Skip to main content

.. وماذا بعد الوصول إلى قاع المنحدر؟! -صبحي غندور*

د. صبحي غندور
.. وماذا بعد الوصول إلى قاع المنحدر؟!
صبحي غندور*
هناك من يعتقد أنّ العرب لم يصلوا بعدُ إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم
مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم. لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما
تشهده الآن بلاد العرب من حروب وصراعات وأفكار وممارسات سيكون ربّما هو ذاته، خلال
الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب داخل المجتمعات العربية، في
الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلّا بعد فقدانه،
والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.

هذه ليست مجرّد تمنيّات أو أحلام، بل هي خلاصة تجارب الأمّة العربية نفسها في
القرون الماضية، وهي أيضاً محصّلة تجارب شعوب أخرى، كالأوروبيين الذين خاضوا في
النصف الأول من القرن الماضي حربين عالمتين دمّرتا أوروبا وسقط نتيجتهما ضحايا
بالملايين، وكانت بين شعوب الدول الأوروبية صراعات قومية وإثنية وطائفية أكثر
بكثير ممّا تشهده الآن المجتمعات العربية. رغم ذلك، وحينما توفّرت الظروف
والقيادات والرؤى السليمة، طوت أوروبا صفحات الماضي المشين بينها واتّجهت نحو
التوحّد والتكامل بين شعوبها، متجاوزةً ما بينها من خلافات في المصالح والسياسات،
واختلافات في اللغات والثقافات والأعراق. 

أوروبا شهدت أيضاً في النصف الأول من القرن الماضي تجارب فكرية وحزبية سيّئة،
كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا، ودفعت القارّة الأوروبية كلّها ثمناً
باهظاً لسياسات هذه التجارب السيئة. لكن هذا "النموذج الأوروبي" في التقاتل
والتصارع أولاً، ثمّ في التكامل والتوحّد لاحقاً، احتاج طبعاً إلى مناخ سياسي
ديمقراطي داخلي، على مستوى الحكم والمجتمع معاً، ممّا سمح بحدوث التحوّل الكبير.
فالمسألة ليست فقط انتخابات وآليات للممارسة الديمقراطية الشكلية، لأنّها، إذا لم
تقترن بثقافة ديمقراطية سليمة داخل المجتمع نفسه، قد تزيد الأمور تعقيداً، كما جرى
في تجربتيْ ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.  

أيضاً، فإنّ مسألة الحرّيات في الولايات المتّحدة لم تنتعش وتزدهر في العقد السادس
من القرن الماضي إلّا بعد فترة "المكارثية" الظالمة في العقد الخامس. كذلك لم يصل
"الأميركيون الأفارقة" إلى حقوقهم المدنية إلّا بعد عقود طويلة من مواجهة
الممارسات العنصرية، ومن إحداث تغيير في ثقافة المجتمع الأميركي نفسه. فالدستور
الأميركي يساوي بين كل المواطنين، مهما كان لونهم أو عرقهم أو دينهم، لكن المجتمع
الأميركي لم يكن ناضجاً لتقبّل فكرة المساواة بين الناس كما نصّ عليها الدستور
والقوانين الأميركية. وفي هذا "النموذج الأميركي" دلالة كبيرة على أهمّية وأولوية
إحداث التغيير في المجتمع أولاً، وفي المفاهيم والتقاليد الخاطئة عند عامّة الناس،
وليس فقط بالحكومات وبالدساتير وبالنصوص القانونية. 

الأمّة العربية وأوطانها عطشى الآن لمثل هذه التحوّلات الفكرية والثقافية في
مجتمعاتها، وليس فقط لتغييرات شكلية في الحكومات والقوانين. لكن الأرتواء لا
يتحصّل بمجرّد الحاجة اليه، وإنّما بالجهد والسعي المتواصل بحثاً عن الماء، لا عن
سرابه، فيما يُشبه الصحراء القاحلة.  

وهناك في التراث الفكري العربي المعاصر ما فيه "خارطة طريق" من أجل الوصول إلى
ينابيع الفكر السليم والقدوة الحسنة من أجل بناء مجتمعات عربية صحّية، تستوعب
اختلافاتها وتنوّعاتها وتقبل وجود "الآخر" وحقوقه ودوره المشارك كمواطن في وطن
يقوم على مفهوم "المواطنة"، لا على مفاهيم "الأكثرية والأقلية".  

فأين العرب الآن من المكوّنات الأساسية لمجتمعاتهم، والتي تقوم على الفهم الصحيح
للأديان وعلى مزيج من الهويتين العربية والوطنية؟!. وأين العرب الآن من جوهر
الرسالات السماوية التي تدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة؟!. وأين العرب الآن من
العروبة التي تعني التكامل ورفض الانقسام، ومن الوطنية التي هي تجسيد لمعنى
المواطنة والوحدة الوطنية؟!.

إنّ غياب الفهم الصّحيح للدين والفقه المذهبي ولمسألة الهُوية وللعلاقة مع الآخر
أيّاً كان، هو المناخ المناسب لأيّ صراع طائفي أو مذهبي أو إثني يُحوّل ما هو
إيجابي قائم على الاختلاف والتّعدّد إلى عنفٍ دموي يُناقض مبادئ الرسالات السماوية
والفهم السليم للهُوية الثقافية العربية، ويحقّق غايات الطامحين للسيطرة على العرب
وعلى أرضهم ومقدّراتهم!.

إنّ العالم يشهد الآن حالة فوضى من الطروحات التي تتفاعل داخل كل مجتمع.. وهي
طروحات تشمل الدين والعلمانية، والقومية والعنصرية، والتكتّلات الاقتصادية
والانعزالية الجغرافية، لكن وسط هذه الفوضى الفكرية العالمية، فإنّ من المهمّ
الإشارة إلى نماذج عالمية معاصرة قد نستفيد نحن العرب من تجاربها:

*    التجربة اليابانية:  فاليابان خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمَّرةً
ومهزومة وعاشت تجربة استخدام السلاح النووي ضدّها - وهذا ما لم يحصل في أيّ مكانٍ
آخر بالعالم - ورغم ذلك استطاعت اليابان أن تخرج من تحت الأنقاض وتعيد بناء ذاتها
لتكون منافساً اقتصادياً هامّاً لمن أذلّها في الحرب العالمية الثانية.

      وفي هذه التجربة اليابانية، يبرز التمسّك الياباني بالبعد الحضاري الخاص،
والحرص على استيراد العلم والمعرفة التقنية، مع المحافظة على التراث الحضاري
القومي لليابانيين.

*    التجربة الألمانية:  حيث لم ييأس شعب ألمانيا من إمكانات وحدته ومن عوامل
تكوينه كأمَّة واحدة - رغم تقسيم ألمانيا لدولتين وبناء ثقافتين متناقضتين فيهما
لحوالي خمسين عاماً عقب الحرب العالمية الثانية – ورغم بناء حائط برلين الذي كان
رمزاً لانقسام العالم بين شرق شيوعي وغرب رأسمالي، فإذا بشعب ألمانيا يدمّر هذا
الحائط وواقع التقسيم في مطلع عقد التسعينات من القرن الماضي، ولم يقبل بالاستسلام
لتدمير عناصر وحدته القومية.

      وفي هذه التجربة الألمانية الفريدة، يبرز تمسّك الشعب الألماني بالبعد
القومي الخاص، والذي استطاع تجاوز كل عوامل التفرقة المصطنعة التي زرعتها القوى
الكبرى وسطه لنصف قرنٍ من الزمن.

*    تجربة جنوب إفريقيا:  وفي هذا النموذج الفريد أيضاً، تتّضح أهمّية القيادة
السليمة، وضرورة وضوح الهدف المركزي والإخلاص له، والإصرار على تحقيق الهدف وعلى
الأسلوب السليم من أجل الوصول إليه.

      فمن يرى في الأمَّة العربية، أمّةً متخلّفة، ليقارن مع جنوب إفريقيا التي
أعلن قائدها الراحل نيلسون مانديلا أمام الكونغرس الأميركي، أنّ نسبة الأمّية في
بلده تفوق الـ 70% من عدد السكان!

      ومن يرى في اختلاف العرب "وحروبهم القبلية" مانعاً لوحدتهم المستقبلية أو
لبناء مستقبل عربي أفضل، فليقارن أيضاً مع جنوب إفريقيا التي لم تكن فقط منقسمةً
بين سود وبيض، بل أيضاً بين قبائل سوداء متناحرة مع بعضها لعشرات السنين.

      ورغم كل عناصر الفرقة والتخلّف والأمّية في جنوب إفريقيا، فإنّ التمسّك
بالهدف والإصرار على تحقيقه من خلال وسائل سليمة وتحت قيادة مخلصة، أمكن دولة جنوب
إفريقيا من أن تتحرّر من نظامٍ عنصري بغيض، وأن تحافظ على وحدة المجتمع، وأوقِفت
الحروب الأهلية القبلية، وجرى بناء نظام اجتماعي ديمقراطي فيه حصّة لكلّ أبناء
المجتمع رغم تباين اللون والقبائل والمصالح!

***

      ففي هذه النماذج المختلفة من تجارب العالم المعاصر، ما يعزّز الأمل بإمكان
بناء مجتمع عربي أفضل، شرط الجمع بين حصيلة دروس هذه النماذح.  فالبعد الحضاري
الهام لدى العرب لن يكفي وحده لمعالجة الأزمات التي تعصف بالأمَّة الآن من كلّ
حدبٍ وصوب، ومن الداخل والخارج، فهذا البعد هو أساس هام للمنطلق ولبناء الأساس
الفكري والخلقي والقيمي لأي حركة إصلاح عربية.. لكنّه يحتاج إلى استكمالٍ بعناصر
أخرى، خاصّة في ظلّ واقع التجزئة والانقسام الممزوج بالتدخّل الأجنبي الواسع في
شؤون الأوطان العربية.

      ولن يكون للبعدين الحضاري والعروبي، أي إمكانية تغيير أو إصلاح في أحوال
أمَّة العرب، ما لم تتوفّر أيضاً القيادات المخلصة النزيهة التي تضع مصلحة شعبها
فوق مصالحها الخاصة، ومصالح أوطانها فوق مصالح أنظمتها ومنظّماتها، والتي تضحي
بنفسها في سبيل الهدف، وليس العكس!

      ولعلّ في كلّ هذه النماذج ودروسها ما يؤكّد الحاجة أيضاً إلى التمسّك بشعار
الحرّية وأبعاده المختلفة داخلياً وخارجياً: للأوطان وللشعوب في تحرّرها من سيطرة
الخارج.. للأفراد وللمجتمع.. للعلاقات بين الأفراد، والعلاقات بين الأوطان
والمجتمعات. فالحرّية، بمعناها الشامل، كانت وستبقى، الأساس لكل جوهر الأديان
السماوية، وللقيم الانسانية العامّة.. الحرّية التي تبقى عاجزة وناقصة إذا لم
تتلازم فيها مسألة التحرّر من سيطرة الخارج مع مسألة التحرّر من الاستبداد
الداخلي.. الحرّية، التي هي كالطير، بحاجة إلى تكامل جناحيْ الديمقراطية السياسية
والعدالة الاجتماعية، حتّى تستطيع التحليق عالياً..

        22-5-2018


*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن


·        لقراءة مقالات صبحي غندور عن مواضيع مختلفة، الرجاء الدخول الى هذا
الموقع: 


Comments

Popular posts from this blog

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on

Mona Farouk reveals scenes of "scandalous video"Egyptian actress Mona Farouk appeared on Monday in a video clip to discuss the details of the case she is currently facing. She recorded the first video and audio statements about the scandalous video that she brings together with Khaled Youssef.Farouk detonated several surprises, on the sidelines of her summons to the Egyptian prosecution, that Khalid Youssef was a friend of her father years ago, when she was a young age, and then collected a love relationship with him when she grew up, and married him in secret with the knowledge of her parents and her father and brother because his social status was not allowed to declare marriage .Muna Farouk revealed that the video was filmed in a drunken state. She and her colleague Shima al-Hajj said that on the same day the video was filmed, she was at odds with Shima, and Khaled Yusuf repaired them and then drank alcohol.She confirmed that Youssef was the one who filmed the clips whil...

الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي)-----------Khalid Babiker

• الجنس شعور فوضوي يتحكم في الذات والعقل . وله قوة ذاتية لا تتصالح إلا مع نفسها . هكذا قال أنصار المحلل الحلقة 20 هنادي المطلقة والمحلل (ماذا قال كتاب العرب في هنادي) أول طريق عبره الإنسان هو طريق الذكر . بعدها شهق وصرخ . تمرغ في الزيت المقدس . وجرب نشوة الأرغوس . عاجلا أم آجلا سيبحث عن هذا الطريق ( كالأسماك تعود إلى أرض ميلادها لتبيض وتموت ) . وسيعبره . سيعبره بحثا عن الديمومة . وسيشهق وسيضحك . لقد جاء إليه غريبا . سيظل بين جدرانه الدافئة غريبا . وحالما يدفع تلك الكائنات الحية الصغيرة المضطربة في الهاوية الملعونة سيخرج فقيرا مدحورا يشعر بخيانة ما ( ..... ) . لن ينسى الإنسان أبدا طريق الذكر الذي عبره في البدء . سيتذكره ليس بالذاكرة وإنما بالذكر . سيعود إليه بعد البلوغ أكثر شوقا وتولعا . ولن يدخل فيه بجميع بدنه كما فعل في تلك السنوات التي مضت وإنما سيدخل برأسه . بعد ذلك سيندفع غير مبال بالخطر والفضيحة والقانون والدين . الله هناك خلف الأشياء الصغيرة . خلف كل شهقة . كل صرخة مندفعا في الظلام كالثور في قاعة المسلخ . الله لا يوجد في الأشياء الكبيرة . في الشرانق . في المح . ينشق فمه . تن...

Trusting Liar (#5) Leave a reply

Trusting Liar (#5) Leave a reply Gertruida is the first to recover.  “Klasie… ?” “Ag drop the pretence, Gertruida. You all call me ‘Liar’ behind my back, so why stop now? Might as well be on the same page, yes?” Liar’s face is flushed with anger; the muscles in his thin neck prominently bulging. “That diamond belongs to me. Hand it over.” “What are you doing? Put away the gun…” “No! This…,” Liar sweeps his one hand towards the horizon, “…is my place.  Mine!   I earned it! And you…you have no right to be here!” “Listen, Liar, we’re not the enemy. Whoever is looking for you with the aeroplane and the chopper….well, it isn’t us. In fact, we were worried about you and that’s why we followed you. We’re here to help, man!” Vetfaan’s voice is pleading as he takes a step closer to the distraught man. “Now, put down the gun and let’s chat about all this.” Liar hesitates, taken aback after clearly being convinced that the group  had hostile intentions. “I…I’m ...