام يقتبس الممارسات السياسية والتجربة الإنسانية دون أن نقع تحت طائلة الكفر، وهو بذلك يهاجم الفكر الوهابي الذي قامت عليه المملكة السعودية.
فكرة أخرى يهاجمها العودة، فهو يرى أن إجماع العلماء على أن الإمامة لا تخرج من قريش كان مسألة غير صحيحة افتقدت للحيادية، وهو بذلك يرفض حُكم الأسرة الواحدة بصورة غير مباشرة؛ وهو لا يكتفي بنقد الحكام، بل إنه يدعو إلى الثورة بصورة مباشرة: «التغيير، أيًا كانت صوره وأدواته، مغامرة تستحق أن تخاض للخروج من المستنقع الآسن، وهو إذا تم بأقل الطرق كلفة وأقلها خسارة فهو الأقرب إلى روح الشريعة بمبادئها العامة»، وفي تلك السطور مخالفة لسياسات السعودية التي حاربت ثورات الربيع العربي بالمال والسلاح.
كان قرار سجن سلمان العودة إعلاميًا لا يتفق مع شخصيته المحبة للظهور كما هو لافت، إذ نقل الشيخ كل نشاطه إلى الفضاء الإلكتروني الذي يُسميه «فضاء المُهمشين» بعيدًا عن قيود الإعلام وتبعية السُلطة، فهو الآن يمتلك بالإضافة إلى أعماله التجارية، 14 مليونًا عبر تويتر، وقرابة المليونين عبر الإنستجرام، وأكثر من 7 ملايين عبر فيسبوك، فعن طريق المقاطع الصغيرة يتفاعل مع جمهوره الذي يُشكل حاليًا شوكة في ظهر السُلطة.
حصار قطر.. ليس أول الخُذلان
في عام 2002 بينما استدعت السعودية سفيرها بالدوحة اعتراضًا على ما بثته قناة الجزيرة القطرية في أحد برامجها الذي تعرّض للسلطة، كان الشيخ سلمان العودة قد توجه إلى قطر للانضمام إلى الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يشغل فيه الآن منصب عضو مجلس الأمناء، ويشير إليه معارضوه إلى أنه يسعى لخلافة الشيخ يوسف القرضاوي في منصبه، وبالرغم من أنه ينفي إلا أنه لا يُخفي علاقاته الطيبة بجماعة الإخوان المُسلمين دون الانتماء إليهم، وتلك شهادة لم تشفع له عند آل سعود بعد ذلك خاصة أن الاتحاد أصدر فتوى مفادها أن «حصار قطر حرام شرعًا».
مرة أخرى قرر الملك سلمان عقب جلوسه على العرش أن يفتح صفحة جديدة مع الشيخ الثائر، فقرر في فبراير (شباط) من العام 2015 رفع اسمه من قائمة الممنوعين من السفر التي دخلها منذ عام 2011، وحين أعلنت السعودية بدء عاصفة الحزم ضد الحوثيين في اليمن، باركها الشيخ سلمان العودة واعتبرها موقفًا شجاعًا ومنتظرًا، لكنه عاد مرة أخرى بعدما طالت الحرب قائلًا: «ما الفائدة من إنفاق المليارات والخسائر البشرية دون نتيجة»، وكان هذا التصريح بمثابة الخروج عن الصف.
العودة أيضًا عارض حركة الجيش في مصر في عام 2013، وهاجم النظام المصري المدعوم من السعود في الوقت الذي تصف فيه المملكة السعودية حماس بأنها جماعة إرهابية، قامت الحركة بإرسال برقية تعزية للعودة في وفاة زوجته وأحد أبنائه في حادث مروري مطلع العام الحالي في رسالة جاء فيها: «نسأل المولى سبحانه وتعالى أن يتغمدهما بواسع رحمته، وأن يلهم شيخنا الفاضل الصبر والسلوان».
الحرب في سوريا أيضًا كان لها نصيبٌ كبير من تذمُّر الشيخ ضد سياسات المملكة، وهو أيضًا يرفض تكفير الشيعة تحت مُسمى أنه ليس من دعاة «التكفير»، وبسؤاله عن مدى رضاه عن سياسات بلده أجاب: «الحكومة السعودية تكره بشار الأسد. يكره تنظيم القاعدة؛ يكره بعض الجماعات السلفية؛ يكره الأكراد؛ ويكره المجموعات التي تتماشى مع قطر وتركيا. فما الذي يعجبك؟».
موقف العودة من أزمة حصار قطر كان آخر المحطات الفاصلة التيي يبدو أنها أغضبت الملك، فعقب قطع العلاقات بين الرياض والدوحة انضمت أبرز الشخصيات الإسلامية إلى آلة الحرب الإعلامية؛ فمفتي السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ أعلن أن القرارات التي اتخذتها بلاده فيها مصلحة للمسلمين؛ أيضًا إمام الحرم المكي، الشيخ عبد الرحمن السديس وصف أعداء بلاده بـ«بالفئة الضالة والجهات الإرهابية»، وبينما كان العودة يواجه انتقادات لعدم إطاعة ولي الأمر، إلا أنه اكتفى بالتجاهل حتى خرج عن صمته حينما تداولت وسائل الإعلام المكالمة الهاتفية بين أمير قطر الشيخ حمد بن تميم، وبين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فقد كتب العودة تغريدته على تويتر دعا فيها إلى تأليف القلوب في إشارة إلى الأزمة، وحتى الآن لم يصدر بيان رسمي بشأن اعتقاله.
#اعتقال_الشيخ_سلمان_العودة
عقب تداول أنباء عن احتجازه، تصدر هاشتاج اعتقال الشيخ سلمان العودة المرتبة الثانية عالميًا خلال ساعات، لكن المثير للجدل أن الـ50 ألف مشاركة التي حظي بها الشيخ، لم تكن فيها واحدة مؤيدة له من بين الرموز السعودية، بالرغم من أن العودة تعرّض للنقد أكثر من مرة نتيجة لانحيازه للشيوخ المغضوب عليهم، ولعل أبرز مثال ما حدث للشيخ العريفي في عام 2014، حين كتب تدوينة اعترض فيها على أسلوب النظام في الحج، وكانت سببًا في اعتقاله، لكن العودة غرّد قائلًا: «اللهم اكتب له فرجًا عاجلًا»، ولكن كيف كان رد الأخير خلال الأزمة الحالية؟
بعدما أعلنت رئاسة الأركان السعودية عن القبض على خلية تجسس استخباراتية تتعامل مع دول أجنبية، وهو الخبر الذي جاء بعد اعتقال العودة بأيام، علق المفتي العام قائلًا: احذروا دعاة السوء، أيضًا الشيخ العريفي غرّد تحت هاشتاج القبض على خلايا استخباراتية قائلًا: اللهم احفظ ولاة أمورنا. ليعتبره أنصار الشيخ هجومًا واضحًا على العودة بسبب تفسيرهم.
العودة أيضًا نال حملة هجومٍ على تويتر، عبر هاشتاج «#القايمة_السِوداء»، و«#الجيش_السلماني»، و«قايمه العار السعودقطريين»، إذ اعتبر البعض خبرَ اعتقاله انتصارًا للممكلة.
Comments
Post a Comment