فلنحرر المقاومة اللاعنفية من قيود النخبوية الى فضاء الجماهير بقلم: رائد محمد دبعي باحث سياسي فلسطيني
فلنحرر المقاومة اللاعنفية من قيود النخبوية الى فضاء الجماهير
بقلم: رائد محمد دبعي
باحث سياسي فلسطيني
المقاومة فعل إنساني نبيل، وهي نقيض الضعف والسلبية والإنهزام، وهي عمل إبداعي ميز الله به الإنسان عن سائر المخلوقات، وهي واجب كل الشعوب التي تتعرض للظلم والعدوان، ولمحاولات سلب إرادة الإنسان والمجتمع، سواء كان ذلك السلب من قبل أقلية في المجتمع تمتطي صهوة السلطة، وتحتكر لنفسها ادعاء تمثيل إرادة المجتمع ، وقواه الحية، أم كانت قوى خارجية تتمثل بالإحتلال وقوى الشر والظلم والعدوان.
والمقاومة الشعبية اللاعنفية هي أسلوب مقاوم أثبت فعاليته عبر التاريخ، وأثبت أنه نهج فعال وذو نتائج مضمونة، فهو نهج الأنبياء في التغيير، فقد استطاع سيدنا موسى عليه السلام أن ينشر رسالته ويحرر شعبه من عبودية فرعون دون عنف أو اكراه، كما أن الوصايا العشر دعت جميعها إلى المحبة والسلام والإبتعاد عن العنف والظلم والابتذال، كما أن الديانة المسيحية وتعاليم السيد المسيح عليه السلام ترفض بشدة كل أشكال العنف، فقد ركزت تعاليم السيد المسيح في العهد الجديد على المحبة والتسامح وحرمت اللجوء إلى العنف، وهو الأمر الذي أكدته كتابات آباء الكنيسة ورموزها، إذ كتب أوريجانوس" لا يمكن أبدا أن يذبح المسيحيون أعدائهم، حتى لو كان أكثر الملوك والحكام والشعوب اضطهادًا لهم، وكان ذلك سببًا لزيادة في عدد وقوة المسيحيين " وكتب إكليمندس الإسكندري" قبل كل شيء، لا يسمح للمسيحيين في استعمال العنف"، وكذلك فان الدين الاسلامي هو دين المحبة والسلام إذ يقول المناضل اللاعنفي عبد الغفار خان " «ليس هناك ما يدعو للدهشة في مشاركة مسلم، أو أحد البشتون مثلي، في العمل على مبدأ اللاعنف. فهو ليس بالمبدأ الجديد. لقد اتبعه النبي صل الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً طيلة مدة وجوده في مكة.... لكننا بقينا إلى الآن ننسى هذا إلى درجة أنه عندما وضعه غاندي أمامنا ظننا أنه يحتضن مبدأ جديداً".
كما أن الديانات غير السماوية تحمل فكرا تحرريا وتؤمن بتحرر الانسان ، فالفكر البوذي على سبيل المثال يرسي قيم المحبة والتسامح والتحرر التام عبر الالتزام بمبادئ بوذا الذي يقول " إن الحرية أنواع وأولها التحرر من الأباطيل والأكاذيب البالية وأوسطها أن تصبح مقادير أنفسنا بأيدينا وآخرها أن نكون الإله نفسه " ، وكذلك الحال في الديانة الهندوسية والتي تتميز بتسامحها الشامل وانفتاحها العقائدي .
والمقاومة اللاعنفية هي مقاومة مثمرة، وذات تأثير كبير، إنتهجتها العديد من الشعوب التي قررت أن تتحرر من التبعية والإستعباد، لها جذور راسخة في عمق التاريخ، إبتداءا من أولى الحركات الإحتجاجية التي وثقتها الانسانية في عام 494 قبل الميلاد، حينما رفض العامة في الدولة الرومانية القديمة التعاون مع طبقة القناصلة الذين كانوا يحكمون في ذلك الوقت، وانسحابهم الى ما كان يعرف بالجبل المقدس لعدة أيام حتى تحققت مطالبهم، مرورا بتجربة الجيش الروماني عام 258 قبل الميلاد وانتهاجه لأساليب لا عنفية، أجبرت مجلس الشيوخ في ذلك الوقت على تبني عدد من الإصلاحات التي طالبت بها طبقة العامة، مرورا بتجارب العديد من الشعوب والفئات، لعل من أبرزها مقاومة الهولنديين للحكم الأسباني "1565 –1567 " ومقاومة المواطنين الأمريكيين للحكم البريطاني في الفترة السابقة لعام 1775، ومقاومة المواطنين المجريين للحكم النمساوي" 1850-1867" .
وقد سطر القرن العشرين الإنطلاقة الحقيقية للمقاومة اللاعنفية، إذ شكلت الثورة الروسية عام 1905 محطة هامة في سعي الشعوب نحو الحرية والمطالبة بحقوقها ، حينما استطاعت الطبقة العاملة في روسيا أن ترتقي لموقع الصدارة، وتنتزع إصلاحات، من خلال نضالها الشعبي، ومطالبها السلمية بإنشاء هيئة تشريعية منتخبة، وحرية كاملة للصحافة، وحرية الدين والمعتقد، كما كان لاستخدام النقابات في العديد من البلدان الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية أثر هام في تحسين أوضاعهم المعيشية، وانتزاع حقوقهم المشروعة، ّإذ قاطع الصينيون المنتجات اليابانية عام 1908،1915 ، 1919، كما أثمر النضال الشعبي اللاعنفي في المانيا ضد كاب بوتش " Kapp-Lüttwitz Putsch " عام 1920 عن إسقاط الإنقلاب العسكري وبزوغ نجم القوى الاشتراكية الديمقراطية في المانيا، بعدما كاد الإنقلاب أن يفرض أمرا واقعا في البلاد، كما أن نضال المعلمين النرويجيين هو الذي أفشل محاولات فرض تعليم الفكر النازي أبان الإحتلال النازي للنرويج، وكذلك في الدنمارك والسويد، كما استخدمه الألمان ضد الاحتلال الفرنسي والبلجيكي لمنطقة الرورRuhr " "، كما استخدمها التشيك والسلوفاكيين ونجحوا في ايقاف السيطرة السوفيييتية عامي 1969-1968 ، ونجحوا في ذلك لما يزيد عن ثمانية أشهر، كما استطاعت إرادة الشعوب ونضالها الشعبي إسقاط أنظمة مستبدة في بولندا والفلبين وجنوب افريقيا التي عانت سنوات من نظام التمييز العنصري.
فيما تعتبر التجربتان الهندية الغاندية ضد الاحتلال الانجليزي للهند، والتجربة اللوثرية في الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز التجارب اللاعنفية في النضال الشعبي ضد الظلم والقهر والعنصرية على مر العصور، فقد شكلت تجربة غاندي التي ابتدأت بحملة الملح أيقونة لكل مناصري النضال اللاعنفي في كل العالم، وكذلك القس الامريكي "مارتن لوثر كنج"، الذي قاد حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية ضد التمييز العنصري ضد الأمريكيين من أصول افريقية، ذاك النضال الذي لولاه لكان وجود رجل أمريكي من أصول افريقية مثل باراك اوباما على رأس الولايات المتحدة الامريكية لفترتين متتاليتين ضربا من الخيال والمستحيل، كما أن الصورة التي رسمتها الشعوب العربية في تونس، ومصر، واليمن، وإرادتها الحية لصناعة مستقبلها، والإنعتاق من نير التسلط والاستبداد، قد أضحى ربيعا يزهر في كل الدنيا ويعيد الإعتبار لصورة العربي ولمكانته بين شعوب الارض، تلك الصورة التي رسمتها سلمية الثورات، ورفعها لقيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والتي أثبتت ان الوعي العربي لا زال يقظا، وأن إرادة التغيير هي السلاح الحقيقي للثورات العربية ، وهي السبب الرئيسي التي جعلت منها أيقونة تتغنى بها كل الدنيا، فيما نرى تردد العالم والرأي العام أمام الثورات التي تحولت إلى صراع دموي بفعل عسكرتها كما نرى في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول .
ولشعبنا الفلسطيني جذور عميقة وتجربة راسخة في المقاومة الشعبية المثمرة، وفصولها لا تبدأ من الانتفاضة الأهلية عام1987، إنما يسبقها بما يربو على القرن من الزمن، فقد تيقظ الوعي الفلسطيني مبكرا للإطماع الصهيونية في فلسطين، مما حذى بخمسماية من أعيان مدينة القدس إلى توقيع عريضة احتجاج إلى السلطان العثماني عام 1891 جاء فيها " إن اليهود قد سلبوا الأراضي من المسلمين وبدؤوا تدريجيا بالسيطرة على كل التجارة المحلية وإحضار السلاح إلى فلسطين" تلتها رسالة أخرى من رئيس بلدية القدس يوسف الخالدي إلى الحاخام الأكبر لفرنسا" صادق كوهين " إحتجاجا على المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، واستمرت مسيرة نضال شعبنا الشعبي بأشكالها المختلفة من خلال تنظيم المؤتمرات الوطنية، وإعلان الإضراب والعصيان، وتقديم المذكرات والعرائض، والنضال الدبلوماسي من خلال التواصل مع ممثلي الدول الاجنبية في فلسطين، وإرسال وفود إلى مختلف دول العالم لشرح الموقف الفلسطيني من الهجرة اليهودية لفلسطين، كما انتهج أبناء شعبنا سلاح المقاطعة السياسية الذي أثمر إلغاء الإنتخابات التي حاولت سلطات الإحتلال بموجبها تشكيل مجلس تشريعي يعترف بشرعية الإنتداب عام 1922، وهو الأمر الذي فرض على قوات الإحتلال إلغاء تلك الإنتخابات، بعد أن بلغت نسبة المقاطعة 84%، كما انتهج شعبنا أسلوب المقاطعة الإقتصادية، والعصيان المدني، واللاتعاون مع سلطات الإنتداب وقراراته، كما شكلت ثورة شعبنا عام 1936 وإضرابه الكبير محطة هامة في مسيرة نضاله الشعبي، ومن الهام الاشارة إلى الدور المحوري والهام الذي لعبته المرأة الفلسطينية في هذا المجال من خلال مشاركتها الفاعلة والحقيقية في مسار المقاومة الشعبية ، وتعتبر الإنتفاضة الأهلية الفلسطينية عام 1987 من أبرز المحطات التي أعادت لشعبنا وقضيتنا العادلة مكانها الذي تستحق، من خلال حشدها للرأي العام العالمي، من خلال صورة الشعب الذي يتسلح بالإرادة وحقه بالحرية، مقابل جيش الإحتلال المدجج بالسلاح، الذي انتهج منذ اليوم الأول سياسة تكسير العظام ضد أطفالنا وشبابنا وأبناء شعبنا العزل .
إن ما تنظمه القوى الحية في المجتمع حاليا من أنشطة نضالية لا عنفية، تتمثل بمقاطعة بضائع الاحتلال، وتنظيم المسيرات الاسبوعية، وتوظيف وسائل الإعلام الإجتماعي، والشبكة العنكبوتية، وتأسيس القرى النضالية، التي كان اخرها قرية عين دجلة في الأغوار، والذهاب للأمم المتحدة، وعرض ما يجري من انتهاكات احتلالية، من خلال شبكات مناصري شعبنا الممتدة في كل بقاع الأرض، بالإضافة إلى نضال أسرانا في سجون الإحتلال المتمثل بالإضراب عن الطعام وصبرهم اليومي على ممارسات المحتل ، وسياسة اللاتعاون مع سلطات السجون الاحتلالية هو عمل إبداعي يستحق الثناء والتقدير، وهو إشارة هامة على أن شعبنا وأجياله الشابة بشكل خاص، لا يزال يمتلك إرادة الحياة، ولا زال يؤمن بحتمية الانتصار، والإنعتاق من ظلام الإحتلال إلى فضاء الحرية، لكنه يبقى جهدا ما زال يراوح حدود النخبوية، سواء كانت نخب سياسية أو ثقافية، ولا تزال هوامش المشاركة المجتمعية فيه محدودة، وهو الأمر الذي يعيد لأذهان شعبنا ما عانيناه قديما بسبب احتكار النخبة العائلية والإقتصادية للقرار السياسي في الوطن قبل نكبة شعبنا، وما الت اليه نتائج سوء الإدارة والتخطيط والرؤية الإستراتيجية أمام خصم يتمثل بالحركة الصهيونية، يعي جيدا ما يريد، وكيف يحقق ذلك مستخدما كل الموارد المتاحة، إذ أن المقاومة الشعبية السلمية تتطلب امتدادا جماهيريا واسعا، وصبرا، وايمانا، وتخطيطا، وبرامج إبداعية تقوم على مبدأ سلب المحتل مصدر قوته الأول وهو العنف المادي الذي يتفوق فيه، ويستطيع من خلاله تصوير مقاومة شعبنا بالصورة التي يريد، كما أن المقاومة الشعبية اللاعنفية تتطلب نفسا طويلا إذ يقول ثيودور روزاك " يجرِّب الناس اللاعنف لمدة أسبوع، وعندما لا "ينجح" يعودون إلى العنف، الذي لم ينجح لقرون"، كما أنه من الهام جدا توعية شعبنا الى أن المقاومة اللاعنفية هي نقيض السلبية والانهزام، وهي ضد الإستسلام والضعف والهوان، وبأنها مقاومة اثبتت نجاعتها مع العديد من الأمم والشعوب، وهذا يتطلب برنامجا توعويا يشارك في صياغته ونشره المؤسسات التعليمية، ودور العبادة، والأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، لكنه يتطلب قبل كل شيء الإجماع الوطني على ضرورة مقاومة المحتل، واستخدام أنجع الوسائل لذلك، من خلال قراءة عقلانية واعية، تخلو من ثقافة القبيلة وتحشيد عواطف الجماهير لتحقيق مكاسب سياسية، تقوم على تقييم تجربتنا السابقة منذ الإنتداب البريطاني حتى اليوم، ووضع برنامج وطني شامل يقوم على الفعل المقاوم، والمثمر، والذي يجعل من احلام الشهداء بوطن حر كريم حقيقة يحققها الأحياء .
بقلم: رائد محمد دبعي
باحث سياسي فلسطيني
المقاومة فعل إنساني نبيل، وهي نقيض الضعف والسلبية والإنهزام، وهي عمل إبداعي ميز الله به الإنسان عن سائر المخلوقات، وهي واجب كل الشعوب التي تتعرض للظلم والعدوان، ولمحاولات سلب إرادة الإنسان والمجتمع، سواء كان ذلك السلب من قبل أقلية في المجتمع تمتطي صهوة السلطة، وتحتكر لنفسها ادعاء تمثيل إرادة المجتمع ، وقواه الحية، أم كانت قوى خارجية تتمثل بالإحتلال وقوى الشر والظلم والعدوان.
والمقاومة الشعبية اللاعنفية هي أسلوب مقاوم أثبت فعاليته عبر التاريخ، وأثبت أنه نهج فعال وذو نتائج مضمونة، فهو نهج الأنبياء في التغيير، فقد استطاع سيدنا موسى عليه السلام أن ينشر رسالته ويحرر شعبه من عبودية فرعون دون عنف أو اكراه، كما أن الوصايا العشر دعت جميعها إلى المحبة والسلام والإبتعاد عن العنف والظلم والابتذال، كما أن الديانة المسيحية وتعاليم السيد المسيح عليه السلام ترفض بشدة كل أشكال العنف، فقد ركزت تعاليم السيد المسيح في العهد الجديد على المحبة والتسامح وحرمت اللجوء إلى العنف، وهو الأمر الذي أكدته كتابات آباء الكنيسة ورموزها، إذ كتب أوريجانوس" لا يمكن أبدا أن يذبح المسيحيون أعدائهم، حتى لو كان أكثر الملوك والحكام والشعوب اضطهادًا لهم، وكان ذلك سببًا لزيادة في عدد وقوة المسيحيين " وكتب إكليمندس الإسكندري" قبل كل شيء، لا يسمح للمسيحيين في استعمال العنف"، وكذلك فان الدين الاسلامي هو دين المحبة والسلام إذ يقول المناضل اللاعنفي عبد الغفار خان " «ليس هناك ما يدعو للدهشة في مشاركة مسلم، أو أحد البشتون مثلي، في العمل على مبدأ اللاعنف. فهو ليس بالمبدأ الجديد. لقد اتبعه النبي صل الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً طيلة مدة وجوده في مكة.... لكننا بقينا إلى الآن ننسى هذا إلى درجة أنه عندما وضعه غاندي أمامنا ظننا أنه يحتضن مبدأ جديداً".
كما أن الديانات غير السماوية تحمل فكرا تحرريا وتؤمن بتحرر الانسان ، فالفكر البوذي على سبيل المثال يرسي قيم المحبة والتسامح والتحرر التام عبر الالتزام بمبادئ بوذا الذي يقول " إن الحرية أنواع وأولها التحرر من الأباطيل والأكاذيب البالية وأوسطها أن تصبح مقادير أنفسنا بأيدينا وآخرها أن نكون الإله نفسه " ، وكذلك الحال في الديانة الهندوسية والتي تتميز بتسامحها الشامل وانفتاحها العقائدي .
والمقاومة اللاعنفية هي مقاومة مثمرة، وذات تأثير كبير، إنتهجتها العديد من الشعوب التي قررت أن تتحرر من التبعية والإستعباد، لها جذور راسخة في عمق التاريخ، إبتداءا من أولى الحركات الإحتجاجية التي وثقتها الانسانية في عام 494 قبل الميلاد، حينما رفض العامة في الدولة الرومانية القديمة التعاون مع طبقة القناصلة الذين كانوا يحكمون في ذلك الوقت، وانسحابهم الى ما كان يعرف بالجبل المقدس لعدة أيام حتى تحققت مطالبهم، مرورا بتجربة الجيش الروماني عام 258 قبل الميلاد وانتهاجه لأساليب لا عنفية، أجبرت مجلس الشيوخ في ذلك الوقت على تبني عدد من الإصلاحات التي طالبت بها طبقة العامة، مرورا بتجارب العديد من الشعوب والفئات، لعل من أبرزها مقاومة الهولنديين للحكم الأسباني "1565 –1567 " ومقاومة المواطنين الأمريكيين للحكم البريطاني في الفترة السابقة لعام 1775، ومقاومة المواطنين المجريين للحكم النمساوي" 1850-1867" .
وقد سطر القرن العشرين الإنطلاقة الحقيقية للمقاومة اللاعنفية، إذ شكلت الثورة الروسية عام 1905 محطة هامة في سعي الشعوب نحو الحرية والمطالبة بحقوقها ، حينما استطاعت الطبقة العاملة في روسيا أن ترتقي لموقع الصدارة، وتنتزع إصلاحات، من خلال نضالها الشعبي، ومطالبها السلمية بإنشاء هيئة تشريعية منتخبة، وحرية كاملة للصحافة، وحرية الدين والمعتقد، كما كان لاستخدام النقابات في العديد من البلدان الإضرابات والمقاطعة الاقتصادية أثر هام في تحسين أوضاعهم المعيشية، وانتزاع حقوقهم المشروعة، ّإذ قاطع الصينيون المنتجات اليابانية عام 1908،1915 ، 1919، كما أثمر النضال الشعبي اللاعنفي في المانيا ضد كاب بوتش " Kapp-Lüttwitz Putsch " عام 1920 عن إسقاط الإنقلاب العسكري وبزوغ نجم القوى الاشتراكية الديمقراطية في المانيا، بعدما كاد الإنقلاب أن يفرض أمرا واقعا في البلاد، كما أن نضال المعلمين النرويجيين هو الذي أفشل محاولات فرض تعليم الفكر النازي أبان الإحتلال النازي للنرويج، وكذلك في الدنمارك والسويد، كما استخدمه الألمان ضد الاحتلال الفرنسي والبلجيكي لمنطقة الرورRuhr " "، كما استخدمها التشيك والسلوفاكيين ونجحوا في ايقاف السيطرة السوفيييتية عامي 1969-1968 ، ونجحوا في ذلك لما يزيد عن ثمانية أشهر، كما استطاعت إرادة الشعوب ونضالها الشعبي إسقاط أنظمة مستبدة في بولندا والفلبين وجنوب افريقيا التي عانت سنوات من نظام التمييز العنصري.
فيما تعتبر التجربتان الهندية الغاندية ضد الاحتلال الانجليزي للهند، والتجربة اللوثرية في الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز التجارب اللاعنفية في النضال الشعبي ضد الظلم والقهر والعنصرية على مر العصور، فقد شكلت تجربة غاندي التي ابتدأت بحملة الملح أيقونة لكل مناصري النضال اللاعنفي في كل العالم، وكذلك القس الامريكي "مارتن لوثر كنج"، الذي قاد حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية ضد التمييز العنصري ضد الأمريكيين من أصول افريقية، ذاك النضال الذي لولاه لكان وجود رجل أمريكي من أصول افريقية مثل باراك اوباما على رأس الولايات المتحدة الامريكية لفترتين متتاليتين ضربا من الخيال والمستحيل، كما أن الصورة التي رسمتها الشعوب العربية في تونس، ومصر، واليمن، وإرادتها الحية لصناعة مستقبلها، والإنعتاق من نير التسلط والاستبداد، قد أضحى ربيعا يزهر في كل الدنيا ويعيد الإعتبار لصورة العربي ولمكانته بين شعوب الارض، تلك الصورة التي رسمتها سلمية الثورات، ورفعها لقيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والتي أثبتت ان الوعي العربي لا زال يقظا، وأن إرادة التغيير هي السلاح الحقيقي للثورات العربية ، وهي السبب الرئيسي التي جعلت منها أيقونة تتغنى بها كل الدنيا، فيما نرى تردد العالم والرأي العام أمام الثورات التي تحولت إلى صراع دموي بفعل عسكرتها كما نرى في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من الدول .
ولشعبنا الفلسطيني جذور عميقة وتجربة راسخة في المقاومة الشعبية المثمرة، وفصولها لا تبدأ من الانتفاضة الأهلية عام1987، إنما يسبقها بما يربو على القرن من الزمن، فقد تيقظ الوعي الفلسطيني مبكرا للإطماع الصهيونية في فلسطين، مما حذى بخمسماية من أعيان مدينة القدس إلى توقيع عريضة احتجاج إلى السلطان العثماني عام 1891 جاء فيها " إن اليهود قد سلبوا الأراضي من المسلمين وبدؤوا تدريجيا بالسيطرة على كل التجارة المحلية وإحضار السلاح إلى فلسطين" تلتها رسالة أخرى من رئيس بلدية القدس يوسف الخالدي إلى الحاخام الأكبر لفرنسا" صادق كوهين " إحتجاجا على المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897، واستمرت مسيرة نضال شعبنا الشعبي بأشكالها المختلفة من خلال تنظيم المؤتمرات الوطنية، وإعلان الإضراب والعصيان، وتقديم المذكرات والعرائض، والنضال الدبلوماسي من خلال التواصل مع ممثلي الدول الاجنبية في فلسطين، وإرسال وفود إلى مختلف دول العالم لشرح الموقف الفلسطيني من الهجرة اليهودية لفلسطين، كما انتهج أبناء شعبنا سلاح المقاطعة السياسية الذي أثمر إلغاء الإنتخابات التي حاولت سلطات الإحتلال بموجبها تشكيل مجلس تشريعي يعترف بشرعية الإنتداب عام 1922، وهو الأمر الذي فرض على قوات الإحتلال إلغاء تلك الإنتخابات، بعد أن بلغت نسبة المقاطعة 84%، كما انتهج شعبنا أسلوب المقاطعة الإقتصادية، والعصيان المدني، واللاتعاون مع سلطات الإنتداب وقراراته، كما شكلت ثورة شعبنا عام 1936 وإضرابه الكبير محطة هامة في مسيرة نضاله الشعبي، ومن الهام الاشارة إلى الدور المحوري والهام الذي لعبته المرأة الفلسطينية في هذا المجال من خلال مشاركتها الفاعلة والحقيقية في مسار المقاومة الشعبية ، وتعتبر الإنتفاضة الأهلية الفلسطينية عام 1987 من أبرز المحطات التي أعادت لشعبنا وقضيتنا العادلة مكانها الذي تستحق، من خلال حشدها للرأي العام العالمي، من خلال صورة الشعب الذي يتسلح بالإرادة وحقه بالحرية، مقابل جيش الإحتلال المدجج بالسلاح، الذي انتهج منذ اليوم الأول سياسة تكسير العظام ضد أطفالنا وشبابنا وأبناء شعبنا العزل .
إن ما تنظمه القوى الحية في المجتمع حاليا من أنشطة نضالية لا عنفية، تتمثل بمقاطعة بضائع الاحتلال، وتنظيم المسيرات الاسبوعية، وتوظيف وسائل الإعلام الإجتماعي، والشبكة العنكبوتية، وتأسيس القرى النضالية، التي كان اخرها قرية عين دجلة في الأغوار، والذهاب للأمم المتحدة، وعرض ما يجري من انتهاكات احتلالية، من خلال شبكات مناصري شعبنا الممتدة في كل بقاع الأرض، بالإضافة إلى نضال أسرانا في سجون الإحتلال المتمثل بالإضراب عن الطعام وصبرهم اليومي على ممارسات المحتل ، وسياسة اللاتعاون مع سلطات السجون الاحتلالية هو عمل إبداعي يستحق الثناء والتقدير، وهو إشارة هامة على أن شعبنا وأجياله الشابة بشكل خاص، لا يزال يمتلك إرادة الحياة، ولا زال يؤمن بحتمية الانتصار، والإنعتاق من ظلام الإحتلال إلى فضاء الحرية، لكنه يبقى جهدا ما زال يراوح حدود النخبوية، سواء كانت نخب سياسية أو ثقافية، ولا تزال هوامش المشاركة المجتمعية فيه محدودة، وهو الأمر الذي يعيد لأذهان شعبنا ما عانيناه قديما بسبب احتكار النخبة العائلية والإقتصادية للقرار السياسي في الوطن قبل نكبة شعبنا، وما الت اليه نتائج سوء الإدارة والتخطيط والرؤية الإستراتيجية أمام خصم يتمثل بالحركة الصهيونية، يعي جيدا ما يريد، وكيف يحقق ذلك مستخدما كل الموارد المتاحة، إذ أن المقاومة الشعبية السلمية تتطلب امتدادا جماهيريا واسعا، وصبرا، وايمانا، وتخطيطا، وبرامج إبداعية تقوم على مبدأ سلب المحتل مصدر قوته الأول وهو العنف المادي الذي يتفوق فيه، ويستطيع من خلاله تصوير مقاومة شعبنا بالصورة التي يريد، كما أن المقاومة الشعبية اللاعنفية تتطلب نفسا طويلا إذ يقول ثيودور روزاك " يجرِّب الناس اللاعنف لمدة أسبوع، وعندما لا "ينجح" يعودون إلى العنف، الذي لم ينجح لقرون"، كما أنه من الهام جدا توعية شعبنا الى أن المقاومة اللاعنفية هي نقيض السلبية والانهزام، وهي ضد الإستسلام والضعف والهوان، وبأنها مقاومة اثبتت نجاعتها مع العديد من الأمم والشعوب، وهذا يتطلب برنامجا توعويا يشارك في صياغته ونشره المؤسسات التعليمية، ودور العبادة، والأحزاب السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، لكنه يتطلب قبل كل شيء الإجماع الوطني على ضرورة مقاومة المحتل، واستخدام أنجع الوسائل لذلك، من خلال قراءة عقلانية واعية، تخلو من ثقافة القبيلة وتحشيد عواطف الجماهير لتحقيق مكاسب سياسية، تقوم على تقييم تجربتنا السابقة منذ الإنتداب البريطاني حتى اليوم، ووضع برنامج وطني شامل يقوم على الفعل المقاوم، والمثمر، والذي يجعل من احلام الشهداء بوطن حر كريم حقيقة يحققها الأحياء .
Comments
Post a Comment