البداية
يمشي الفقير وكل شيء ضده
والناس دونه تغلق أبوابها
متن
هو يومي الثالث في تركيا،
تحديدًا بإسطنبول الباردة بهذا الوقت من السنة
وشتاؤها الباهت لدرجة التجمد،
الكل استسلم لهذا البرد،
الطرقات شبه خاوية،
المدينة هادئة،
الأشجار سكنت أغصانها بلا حراك،
حتى المقاهي فقدت ضجيج روّادها
فلا شيء يصمد بوجه هذا الطقس القاسي،
أجول الطرقات لأملأ فراغ الوقت
غير مكترث بالعواقب
متحديًا نزلات البرد وما هو آتٍ
أتأمل المنازل والشبابيك
أنسج الخيالات حول أحداثٍ تجري خلفها
أرسم الشخوص.. وأكتب الحوارات
هو نوع من الجنون اعتدته
وعلى الرصيف رأيتهم
ثلاثة صغار يفترشون قطعة «كارتون»
والأم واضعة يدها على الخد
تحدق بالسماء
وحين فرغت من التمتمة.. أمسكت رأسها
ونظرت للأرض
بعيونٍ غائرة ووجه شاحب
ملامحها مألوفة
أكاد أعرفها
هي من تلك البلادٍ العربية
التي جار عليها الزمن ففرّ أهلها حيث الأمان
ولو كان على صفيح الأرصفة
رأتني ولم تلفظ بكلمة
لم تطلب العون ولا المساعدة
فمثلها يصوم عن الكلام لينطق التعب من تلك التجاعيد المبكرة
يا ترى.. ما الذي عجّل بها؟
ماذا رأت من الأهوال لتشيخ بريعان الشباب؟
طفلتها تسأل بلكنتها الشامية التي افتقدناها:
«جوعانه كتير ياماما»
فضمتها إلى حضنها وبدأت تُطبطب عليها
المشهد لا يوصف!
مؤلم حتى البكاء؟
وكأني بلسان حال الطفلة تقول:
هل هذه هي الحياة التي أنجبتِني من أجلها؟
ما ذنبي لأعيش كشيءٍ زائدٍ عن الحاجة؟
بلا غرفةٍ تؤويني
ولا دفترٍ أرسم عليه ملامح فارس أحلامي وأمنيات الصبايا؟
لماذا انتهت الحياة معنا باكرًا يا أمي؟
كم من العمر تبقّى لتعيشينه؟
ثم ماذا أفعل بهذا الفقر والجوع والبرد؟
بلا وطن.. ولا هوية.. ولا بيت
لا شيء سوى شفقة المحسنين!
هل مثلي يستحق أن ينتظر
ويترقب الخارجين من المطعم الذي نفترش رصيفه
ليُكرمنا بما بقي لم يأكلوه؟
اشتد البرد وعصفت الريح
أقبلت عليهم بما جادت به الدنيا
هذه التي لا تثبت على حال
طلبتها الانزواء بمكانٍ مغلق
ممرٍ ضيق
أو حائط
فردت بهدوء
«ما عليه يا بني.. اتعودنا»
كان هذا كفيلا بأن ينتهي كل شيء،
لا جدوى من الحديث مع من ليس لديه شيء يخسره
اضمحل الجمال
وشاب الشباب
وانكسرت النفس
مضيت إلى حيث أسكن
مضيت بعد أن خجلت من أحزان كثيرة آلمت نفسي
صفعتني الصدفة لأعرف قيمة ما أنا فيه
ربي حمدناك على كل النعم
وكم نحن مقصرون
ربي عوّضها بما هو خير،
عوّضها بسعادةٍ تُحلّق بها للسماء ثم تعيدها إلى الأرض
وارزقهم الحياة التي يستحقون
وآمنّا في أوطاننا
وأدم علينا نعمة الأمن يا رب العالمين
إضاءة
الإنسان الراضي بقدره لايعرف الخراب.
آخر السطر:
اي والله يافهيد ماكلين وشاربين ويا ربي لك الحمد
بقلم : دويع العجمي
Comments
Post a Comment