الهولوكوست – توثيق تاريخي
الهولوكوست – توثيق تاريخيالفصل الأول: كراهية اليهود
لم تبدأ ظاهرة معادة السامية مع صعود هتلر والحزب النازي إلى الحكم، لكن لا شك في أنهما كانا المسؤولين عن دفع النظرية العرقية إلى الذروة، فكريا وعمليا
14 نوفمبر 2015, 13:0818
إثر اهتمام قرائنا وطلباتهم، قررت هيئة تحرير "المصدر" إطلاق مشروع مميّز، يحاول تزويد خلفية تاريخية حول "الهولوكوست" للقارئ العربي. ليس الأمر توثيقًا كاملًا أو أكاديميًّا، بل تقارير قصيرة وسهلة القراءة، تهدف إلى توفير معلومات أساسية جدًّا عن "الهولوكوست" - محرقة قُتل فيها ستة ملايين يهودي خلال الحرب العالمية الثانية.
نأمل أن توفر المقالات إجابات على الأسئلة الأساسية وأن تُشجع قراءنا، لا سيما الشباب من بينهم، على الخوض بعمق في الموضوع.نحن نولي اهتماما كبيرًا لهذا المشروع، وذلك على خلفية ظاهرة إنكار "الهولوكوست" المتفشية للأسف في العالم العربي أيضا. ستصف التقارير الأحداث وفق ترتيب زمني - بدءًا بجذور اللاسامية، وصولا إلى تنفيذ جريمة القتل ضد ستة ملايين يهودي، والتي أطلق عليها الألمان من باب التلطف: "الحل النهائي للمشكلة اليهودية".
جذور اللاسامية والأيديولوجية النازية
وراء كل عمل هناك فكرة. لا تبدأ جذور فكرة قتل ستة ملايين يهودي في الحرب العالمية الثانية بهتلر أو بالنظرية العرقية، بل يعود مصدرها إلى تعبير خاص عن العنصرية وكراهية الغرباء - اللاسامية. كانت كراهية اليهود التقليدية متجذرة في ألمانيا والبلدان الأوروبية على مدى أجيال كثيرة قبل "الهولوكوست". عانى اليهود من الكراهية والعداوة واتُّهموا بالنجاسة، الكفر، وكراهية الغريب، حتى قبل اعتناق المسيحية في العالم الأوروبي. بعد انتقال العالم الغربي إلى "المسيحية"، وعلى مر مئات السنين، تحوّلت كراهية اليهود إلى كراهية دينية قوية جدا تستند، من بين أمور أخرى، على نظرات نمطية روّجت لها الكنيسة، فريات دم، كراهية اقتصادية، وكراهية الغرباء. وُصفَ اليهود كقاتلي يسوع المسيح. ولأنّ معظمهم آثروا عدم تغيير دينهم، ولو دفعوا مقابل ذلك ثمنا باهظا، أمسَوا مكروهين وانعدمت الثقة بهم. في القرون الوسطى، حُظر على اليهود العمل في مهن كثيرة. نتيجة لذلك، عمل بعضهم كمرابين، ما زاد من البُغض لهم. على مر القرون، أُذلّ اليهود في أوروبا، طُردوا من مكان سكناهم، وعانوا من المجازر وفريات الدم، كما أُكرهوا على حمل علامات تعريف مميّزة لتصنيفهم عن بقية السكان، وعلى السكن في أحياء منفردة.
نهاية القرن التاسع عشر، ونتيجة تطورات مختلفة كالعلمنة، والتحرر، والمفاهيم "العلمية" ظاهرًا، تغيّر مصطلح اللاسامية، الذي استُخدم لوصف مقاومة اليهود على أساس الاعتقاد الديني المختلف، ليصف مقاومتهم على أساس آخر - العرق. أصبحت كراهية الدين اليهودي كراهية تجاه الشعب اليهودي.
بروتوكولات حكماء صهيون
إحدى الكتابات اللاسامية الأكثر شهرة هي "بروتوكولات حكماء صهيون"، التي نُشرت في صحيفة روسية عام 1903. من المؤكد أن الاسم معروف لدى القارئ العربي، إذ إنها مُترجَمة إلى العربية ومنشورة في الدول العربية، بتشجيع من السلطات، على مدى عقود. تصف البروتوكولات مؤامرة لعصابة يهودية سرية، تُدعى "حكماء صهيون"، للسيطرة على العالم عبر خلق النزاع بين الدول، الإفساد الأخلاقي، والسيطرة الاقتصادية. كان انتشارها وتأثيرها في أوروبا كبيرَين. غنيّ عن البيان أن الأمر ليس توثيقًا حقيقيًّا، بل لا يعدو كونه تزييفًا من قبل الشرطة السرية في روسيا لتسويد سمعة اليهود. عام 1937، أقرت محكمة سويسرية أن المستند لا أساس له من الصحة، غير أن هذه الحقيقة لم تمنع الملايين الذين شاهدوا البروتوكولات من الاعتقاد أنها صحيحة.
يهود ألمانيا قبل الحرب
في ثلاثينيات القرن العشرين، عاش في ألمانيا نحو 500,000 يهودي، كانوا يشكلون أقل من نسبة مئوية واحدة (0.8 في المئة) من إجمالي السكان. معظمهم رأوا أنفسهم وطنيين مخلصين، وذوي صلة من حيث اللغة والثقافة بنمط الحياة الألماني. تفوق الكثير منهم في العلوم، والأدب، والفنون، وكانوا مبادرين ناجحين في مجالات الاقتصاد المختلفة. كان 24 في المئة من الفائزين الألمان بجائزة نوبل من أصل يهودي. بالمقابل، دفعت عمليات تاريخية مثل تغيير الدين، والزواج المختلط (بين اليهود والمسيحيين) وانخفاض بالتكاثر الطبيعي، الكثيرين في ألمانيا وخارجها إلى الاعتقاد أنّ اليهود سيختفون كليًّا من ألمانيا.
للمزيد من المفارقة، نشأت الأيدولوجية النازية داخل ألمانيا تحديدًا، وبين الشعب الألماني الذي طمح اليهود إلى الاندماج فيه. توهّم الكثير من اليهود أنّ دورهم في مجالَي التجارة والصناعة، وإسهامهم في الاقتصاد الألماني، سيردعان النازيين عن إبعادهم كليًّا.
وصول النازيين على العرش
يعود سبب وصول هتلر والحزب النازي إلى سدة الحكم إلى أسباب اجتماعية وسياسية نشأت في ألمانيا في الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى. شعر الكثير من الألمان بالإحباط الشديد بسبب هزيمة ألمانيا في الحرب، وادّعوا أن "طعن سكين في ظهر الأمة" من قبل أعدائها هو سبب الهزيمة. كان اليهود عنوانا مركزيًّا لهذه التهم. كان هناك عنوان آخر وهو الديمقراطية: ادعى معارضو الانصياع لشروط الاستسلام التي حددتها معاهدة "فرساي" أن الديمقراطية لا تُلائم طبيعة ألمانيا، وكان هناك من قال إنّ الديمقراطية متأثرة باليهود. فُسرت شروط معاهدة فرساي للسلام وواجب دفع التعويضات المرتفعة للدول المنتصرة من قبل الألمان كانتقام من قبل المنتصرين.
أدى كل من الشعور بالإحباط والإذلال بعد الحرب، عدم الاستقرار الاقتصادي، والقلق من زيادة خطر الشيوعية، إلى ظهور مجموعات يمينية متطرفة، بينها الحزب النازي. أثارت الأزمة الاقتصادية العالمية، التي اندلعت عام 1929، الغليان والشعور باليأس.
عام 1919، انضم أدولف هتلر، الذي كان حينها جنديا مُسرّحا أُصيب في الحرب العالمية الأولى، إلى مجموعة هامشية تحوّلت لاحقا إلى الحزب القومي الاشتراكي. سرعان ما أضحى هتلر زعيما للحزب، ليبلور الأسس العنصرية والمعادية للسامية في برنامج عمله. عام 1923، كانت هناك محاولة لإحداث ثورة والسيطرة على الحكم في ميونيخ، ولكنها فشلت. سُجن هتلر وكتب أثناء وجوده في السجن كتابه المعروف "كفاحي" (Mein Kampf)، موضحًا فيه أفكاره حول النظرية العرقية وسيطرة النازية على العالم بأسره. وصف هتلر في الكتاب الذي نُشر في مجلدين، اليهود، كمَن يسعون إلى "تدنيس الجنس الآري".
استخدام الديمقراطية لإرساء الديكتاتورية
فهم هتلر أنّ عليه النضال من أجل الاستيلاء على الحكم بطرق شرعية وضعتها الديمقراطية تحت تصرفه، ولكنه ومعاونيه أعلنوا جهرًا أنّ الحرية الديمقراطية هي مجرد وسيلة يستخدمونها لبلوغ السلطة.
في انتخابات عامَي 1924 و1928 للرايخستاغ - البرلمان الألماني - حظي الحزب النازي بنسب ضئيلة فقط من أصوات الناخبين، حاصدًا أقلّ من 15 مقعدًا. أمّا في المعركة الانتخابية عام 1930، بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية، فقد أحرز النازيون بشكل مفاجئ 107 مقاعد. وبعد انتخابات تموز 1932 (مع 230 مقعدًا)، أصبح النازيون الكتلة الأكبر والقوة السياسية المُسيطرة. إذا، سيطر النازيون على الحكم بأسلوب ديمقراطي. ألقى الرئيس هيندنبورغ على هتلر مسؤولية تشكيل الحكومة، وبتاريخ 30 كانون الثاني عام 1933 وصل هتلر إلى سدة الحكم.
النظرية العرقية النازية وقوانين نيرنبرغ
كما ذُكر آنفًا، فيما كانت اللاسامية ترتكز في الماضي على الكراهية على أساس الدين أو القومية، نشأت في القرن العشرين الكراهية على أساس عِرقي. بكلمات أخرى، تجسدت اليهودية منذ هذه اللحظة بالمميّزات البيولوجية لليهودي. وفق المفهوم العِرقي، فإن الشعب الألماني هو الفرع المختار والأكثر طهارة للجِنس الآري - النوردي (إضافة إلى الشعوب النوردية - الإسكندينافية)، أمّا اليهود فهم عِرق فرعي يسعى دون كلل إلى تشويش النظام في العالم، ويحاول سلب العِرق الأسمى سيطرته وقيادته.
ادعت الأيديولوجية النازية أنه إذا لم ينتصر الجنس الآري ويبسط سيطرته على وجه الأرض، قد يقود اليهود البشرية إلى التضاؤل والانحلال. عام 1935، بعد صعود النازيين إلى سدة الحكم، تم تشريع "قوانين نيرنبرغ"، التي جعلت اليهود في ألمانيا مواطنين من الدرجة الثانية. يجري الحديث عن قانونَين أساسيَّين، أضيفت إليهما لاحقًا قوانين وأوامر أخرى. نصّ القانون الأول، "قانون المواطنة"، أنّ الألمان فقط أو ذوي "الدم الألماني" يمكنهم أن يكونوا مواطني الرايخ. شكّل هذا القانون الأساس لإخراج اليهود من كل مجالات الحياة في ألمانيا. وكان هناك قانون ثانٍ، "قانون حماية الدم والكرامة الألمانيَّين" الذي حظر، بين أمور أخرى، الزواج أو إقامة علاقات جنسية بين اليهود والألمان.
في الحقيقة، جعلت قوانين نيرنبرغ النظرية العرقية سياسة رسمية لألمانيا، مُشرِّعةً العنصرية. شكّلت القوانين تصعيدًا لخطوات معادية لليهود، اتُّخذت ضد يهود ألمانيا بعد صعود النازيين إلى الحكم، وكانت تهدف إلى عزل وإخراج اليهود من دوائر حياة الألمان.
Comments
Post a Comment