ثورة 1924 بعيون يابانية
د. محمد سعيد القدال
..............................
د. محمد سعيد القدال
..............................
لم يخطر على بال ثوار 1924م ان حركتهم سوف تلقى اهتماماً من باحثين في اليابان، ذلك البلد القصي على ساحل المحيط الهادي، ولكن يبدو أن في تلك الحركة ما يثير اهتمام الباحث. فتصدت له اليابانية يوشيكو،
واختارت بعضاً من بحثها ودراسات أخرى جمعتها في كتاب بعنوان:
«علي عبد اللطيف وثورة 1924م: بحث في مصادر الثورة السودانية.
وتولى مركز الدراسات السودانية في القاهرة نشره في العام 1997م، وكُتبت له المقدمة التالية:
تعتبر الدكتورة يوشيكو كوريتا الباحثة اليابانية الوحيدة التي تعمقت بجهدها الاكاديمي في تاريخ السودان. بل لعلها تشمخ بين الباحثين السودانيين
والاجانب في هذا المضمار، وقد امضت سنوات في السودان جوَّدت فيها لغتها العربية مخاطبة وقراءة وكتابة.
والاجانب في هذا المضمار، وقد امضت سنوات في السودان جوَّدت فيها لغتها العربية مخاطبة وقراءة وكتابة.
وجاست بدأب بين الوثائق والكتب،واتصلت بالشخصيات ذات الوزن التاريخي مسجلة أحاديثهم بصبر وتؤدة، حتى إمتلكت ناصية بحثها الذي حصلت به على درجة الدكتوراة من جامعة
طوكيو في اليابان.
طوكيو في اليابان.
ويشتمل الكتاب على ثلاثة أبحاث للدكتورة كوريتا جمعتها في كتاب واحد لما يربط بينها من صلات متشابكة ولأنها تكمِّل بعضها البعض، فالبحث
الاول عن مفهوم الوطنية عند جماعة اللواء الابيض، والثاني عن دور العناصر الزنجية المنبتة قبلياً في المجتمع السوداني بين عشرينات واربعينات القرن العشرين والثالث عن حياة علي عبد اللطيف.
الاول عن مفهوم الوطنية عند جماعة اللواء الابيض، والثاني عن دور العناصر الزنجية المنبتة قبلياً في المجتمع السوداني بين عشرينات واربعينات القرن العشرين والثالث عن حياة علي عبد اللطيف.
توضح اتجاهات الدراسات الثلاث اهتمام الباحثة الذي انصب على ثورة 1924م وهي ثورة تثير الكثير من الجدل بين الباحثين لما اكتنفتها من ملابسات، ولما اعتراها من تناقضات، ولإحداثها العاصفة التي أضاءتوهنا ثم خمدت.
وتدرك الدكتورة كوريتا وعورة الدرب الذي ستسلكه عند تناولها لاحداث 1924م تناولاً مجرداً من الانفعال، فقالت إن تناولها قد «يجرح مشاعر
الناس الذين ما زالوا يعزون ذكرى هذه الحركة الوطنية.
الناس الذين ما زالوا يعزون ذكرى هذه الحركة الوطنية.
ولكن يجب أن نبدأ من إدراك تناقض الحركة الوطنية وليس فقط بتمجيدها اذا اردنا التفكير بجدية في مسألة الوطنية.
وامتد اهتمام الباحثة ليشمل العناصر الزنجية الذين اطلق عليهم البريطانيون العناصر الزنجية المنبتة قبلياً negriod but detribalised people وعرفوا تلك العناصر بأنهم الزنوج الذين تحرروا من الرق، والذين تعود جذورهم الى قبائل جنوب السودان وجبال النوبة،
ولكنهم استقروا في مجتمع شمال السودان بعد ان فقدوا جذورهم القبلية الاصلية من طول اغترابهم في الشمال، فلا روابط قبلية ولا تقاليد ولا مهن يركنون إليها، واحس البريطانيون أن جرثومة القومية السودانية موجودة بين تلك العناصر، بينما الإنتماء القبلي بين أهل الشمال يصطدم بشكل مباشر مع المشاعر القومية، ويقف حجر عثرة امامانصهار اهل السودان في بوتقة الامة.
لذلك كان البريطانيون يجلدون كل من يكتب في شهادة ميلاده انه سوداني حتى يرعوي عن ذلك الطيش ويثوب الى رشده.
وقد لعبت تلك العناصر ذات الاصل الزنجي دوراً قيادياً وبطولياً في أحداث 1924م، مثل علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ وزين العابدين عبد التام، مما شد من انتباه الدكتورة كوريتا اليهم.
ولكن اهتمامها لم يقتصر على ثورة 1924م، بل امتد لتقصي دورهم في المجتمع السوداني حتى ظهور الكتلة السوداء فى اربعينات القرن العشرين، وتواصل جهدها الى انفجار قضية الجنوب بشكلها
الدرامي المأساوي.
ولكن اهتمامها لم يقتصر على ثورة 1924م، بل امتد لتقصي دورهم في المجتمع السوداني حتى ظهور الكتلة السوداء فى اربعينات القرن العشرين، وتواصل جهدها الى انفجار قضية الجنوب بشكلها
الدرامي المأساوي.
إن الانتماء الى السودان والانصهار فيه لا يخلو من تعقيد، ففي العقد الثالث من القرن الثامن عشر برزت الكينونة السياسية للسودان الموحد.
وكانت تحمل في احشائها بعض مقومات الامة ومن بين العوامل التي دفعت بتلك الكينونة نحو الانصهار اختلاط الحواجز بين القبائل.
ثم جاءت الثورة المهدية «1881-1885م»، وأسهمت في عملية الانصهار، فقد كانت فكرة المهدي المنتظر هي التعبير الايديولوجي للنزوع نحوالانصهار، إذ وجدت القبيلة والطائفة والاقليم، مكاناً تستظل به.
ولكن إسهام الدولة المهدية في عملية الانصهار كان محدوداً، فالدعوات التي تنطلق من مواقع التعصب الديني دعوات ضيقة الافق، رغم انهامشحونة بعواطف جياشة تشكل مصدر إلهام لقطاعات واسعة، ولكن سرعان ما يخبو أوارها ويتلاشى بريقها عندما تصطدم بحقائق الواقع ومرارات التجربة وتعقيدات الحياة.
إن التعصب الديني يعوق عملية الإنصهار، لأن الانصهار يحتاج إلى درجةكبيرة من التسامح حتى يمضي رخاءً.
وعندما جاء الحكم البريطاني زاد من تفكك الروابط القبلية، ليس لانالبريطانيين كانوا يسعون إلى اضعاف تلك الروابط وهم الذين سعوا جاهدين فيما بعد لبعث المؤسسة القبلية لتلبي احتياجات الإدارة الاهلية، ولكن لان هيمنة الدولة المركزية وبروز السوق القومي وتسرب الاقتصاد السلعي النقدي إلى خلايا المجتمع، فرض واقعاً يعلو على الحواجز القبلية.
وألغى البريطانيون الرق في السودان. فبرزت العناصر «الزنجية المنبتة قبلياً». وهذه العناصر بجذورها الزنجية لها ثقلها في المجتمع السوداني. ولكن التعصب العرقي أدى الى مواجهة حاسمة وجريئة حتى تخرج القضية الى دائرة الضوء، بدلاً من التستر عليها إما استعلاء عليها أو استحياء منها.
وهذا ما اقدمت عليه الدكتورة كوريتا. فاخرجت القضية من هامشيتها الاجتماعية الى مركز الصراع الاجتماعي. ولن ينصهر السودان ليصبح أمة، ما لم يتلاش الحاجز الذي يطل من فوقه اهل الشمال على
العناصر الزنجية باعتبارهم عبيداً، بينما العبودية وضع اقتصادي اجتماعي وليست صفة عرقية ملازمة للعناصر الزنجية.
العناصر الزنجية باعتبارهم عبيداً، بينما العبودية وضع اقتصادي اجتماعي وليست صفة عرقية ملازمة للعناصر الزنجية.
وتناولت الدكتورة يوشيكا في بحثها الاول قضايا شائكة، ولكن بأسلوب يستحق الاشادة، رغم اننا لا نتفق مع بعض ما ذهبت إليه. ولكن الحياة الاكاديمية ازدهرت بسبب هذا التنوع في التناول، مع احترام الاداء الجيد الذي افرزه ذلك التنوع. ولم تنتعش الحياة الاكاديمية لأن الاجتهادات تنطبق على بعضها وقع الحافر على الحافر، وإلا غدت الجامعات
مؤسسات لتخريج الدعاة وليست مؤسسات لأفكار الاستنارة التي سطعت في سماء أوربا منذ القرن السادس عشر.
مؤسسات لتخريج الدعاة وليست مؤسسات لأفكار الاستنارة التي سطعت في سماء أوربا منذ القرن السادس عشر.
تحدثت الباحثة عن بروز تيارين بين دعاة الوطنية السودانية، الاول بقيادة الزعماء الدينيين زعماء القبائل، وهم الذين قوى البريطانيون من شوكتهم، فملكوا الأرض وارتبطوا بمشاريع القطن، وقالوا بتفويض السودانيين للبريطانيين للتحدث باسم السودان.
وقادت جمعية اللواءالأبيض التيار الثاني. ومن أجل فهم هذا التيار، ترى الباحثة ضرورة تحليل العلاقة بين جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الأبيض.
وناقشت الأسباب التي أدت الى انقسام جمعية الاتحاد السوداني، وبروز جمعية اللواء الأبيض، واختلاف وجهة نظر الجمعيتين بشأن وحدة وادي النيل. وخرجت من تناولها عن ما كان سائداً حول ذلك الخلاف.
وناقشت الأسباب التي أدت الى انقسام جمعية الاتحاد السوداني، وبروز جمعية اللواء الأبيض، واختلاف وجهة نظر الجمعيتين بشأن وحدة وادي النيل. وخرجت من تناولها عن ما كان سائداً حول ذلك الخلاف.
ثم تناولت مفهوم الوطنية عند علي عبد اللطيف. ولأنه من أصل غير شمالي، فقد كان حريصاً على أن تكون الأمة السودانية موحدة تضم أهل الشمال والجنوب. وترى أن هذا الفهم يطرح سؤالاً حول قبول علي عبد اللطيف في جمعية الاتحاد السوداني التي يقودها عبيد حاج الأمين.
وتناولت الدكتورة شعار وحدة وادي النيل وما يحمله من تعقيدات. وقد أشرتعلى تلك التعقيدات في كتابي «تاريخ السودان الحديث» (ص434- 435).
ولعل كثيراً من الباحثين لم يلتفت إلى دلالات اللون الأبيض الذي اتخذته الجمعية شعاراً لها في اسمها وعلمها. ولكن الدكتورة كوريتا تناولت أمر هذه الدلالة.
ثم تناولت تحليل وانشطة جمعية اللواء الابيض، وتمايزها عن الحركات الاخرى التي نشطت عند العام 1924. فقد كانت هناك تنظيمات اخرى في الساحة السياسية شاركت في الثورة بجانب اللواء الابيض.
ولم تلق تلك الجمعيات كثير اهتمام من الباحثين، لأن اللواء الابيض خطفت بريق اللحظة التاريخية.
ثم تناولت تحليل وانشطة جمعية اللواء الابيض، وتمايزها عن الحركات الاخرى التي نشطت عند العام 1924. فقد كانت هناك تنظيمات اخرى في الساحة السياسية شاركت في الثورة بجانب اللواء الابيض.
ولم تلق تلك الجمعيات كثير اهتمام من الباحثين، لأن اللواء الابيض خطفت بريق اللحظة التاريخية.
ويتناول البحث الثاني دور العناصر الزنجية المنبتة قبلياً في المجتمع السودانيخلال ربع قرن. وأبدت الدكتورة دهشتها من قلة الاهتمام الذي لقيته تلك العناصر في الدراسات السودانية الحديثة. وترى أن
دراسة تلك العناصر قد يكشف لنا جوانب مهمة من التغييرات التي ادخلها التحديث في السودان.
دراسة تلك العناصر قد يكشف لنا جوانب مهمة من التغييرات التي ادخلها التحديث في السودان.
ثم استعرضت جذور تلك العناصر في العهد التركي- المصري، الذي استرق مجموعات من العناصر الزنجية وكوَّن منهم الجهادية وبعد انتصارات الثورة المهدية تحول الجهادية الى صفوفها المقاتلة ولعبوا دوراً حاسماً في حروبها الداخلية والخارجية.
وظلت علاقة المهدية بالقبائل الزنجية غائمة وتأرجحت بين ما سميته «الانتماء والاغتراب». (راجع دراستي عن علاقة الدولة المهدية بجنوب
السودان في كتاب «الانتماء والاغتراب»).
السودان في كتاب «الانتماء والاغتراب»).
وبرزت تلك العناصر أكثر جلاءً في ظل الحكم الثنائى بعد أن ألغى الرق في السودان. ولكن لم يستطع ذلك الحكم أن يؤثر بفعالية على هامشية تلك
العناصر في المجتمع. كما أن البريطانيين كانوا مرتابين من الدور الذي يمكن أن تلعبه تلك العناصر مما قد يعكِّر صفو الأمن.
العناصر في المجتمع. كما أن البريطانيين كانوا مرتابين من الدور الذي يمكن أن تلعبه تلك العناصر مما قد يعكِّر صفو الأمن.
وقبيل استقلال السودان وجد التعبير السياسي لتلك العناصر آخر مظهر له في جمعية الوحدة السودانية (1942)، ثم خلفتها الكتلة السوداء (1948)
وتحولت تلك العناصر بعد ذلك لتصبح جزءاً من الطبقة الوسطى في المدن.
ومنذ بداية الخمسينات من القرن العشرين، انتهى دورهم كقوة مؤثرة سياسياً، وتحوَّل الصراع الى صراع بين الشمال والجنوب.
وتحولت تلك العناصر بعد ذلك لتصبح جزءاً من الطبقة الوسطى في المدن.
ومنذ بداية الخمسينات من القرن العشرين، انتهى دورهم كقوة مؤثرة سياسياً، وتحوَّل الصراع الى صراع بين الشمال والجنوب.
ونتناول في المقالة التالية البحث الثالث عن سيرة علي عبد اللطيف.
Comments
Post a Comment