في الرسالة التي بعث بها “تشي غيفارا” إلى
أهله، مودِّعا، في العام 1966، كتب يقول: “كان ذلك منذ عشر سنوات تقريبا
عندما كتبت لكم رسالة وداع أخرى. وأذكر جيداً أني شكوت لأني لم أكن أفضل
جندي وأفضل طبيب. أما الطبيب فلا يهمني كثيرا، وأما الجندي فلست رديئا إلى
هذا الحد. لم يتبدل بي شيء بصورة أساسية، سوى أنني بت أكثر وعيا بكثير، وأن
ماركسيتي تعمقت وصفيت. أؤمن بالكفاح المسلح كحل وحيد للشعوب المكافحة في
سبيل التحرر، وأنا منسجم مع معتقداتي. سيعتبرني الكثيرون مغامرا، وإني
لكذلك. ولكني مغامر من نمط آخر: من أولئك الذين يخاطرون بجلدهم في سبيل
الدفاع عن الحقائق.
قد تكون هذه هي المرة الأخيرة، وأنا لا
أسعى إليها، وإنما هي في الحساب المنطقي للاحتمالات. وإذا كان الأمر كذلك
فأنا أقبِّلكم لآخر مرة(…)”.
بعذئذ، سوف ينتقل الرجل الذي سبق أن مارس
قناعاته تحت أكثر من سماء: في جبال السيرا ماسترا وسهول كوبا ومدنها، وفي
أدغال الكونغو ومجاهل أفريقيا السوداء، سوف ينتقل إلى غابات بوليفيا، حيث
سيمارس تلك القناعات للمرة الأخيرة. هناك، قاتل “تشي” مع رفاق له من بلدان
شتى في أميركا اللاتينية، قبل أن يلقى القبض عليه جريحا وقد نفذت ذخيرته،
فيُقتل بعد ساعات قليلة، بقرار من وكالة الاتخبارات المركزية الأميركية،
بالذات، نفَّذه طوعا قادة بوليفيا آنذاك. كان القتلة، مقررين ومنفذين،
يظنون أنهم ينهون أسطورة الرجل، ويقضون إلى الأبد على ما يمثله من تهديد
لمصالحهم، وقدرة على إطلاق سيرورة ثورية من شأنها أن تزعزع أكثر من نظام
تابع لواشنطن، سواء في القارة الأمريكية أو عبر العالم. وإذ كانوا يفعلون
ذلك، لم يكونوا يتعظون إطلاقا بدروس التاريخ، بحيث يفهمون أن موت مكافح
لأجل العدالة وكرامة الانسان لا يعني بتاتاً نهاية المُثُل التي قاتل
لأجلها أو الأحلام التي نذر نفسه لتحقيقها. أي بالضبط ما كان مضطرا لفهمه،
مع الوقت، من قتلوا إيميليانو زاباتا، وأوغستو ساندينو، وفارابوندو مارتي،
وروزا لوكسمبورغ وليون تروتسكي، ويكتشفه يوما بعد يوم قتله أرنستو تشي
غيفارا، الذي يحتفل الناس على امتداد أمريكا اللاتينية، وفي بوليفيا
بالذات، ولكن أيضا في بلدان عديدة أخرى عبر العالم، بالذكرى الثلاثين
لاستشهاده.
الرجل القدوة
لقد تحول الرجل إلى قدوة لكن الرافضين
للظلم والثائرين على الاستغلال والقهر، وإلى رمز مفعم بالحيوية والإشعاع
سوف يظل يقض مضاجع سادة هذا الزمن، طالما هم ينزلون بثقل أنظمتهم الدموية
الحاقدة على صدور المعذبين في كل مكان من الأرض. إن ذكرى الرجل تبدو الآن
أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من انتصار العولمة الرأسمالية ولو مؤقتا،
وهيمنة الليبرالية الجديدة، في السنوات الأخيرة، مليئة بالحياة في نفوس
الكثيرين، ولاسيما في أوساط الشبيبة. والمثال الذي قدمته حياته، وقدمه موته
أيضا، يزداد وهجاً وتألقاً في فكر هؤلاء ومخيلتهم، أناساً عاديين، وكتّابا
وفنانين، وعاملين في شتى حقول الإبداع، ناهيكم عن المقاتلين لأجل الحرية،
الذين لايزالون يحاولون، هنا وهناك، زعزعة أركان الوضع القائم. إن العالم
ينفذ على طريقته رغبة “تشي”، التي عبر عنها في الرسالة ذاتها الواردة
أعلاه، حيث يقول: “تذكروا من حين لآخر هذا القائد الصغير من القرن
العشرين”.
ذلك أن ما بقي من الرجل يتجاوز بالتأكيد
الرفات التي عثرت عليها بعثة كوبية في الصيف الماضي، قرب مطار ريو غرانداي،
وووريت أخيراً في ضريح أعدّه له رفاقه الكوبيون في مدينة سانتا كلارا،
التي شهدت في الأيام الأخيرة من عام 1958، انتصار قواته على جيش الطاغية
باتيستا، بحيث فتح ذلك الطريق أمام دخول المغاورين الملتحين إلى هافانا، مع
إطلالة عام 1959. إن ما يبقى منه فوق كل شيء هو صورة حياته كثائر دائم،
وكمثال بطولي للكفاح من أجل الإنسان وكرامته. ولكن كذلك الأفكار التي ناضل
تحت رايتها وستظل ملتصقة بذكراه طويلاً، وطويلا جدا.
نبذة من أفكاره
في المسيرة الطويلة، والمأسوية، لإنقاذ
الإنسان وإعادة الكرامة إليه، رأى غيفارا بوضوح أن السبيل إلى ذلك هو
النضال لأجل اشتراكيةٍ محرِّرة حقاً. وقد رد على القائلين ببنائها على
مراحل، بصيغته المشهورة:”إما ثورة اشتراكية أو مسخ ثورة”. وهكذا منذ
الخطوات الأولى في بناء المجتمع الجديد، لن تتنامى فقط المسافة بين فكر تشي
والنموذج الذي كان يبنى في الاتحاد السوفييتي السابق وأوربا الشرقية،
وبلدان أخرى زعم قادتها الانخراط في مسيرة بناء الاشتراكية، بل كذلك بين
فكره وتوجيهاتهم ونصائحهم بخصوص الثورة الاجتماعية، ولاسيما في العالم
الثالث، وسيرورة الانتقال إلى الاشتراكية. أليس هو القائل: “ينصحنا الروس
بأن نترك الزمن يمر، وبأن نتكتَّف، بينما نصر من جانبنا على مساعدة الزمن
بحيث يمر برشاقة أشد، عبر تسريع الثورة.
هاكم باختصار ما يفصل بعضنا عن البعض الآخر”.
ونحن نقول: ليس هذا فقط بل أشياء أخرى كثيرة كانت تفصله عنهم، بين أهمها:
- تصوره للماركسية كنظرية محررة بالمطلق للمجتمع والإنسان، وكطريقة خلاقة لفهم العالم وتغييره، وللشيوعية كأخلاق أممية، قبل أن تكون طريقة تنمية اقتصادية وتوزيعا للمداخيل والمكاسب المادية، وتصوره للماركسي كنقيض جذري للموظف والبيروقراطي، حيث أنه اعتبر أن عليه أن يكون أفضل الكائنات البشرية وأكملها، وأن يترجم إلى توجيهات ملموسة رغبات الجماهير، الغامضة أحيانا، وأن يكون عاملا عنيدا يقدم للثورة ساعات راحته، وأمنه الشخصي، وعائلته أو حياته، ولا يكون غريبا أبدا عن حرارة الاتصال الإنساني.
- اعتباره أن الحوافز المادية هي إرث الماضي الذي يجب أن يضمحل تدريجياً في المجتمع الجديد لصالح الحوافز المعنوية والأدبية. ورفضه الكلي للفهم الشائع الذي كان يزعم “الانتصار على الرأسمالية بأصنامها الخاصة بها”. يقول تشي: “إننا نخاطر بالوصول إلى باب مسدود، عبر مواصلة وهم تحقيق الاشتراكية بالأسلحة العفنة التي أورثتنا إياها الرأسمالية”، وبالتحديد السلعة كوحدة اقتصادية، والريعية، والمصلحة المادية الفردية، كحافز للإنتاج، إلخ…مع ما يلازم ذلك من أخطار استشراء اللامساواة الاجتماعية، وصعود شريحة من التكنوقراط والبيوقراطيين، أصحاب الامتيازات، المرتفعين فوق المجتمع والمنفصلين عنه.
- نقده الحاد للعلاقات التي كان يقيمها الاتحاد السوفييتي السابق مع بلدان العالم الثالث، ومن ضمن ذلك التبادل غير المتساوي، والتعامل على أساس قانون القيمة وأسعار السوق، معتبراً أن ذلك يجعل من البلدان الاشتراكية شريكا إلى حد ما في الاستثمار الإمبريالي، في حين يجب عليها لكي تكون اشتراكية حقاً أن تدفع ثمن تنمية البلدان المتخلفة، ناهيكم عن اعتباره أن الأسلحة لا يمكن أن تكون سلعاً في عالمنا، بل “يجب أن تقدَّم مجاناً، وبالكميات الضرورية والممكنة للشعوب التي تطلبها لاستعاملها ضد العدو المشترك”.
- اعتباره الكفاح المسلح “حلا وحيدا للشعوب المناضلة لأجل تحررها”. وقد وصل إلى هذا الاستنتاج من قراءة واقع العالم الذي عاش فيه بعد انتصار الثورة الكوبية وإزاء الهجوم الكولونيالي المعمم، ولا سيما الأميريكي منه، ضد إرادة تقرير لدى الأمم المتعرضة للإذلال والقهر. وانطلاقاً من تصوره هذا، توصل إلى رؤية الحاجة إلى تعميم الظاهرة الفيتنامية، كمدخل لإنهاك الوحش الإمبريالي وإجباره على التراجع وإلقاء السلاح، حيث يقول: “كم نستطيع أن ننظر إلى المستقبل القريب، الباهر، لو أن فيتنامين، أو ثلاثاً، أو أكثر، ازدهرت على سطح الكرة الأرضية، بنصيبها من القتلى والمآسي العظيمة، ببطولاتها اليومية وبضرباتها المتكررة إلى الامبريالية، التي تجبرها على بعثرة قواتها، تحت ضغط هجمات الكراهية المتزايدة من شعوب العالم”.
أكثر من ذلك، لم يجد غيفارا بُدّاً من
توجيه نقده الحاد لكل من الاتحاد السوفييتي والصين اللذين كانا ينخرطان في
صراع مرير في ما بينهما، فيما يتوجب عليهما تجاوز خلافاتهما والهرع معا
لنجدة الشعب الفيتنامي. يقول، مشبها تضامن العالم التقدمي مع ذلك الشعب
بالسخرية المرة، “المتمثلة في تشجيع عامة الشعب للمتبارزين في السيرك
الروماني”، إن الامبريالية مسؤولة عن جرائم كبيرة تمتد إلى العالم كله،
ولكن مجرمون أيضا أولئك الذين ترددوا ساعة في اتخاذ القرار بجعل الفيتنام
جزءا من الأراضي الاشتراكية التي لا تنتهك حرمتها(…) مجرمون هم أولئك الذين
يواصلون حرب الشتائم والشغزبيات، التي بدأها منذ زمن طويل ممثلو أقوى
دولتين في المعسكر الاشتراكي”.
- تطلعه إلى خلق الإنسان الجديد، الذي يتجاوز، بمُثُله وطريقة عيشه، وعلاقته بغيره من الناس، بغظ النظر عن الحدود، كلَّ الواقع البائس والفاسد للإنسان الحالي، في مجتمعات السلعة والمال.
يقول تشي: “لم نفهم في بلادنا إلى الآن
ضرورة خلق إنسان جديد لا يكون إنسان القرن التاسع عشر، ولا إنسان قرننا
المنحط والعفن. إنه إنسان القرن الواحد والعشرين ذلك الذي يجب ان نخلقه،
برغم أنه ما يزال مجرد طموح ذاتي وغير منتظم(…). تلك هي إحدى النقاط
الأساسية لدراستنا ولعملنا، وبمقدار ما نحصل على نجاحات ملموسة على قاعدة
نظرية (…) نكون قدمنا مجلوباً ثمينا للماركسية-اللينينية، ولقضية
الإنسانية”.
حياة ثائر وموته
لقد كانت حياة تشي صورة طبق الأصل عن
أفكاره، والعكس، وهذا هو السبب الأهم الذي يجعل الناس يشعرون إلى الآن
برعشة عميقة إزاء المثال الذي قدمه الرجل، سواء بحياته أو بموته. لقد سقطت
في السنوات الأخيرة بالكامل “شيوعية” الأنظمة البيروقراطية التسلطية التي
قامت في الإمبراطورية الروسية ودول أوربا الشرقية، وغيرها من البلدان التي
فشلت ثوراتها في بناء نموذج حقيقي ناصع وإنساني لاشتراكية محرِّرة. إلا أن
ما يبقى على الرغم من مزاعم “نهاية التاريخ” ومن السيطرة الأحادية
للإمبريالية الأميريكية، إنما هو ذلك المثال الشيوعي الحقيقي الذي جسّده
أرنستو تشي غيفارا، والذي يمكن أن نعتبر بحق أنه مثّل فعلاً “إنسان القرن
الواحد والعشرين”، كما حاول أن يحدد ملامحه، ولكن أيضا كما عاشه هو بالذات.
إن غيفارا المدافع عن مجتمع عن مجتمع تزول
فيه الامتيازات وتقوم مساواة حقيقية بين الناس، كان يحيا حياة تقشف
أسطورية ويفرضها على المقربين منه. يصف روكاردو روخو، في الكتاب الذي نشره
عام 1968، بعنوان: “تشي غيفارا، حياة صديق، وموته”، الاهتمام الذي “كان
يقارب الهوس لديه بألا يستمد من وضعه في الحكومة، إلا الحد الأدنى الذي
يتيح له العيش”. ويضيف: “فالبيت الذي كان يسكن فيه كان عاريا في الداخل،
على الرغم من الهدايا الكثيرة التي كان يتلقاها خلال تنقلاته عبر العالم.
فهذه الهدايا كان “تشي يسلمها لمراكز تكوين الشبيبة، من دون أن يفتحها.
وأمام المشهد المتقشف لبيته، لم يسعني الامتناع عن التفكير بغرفته في لاباز
التي تعرفت إليه فيها، والتي لم يكن يزينها غير مسمار مغروز في الحائط !”.
إن أرنستو تشي غيفارا، الأرجنتيني المولد،
الذي قاتل في مواقع شتى من العالم لأجل خلاص البشرية، كان قبل كل شيء
مناضلا أممياً، همُّه الأكبر تحرر الإنسان، إلى أي أمة انتمى، وفوق أي أرض
يكون. وإذا كان دعا للتضحية بالنفس لأجل هدف بهذا السمو، فلقد جعل من نفسه
قدوة ومثالاً. وعندما كان يقول: “ما قيمة الأخطار، أو تضحيات رجل أو شعب،
عندما يتعلق الأمر بمصير الإنسانية؟”، أو “إن عملنا كله صرخة حرب ضد
الإمبريالية، ونداءٌ مدوٍّ لوحدة الشعوب ضد العدو الكبير للجنس البشري،
الولايات المتحدة الأميركية الشمالية. ولايهمنا أين سيفاجئنا الموت، بل
نرحب به شريطة أن تُسمع صرختنا وتمتد يد أخرى لتقبض على سلاحنا، وأن ينهض
رجال آخرون لينشدوا الأناشيد الحزينة وسط قصف الرشاشات، ويصرخوا صرخات أخرى
للحرية والنصر”. عندما كان يقول ذلك، كان مستعداً دائماً لأن يقاتل في
الصفوف الأمامية، ويعرِّض نفسه للموت، كما حدث بالفعل، وكما كان يتوقع حقا،
حسبما يظهر بوضوح في الرسالة إلى أهله التي افتتحنا بها هذا المقال.
“لن أموت على سريري”، هذا ما قاله تشي
لصديقه ريكاردو روخو. وبالفعل فلقد مات على أراض تلك الغرفة الباردة في
بوليفيا، برصاص حراس الوضع القائم، بعد أحد عشر شهراً من التجوال المسلح في
هضاب البلد المذكور ووديانه ومنحدراته. وإذا كان فشل في جعل بوليفيا أختا
ثورية لكوبا، في مواجهة الدولة التي وصفها بالعدو الكبير للجنس البشري،
فلقد فشل قاتلوه، هو أيضا، في القضاء على تشي “كنجمة في سماء الرجاء
الشعبي، وجمرة متوقدة تحت رماد الخيبة، ونافذة مفتوحة على المستقبل”، وفقاً
لعبارات المفكر الفرني، ميكاييل لوي. ويبدو أن روحه الهائمة ستبقى تقض
مضاجعهم، طالما بقي الاستغلال والظلم، وامتهان الكرامة الإنسانية
والاضطهاد، عناوين رئيسية للحياة على هذا الكوكب.
كميل داغر
القسم الثامن من كتاب “ينبغي أن نحلم-نصوص في سياسة هذا العالم”، المعنون ب”أسماء”، ص.ص 365-371.
هذا المقال نشر لأول مرة في صحيفة “نداء الوطن”، 22/10/1997.
Comments
Post a Comment