تُدهشني دائما، هذة القاصّة النيجيرية الجميلة، آديتشي
أو كما وصفها الروائي النيجيري:أشينو شيبي قائلا:
" عادة لا نقرن الحكمة بالمبتدئين، لكن ها هي كاتبة جديدة تمتلك مهارة رواة القصص القدامى، لقد جاءت آديتشي كاتبة مكتملة!."
ـــــــــــــــــــ
حل يوم السبت من عام 1984 . كنت ألعب مع شقيقي الصغير شينيشوكوو في موسم تفتح الأزهار، قرب خزان الماء في المجمع السكني الواسع في نسوكا : مدينة جامعية مغبرة و هادئة تقع في شرق نيجيريا حيث كنت أعيش.
وقفت الوالدة قرب الباب الخلفي و قالت : " Bianu kene mmadu" . هيا تعالا و ألقيا التحية على الزائر. كان خادم البيت الصغير قد وصل. و كان يجلس على الكنبة في غرفة المعيشة ، وكانت ساقاه تحضنان حقيبة من البلاستيك الأسود التي وضع فيها أشياءه الشخصية.
قال شينيشوكوو : " مساء الخير " ، و قلت :" Nno " ، أهلا.
لاحقا ، و بعد أن قادت الوالدة فيدي إلى حجرته ، في ديوان الصبيان القائم خلف البيت ، أخبرتنا تقول : " جاء فيدي من القرية و هو لم يشاهد في حياته الهاتف و لا فرن الطهي بالغاز. لنتكاتف جميعا و نساعده على الاستقرار باطمئنان ".
أمعنت النظر بفيدي و أنا مأخوذة به. خادمنا السابق ، الذي غادر في الأسبوع المنصرم بعد أن سرق بعض النقود من مكتب الوالد ، كان كما نعلم من المدينة ، و كان أحيانا يقوم بإصلاح الستيريو . و لكن فيدي لم يشاهد طوال عمره ثلاجة.
كان لونه غير قاتم ، و شفتاه سميكتين و عريضتين حتى أنهما احتلتا مساحة واسعة من وجهه. و هو يتكلم بلهجة الإيغبو الريفية التي لم تتأثر بالإنكليزية ، كما هي حالنا ، و كان يمضع الأرز و فمه مفتوح – بمقدورك أن ترى الأرز ، مطحونا مثل الحبوب القديمة ، إلى أن يبتلعه. و إذا رد على الهاتف ، يقول : " انتظر " كما علمناه ، و لكنه سرعان ما يرمي السماعة فوق الجهاز. و كان يغسل ثيابنا في أحواض معدنية ، ثم يكومها على الحبل المشدود بين شجرتي مانغا و جوافة في الباحة الخلفية. و هذا يستغرق منه ساعات طويلة. أول الأمر كانت الوالدة تعنفه بصوت مرتفع و تقول : " لا تقطع عملك لتتأمل السحالي التي تمر بك !" و لكن سرعان ما تتركه وحيدا حتى ينتهي.
جلست أنا و كينيشوكوو على السلالم بينما هو ينجز عمله. في المساءات الحارة حينما تكون الشمس بلون التوباز و هي تنعكس على زجاجيات المطبخ ، كان فيدي يقص علينا حكايات عن الطيور – حكايات شعبية فيها تحلق العصافير إلى عنان السماء و تطلب من الله المطر ، ثم يخبرنا بقصص عن الطبيعة و كيف تبني العصافير أعشاشها من الشعر الذي تجمعه من باحة كوخ الحلاق في القرية. قال : " بوسعي أن أقبض على بعض العصافير من أجلكما ". ثم ألقى على الأرض فتات الخبز بخط غير مستقيم بدأ من حاوية النفايات في الخارج ، و على طول السلالم التي تقود إلى البيت، و عبر الباب الخلفي ، حتى وسط المطبخ. و كمن خلف الباب. و لدى وصول العصافير إلى المطبخ ، أغلق الباب و اندفع وراءها. و ذات مرة ، حطم بعض الأواني ، و في مرة أخرى ، مزق شبكة البعوض الي تسد النافذة ، ثم بعد ذلك كسر زبدية. و لكنه كان دائما يلقي القبض على العصافير.
كان يضعها في علب كرتون مثقبة لنتسلى بها ، و كنا نطعمها الخبز و الغاري. ماتت الصافير بعد يوم أو إثنين. واحد منها استمر معنا أربعة أيام. و حينما مات أخيرا ، أمسك فيدي بالهيكل و الريش و قال ، على سبيل الفكاهة :
" إنه في السماء الآن ، و يتسول الخبز من الله ".
بعد سنوات ، و بعد أن توفي فيدي ، لا زلت أفكر بما يلي : "عصفور يبسط جناحه القوي و يسأل الله من أجل الخبز ".
و غالبا ما كانت الوالدة تشتم فيدي. كم هي مبدعة في إهاناتها بلغة الإيغبو. كانت تقول إذا استغرق في واجباته فترة طويلة :
" أنت كسول بدين ، nnukwu esu" و إذا نسي أداء عمل آخر طلبته منه ، تقول : " انظروا إليه ، ike akpi ، مؤخرته مثل قفا العقرب ". و لكن إذا كذب تقول :
" لتأكل الكلاب عينيك !" .
و كانت تطلب من فيدي أن يبدأ بطعام الغداء بعد العصر لأنه يهدر الوقت في تناوله - فالتهام عجينة الأرز وحدها تستغرق منه أربع ساعات كاملة. و لا تزال ذكرى أمسية في الذهن. كان فيدي عند منضدة فورميكا في المطبخ ، و يقشر حراشف سمك التلابيا بسكين . كان يقوم بالعمل ببطء متعمد – يقشر ، و يتنفس ، يقشر و يتنفس. و كانت هناك حراشف شفافة على ذقنه و على ذراعيه و على الأرض. قلت له :
" أنت تستغرق الدهر كله في هذه المهمة "
فقال فيدي :
" هذا يشبه تجهيز جثمان لجنازة . لا بد من متسع في الوقت لتأدية العمل كما يجب " ، كانت نكتة ، و أغرق بعدها بالضحك. و لكن ، بعد أن لاقى منيته ، خطرت لي الفكرة ذاتها أيضا. هذا صحيح.
انتسب فيدي لمدرسة خاصة ، أكاديمية السكرتاريا العالمية ، و هو اسم كبير لبناية صغيرة فيها أربع حجرات و آلة كاتبة لحق بها الصدأ ، و بعض الاختزالات. كتب فيدي بخط أسود بارز على كتبه ، تحت اسمه " فيدي أبوناي " ، الحروف التي يعتز بها : " U. S . A . ".
و حينما استعار أشقائي من أصدقائهم أشرطة مسجلة ، لأفلام أمريكية ، شاهدها فيدي معنا.
حينما كنا نستعير الكتب من المكتبة ، كان فيدي يمسكها و يحرك شفتيه. و عندما قام انقلاب عسكري في لاغوس البعيدة ، وضع والدي المذياع على طاولة الطعام و انضم إلينا فيدي بينما نحن مجتمعون حولها و أصاخ السمع لبيانات يتلوها أحدهم بالإنكليزية إنما بلهجة سكان شمال نيجيريا ، و كانت تقاطعها ألحان حزينة لعزف عسكري. وقع الانقلاب عام 1993 في يوم حار و عاصف. لقد أمسك الجنرال ساني أباتشا بزمام الحكم.
و حينما قال : " أبناء شعبي النيجيريين " ، كنا في غاية التأثر و البلادة.فالإعلان عن انقلاب عسكري يجعلك خاملا : بسبب عدم القدرة على الاختبار ، و غياب فرصة الاختيار أصلا ، و حقيقة أنك تتلقى الخبر من باب العلم بالشيء فقط ، و حتى لا تشعر بالدهشة عندما تشاهد صورة أخرى على جدران المطارات و المكاتب الحكومية. ثم لأنه ليس بمقدورك أن تفعل شيئا إزاء ذلك.
بالعادة " تبدأ حياة " ولد خادم أو بنت خادمة بعد أن تكون الفرصة قد سنحت له أو لها بقضاء فترة معقولة بصحبتك.
كان فيدي معنا لإثني عشر عاما. و عندما سأله والداي ماذا يرغب أن يفعل بعد أن يتركنا ،كانا يودان أن ينوي متابعة دراساته في قسم السكرتاريا. و لكن فيدي أعلن أنه يفكر بالانضمام للجيش ، و لقد فعل ذلك.
في أول الأمر كتب لنا رسائل حارة ، و أرسل لنا الصور و هو بثياب مبرقعة و بين يديه بندقية طويلة و براقة . كان يخامره شعور الاعتزاز بوطه ، و كتب كيف كان يلمعه بدهان الكيوي ، نفس الطريقة التي دهن بها الأحذية التي يلبسها الوالد أثناء محاضراته. كان خط يده بالكاد صالحا للقراءة ، و إنكليزيته مضحكة. قال :
" الجوع يقتلني " و كتب عن الحالة الوضيعة للثكنة. و كتب أيضا حول عدم دفع الرواتب. و بالتدريج ، تباطأت الرسائل. ثم في رسالة مستعجلة ، كتب أن من المحتمل أن يغادر إلى ليبيريا ، كجزء من الفوج النيجيري لحفظ السلام. كانت الحرب الأهلية تعصف هناك. كان الناس يسلخون من جلودهم و هم على قيد الحياة. هكذا ورد في رسالته. كان الناس يستدرجون إلى حتفهم .
قال الوالد :
" لا أظن أنه سيسافر إلى ليبيريا. و سوف يكون على ما يرام".
لم يذهب فيدي إلى ليبيريا. و بعد شهور ، وقع انقلاب عسكري في سيراليون. قرر الجنرال ساني أباتشا ، الذي يغتال النشطاء بشكل روتيني ، و الذي يغلق وسائل الإعلام بشكل روتيني ، و الذي يعتقل و يسجن المعارضة بشكل روتيني ، إرسال القوات المسلحة إلى هناك ، لاستعادة الديمقراطية.
و حينما أخبرني الوالدان أن فيدي مات – لقد انفجر به لغم أرضي في سيراليون ، في 3 أيلول ، 1997 – ألقيت نظرة ثاقبة عليهما ثم شرعت أبتسم لأنني توقعت أنهما مخطئان.
سألت :
" أي فيدي ؟". كأنني أعرف أكثر من فيدي واحد.
قالت الوالدة :
" فيدي الذي كان معنا ". و تلك الكلمات لم تغادر مخيلتي أبدا ، لأن اللوعة ضمتني ، و أدركت على الفور كم كانت تلك الكلمات بليغة. فيدي الذي كان معنا.
لقد كان فيدي مِنّا!"
ـــــــــــــــــــ
ـ من مقال تحت عنوان:
"الحياة في ظل الحرب"..سيراليون 1997.
لـِ القاصّة النيجيرية/ شيماماندا نجوزي إديتشي.
ـ ترجمة: صالح الرزوق.
أو كما وصفها الروائي النيجيري:أشينو شيبي قائلا:
" عادة لا نقرن الحكمة بالمبتدئين، لكن ها هي كاتبة جديدة تمتلك مهارة رواة القصص القدامى، لقد جاءت آديتشي كاتبة مكتملة!."
ـــــــــــــــــــ
حل يوم السبت من عام 1984 . كنت ألعب مع شقيقي الصغير شينيشوكوو في موسم تفتح الأزهار، قرب خزان الماء في المجمع السكني الواسع في نسوكا : مدينة جامعية مغبرة و هادئة تقع في شرق نيجيريا حيث كنت أعيش.
وقفت الوالدة قرب الباب الخلفي و قالت : " Bianu kene mmadu" . هيا تعالا و ألقيا التحية على الزائر. كان خادم البيت الصغير قد وصل. و كان يجلس على الكنبة في غرفة المعيشة ، وكانت ساقاه تحضنان حقيبة من البلاستيك الأسود التي وضع فيها أشياءه الشخصية.
قال شينيشوكوو : " مساء الخير " ، و قلت :" Nno " ، أهلا.
لاحقا ، و بعد أن قادت الوالدة فيدي إلى حجرته ، في ديوان الصبيان القائم خلف البيت ، أخبرتنا تقول : " جاء فيدي من القرية و هو لم يشاهد في حياته الهاتف و لا فرن الطهي بالغاز. لنتكاتف جميعا و نساعده على الاستقرار باطمئنان ".
أمعنت النظر بفيدي و أنا مأخوذة به. خادمنا السابق ، الذي غادر في الأسبوع المنصرم بعد أن سرق بعض النقود من مكتب الوالد ، كان كما نعلم من المدينة ، و كان أحيانا يقوم بإصلاح الستيريو . و لكن فيدي لم يشاهد طوال عمره ثلاجة.
كان لونه غير قاتم ، و شفتاه سميكتين و عريضتين حتى أنهما احتلتا مساحة واسعة من وجهه. و هو يتكلم بلهجة الإيغبو الريفية التي لم تتأثر بالإنكليزية ، كما هي حالنا ، و كان يمضع الأرز و فمه مفتوح – بمقدورك أن ترى الأرز ، مطحونا مثل الحبوب القديمة ، إلى أن يبتلعه. و إذا رد على الهاتف ، يقول : " انتظر " كما علمناه ، و لكنه سرعان ما يرمي السماعة فوق الجهاز. و كان يغسل ثيابنا في أحواض معدنية ، ثم يكومها على الحبل المشدود بين شجرتي مانغا و جوافة في الباحة الخلفية. و هذا يستغرق منه ساعات طويلة. أول الأمر كانت الوالدة تعنفه بصوت مرتفع و تقول : " لا تقطع عملك لتتأمل السحالي التي تمر بك !" و لكن سرعان ما تتركه وحيدا حتى ينتهي.
جلست أنا و كينيشوكوو على السلالم بينما هو ينجز عمله. في المساءات الحارة حينما تكون الشمس بلون التوباز و هي تنعكس على زجاجيات المطبخ ، كان فيدي يقص علينا حكايات عن الطيور – حكايات شعبية فيها تحلق العصافير إلى عنان السماء و تطلب من الله المطر ، ثم يخبرنا بقصص عن الطبيعة و كيف تبني العصافير أعشاشها من الشعر الذي تجمعه من باحة كوخ الحلاق في القرية. قال : " بوسعي أن أقبض على بعض العصافير من أجلكما ". ثم ألقى على الأرض فتات الخبز بخط غير مستقيم بدأ من حاوية النفايات في الخارج ، و على طول السلالم التي تقود إلى البيت، و عبر الباب الخلفي ، حتى وسط المطبخ. و كمن خلف الباب. و لدى وصول العصافير إلى المطبخ ، أغلق الباب و اندفع وراءها. و ذات مرة ، حطم بعض الأواني ، و في مرة أخرى ، مزق شبكة البعوض الي تسد النافذة ، ثم بعد ذلك كسر زبدية. و لكنه كان دائما يلقي القبض على العصافير.
كان يضعها في علب كرتون مثقبة لنتسلى بها ، و كنا نطعمها الخبز و الغاري. ماتت الصافير بعد يوم أو إثنين. واحد منها استمر معنا أربعة أيام. و حينما مات أخيرا ، أمسك فيدي بالهيكل و الريش و قال ، على سبيل الفكاهة :
" إنه في السماء الآن ، و يتسول الخبز من الله ".
بعد سنوات ، و بعد أن توفي فيدي ، لا زلت أفكر بما يلي : "عصفور يبسط جناحه القوي و يسأل الله من أجل الخبز ".
و غالبا ما كانت الوالدة تشتم فيدي. كم هي مبدعة في إهاناتها بلغة الإيغبو. كانت تقول إذا استغرق في واجباته فترة طويلة :
" أنت كسول بدين ، nnukwu esu" و إذا نسي أداء عمل آخر طلبته منه ، تقول : " انظروا إليه ، ike akpi ، مؤخرته مثل قفا العقرب ". و لكن إذا كذب تقول :
" لتأكل الكلاب عينيك !" .
و كانت تطلب من فيدي أن يبدأ بطعام الغداء بعد العصر لأنه يهدر الوقت في تناوله - فالتهام عجينة الأرز وحدها تستغرق منه أربع ساعات كاملة. و لا تزال ذكرى أمسية في الذهن. كان فيدي عند منضدة فورميكا في المطبخ ، و يقشر حراشف سمك التلابيا بسكين . كان يقوم بالعمل ببطء متعمد – يقشر ، و يتنفس ، يقشر و يتنفس. و كانت هناك حراشف شفافة على ذقنه و على ذراعيه و على الأرض. قلت له :
" أنت تستغرق الدهر كله في هذه المهمة "
فقال فيدي :
" هذا يشبه تجهيز جثمان لجنازة . لا بد من متسع في الوقت لتأدية العمل كما يجب " ، كانت نكتة ، و أغرق بعدها بالضحك. و لكن ، بعد أن لاقى منيته ، خطرت لي الفكرة ذاتها أيضا. هذا صحيح.
انتسب فيدي لمدرسة خاصة ، أكاديمية السكرتاريا العالمية ، و هو اسم كبير لبناية صغيرة فيها أربع حجرات و آلة كاتبة لحق بها الصدأ ، و بعض الاختزالات. كتب فيدي بخط أسود بارز على كتبه ، تحت اسمه " فيدي أبوناي " ، الحروف التي يعتز بها : " U. S . A . ".
و حينما استعار أشقائي من أصدقائهم أشرطة مسجلة ، لأفلام أمريكية ، شاهدها فيدي معنا.
حينما كنا نستعير الكتب من المكتبة ، كان فيدي يمسكها و يحرك شفتيه. و عندما قام انقلاب عسكري في لاغوس البعيدة ، وضع والدي المذياع على طاولة الطعام و انضم إلينا فيدي بينما نحن مجتمعون حولها و أصاخ السمع لبيانات يتلوها أحدهم بالإنكليزية إنما بلهجة سكان شمال نيجيريا ، و كانت تقاطعها ألحان حزينة لعزف عسكري. وقع الانقلاب عام 1993 في يوم حار و عاصف. لقد أمسك الجنرال ساني أباتشا بزمام الحكم.
و حينما قال : " أبناء شعبي النيجيريين " ، كنا في غاية التأثر و البلادة.فالإعلان عن انقلاب عسكري يجعلك خاملا : بسبب عدم القدرة على الاختبار ، و غياب فرصة الاختيار أصلا ، و حقيقة أنك تتلقى الخبر من باب العلم بالشيء فقط ، و حتى لا تشعر بالدهشة عندما تشاهد صورة أخرى على جدران المطارات و المكاتب الحكومية. ثم لأنه ليس بمقدورك أن تفعل شيئا إزاء ذلك.
بالعادة " تبدأ حياة " ولد خادم أو بنت خادمة بعد أن تكون الفرصة قد سنحت له أو لها بقضاء فترة معقولة بصحبتك.
كان فيدي معنا لإثني عشر عاما. و عندما سأله والداي ماذا يرغب أن يفعل بعد أن يتركنا ،كانا يودان أن ينوي متابعة دراساته في قسم السكرتاريا. و لكن فيدي أعلن أنه يفكر بالانضمام للجيش ، و لقد فعل ذلك.
في أول الأمر كتب لنا رسائل حارة ، و أرسل لنا الصور و هو بثياب مبرقعة و بين يديه بندقية طويلة و براقة . كان يخامره شعور الاعتزاز بوطه ، و كتب كيف كان يلمعه بدهان الكيوي ، نفس الطريقة التي دهن بها الأحذية التي يلبسها الوالد أثناء محاضراته. كان خط يده بالكاد صالحا للقراءة ، و إنكليزيته مضحكة. قال :
" الجوع يقتلني " و كتب عن الحالة الوضيعة للثكنة. و كتب أيضا حول عدم دفع الرواتب. و بالتدريج ، تباطأت الرسائل. ثم في رسالة مستعجلة ، كتب أن من المحتمل أن يغادر إلى ليبيريا ، كجزء من الفوج النيجيري لحفظ السلام. كانت الحرب الأهلية تعصف هناك. كان الناس يسلخون من جلودهم و هم على قيد الحياة. هكذا ورد في رسالته. كان الناس يستدرجون إلى حتفهم .
قال الوالد :
" لا أظن أنه سيسافر إلى ليبيريا. و سوف يكون على ما يرام".
لم يذهب فيدي إلى ليبيريا. و بعد شهور ، وقع انقلاب عسكري في سيراليون. قرر الجنرال ساني أباتشا ، الذي يغتال النشطاء بشكل روتيني ، و الذي يغلق وسائل الإعلام بشكل روتيني ، و الذي يعتقل و يسجن المعارضة بشكل روتيني ، إرسال القوات المسلحة إلى هناك ، لاستعادة الديمقراطية.
و حينما أخبرني الوالدان أن فيدي مات – لقد انفجر به لغم أرضي في سيراليون ، في 3 أيلول ، 1997 – ألقيت نظرة ثاقبة عليهما ثم شرعت أبتسم لأنني توقعت أنهما مخطئان.
سألت :
" أي فيدي ؟". كأنني أعرف أكثر من فيدي واحد.
قالت الوالدة :
" فيدي الذي كان معنا ". و تلك الكلمات لم تغادر مخيلتي أبدا ، لأن اللوعة ضمتني ، و أدركت على الفور كم كانت تلك الكلمات بليغة. فيدي الذي كان معنا.
لقد كان فيدي مِنّا!"
ـــــــــــــــــــ
ـ من مقال تحت عنوان:
"الحياة في ظل الحرب"..سيراليون 1997.
لـِ القاصّة النيجيرية/ شيماماندا نجوزي إديتشي.
ـ ترجمة: صالح الرزوق.
Comments
Post a Comment